الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أركان الحج
تنقسم الأفعال السابقة إلى أركان وواجبات ومستحبات، وهذا أوان ذكر أركان الحج التي دلَّ الدليل على ركنيتها، وما يتعلق بكل ركن منها من واجبات ومسنونات ومكروهات وغير ذلك.
وأركان الحج عند الجمهور أربعة (1): الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة.
الركن الأول: الإحرام:
تعريف الإحرام: الإحرام هو نية الحج أو العمرة من الميقات المعتبر شرعًا، وهو ركن من أركان الحج عند جمهور العلماء، وشرط لصحته عند الحنفية، قال الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2). وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (3).
أنواع الإحرام:
يُؤدىَّ الحج على كيفيات (أو أنساك) ثلاث:
1 -
الإفراد: وهو أن يهلَّ (أي ينوي) الحاجُّ بالحجِّ فقط عند إحرامه قائلاً: لبيك اللهم بحج، ثم يأتي بأعمال الحج وحده.
2 -
القران: وهو أن يهلَّ (ينوي) بالحج والعمرة معًا قائلاً: لبيك حجًّا وعمرة فيأتي بهما في نسك واحد، أو أن يدخل الحج على العمرة قبل الطواف.
وقال الجمهور: إنهما يتداخلان، فيطوف طوافًا واحدًا ويسعى سعيًا واحدًا، ويجزئه ذلك عن الحج والعمرة، وقال الحنفية: يطوف طوافين ويسعى سعيين والقارن يجب عليه أن ينحر هديًا بالإجماع كما سيأتي.
3 -
التمتع: وهو أن يهلَّ (ينوي) بالعمرة فقط في أشهر الحج، قائلاً: لبيك عمرة ويأتي مكة فيؤدي مناسك العمرة ويتحلل، ويمكث بمكة حلالاً، ثم يحرم بالحج ويأتي بأعماله، وذلك في العام نفسه.
ويجب على المتمع كذلك أن ينحر هديًا بالإجماع.
(1) وهه الأركان عند الشافعية ستة: هذه الأربعة، والحلق أو التقصير، والترتيب بين معظم الأركان، وعند الحنفية: للحج ركنان هما الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة.
(2)
سورة البينة: 5.
(3)
صحيح: وقد تقدم كثيرًا.
مشروعية الأنساك الثلاثة:
1 -
لا خلاففي أن الحج كان عند ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم به جائزًا بأنواعه الثلاثة المتقدمة، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنهم: منهم المتمتع، ومنهم القارن، ومنهم المفرد، لأنه صلى الله عليه وسلم خيَّرهم في ذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يهلَّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهلَّ، ومن أراد أن يهلَّ بعمرة فليهلَّ
…
» الحديث (1).
2 -
ثم نقلهم النبي صلى الله عليه وسلم -بعد هذا التخيير- إلى التمتع، دون أن يعزم عليهم: قالت عائشة: «
…
فنزلنا سرِف (2) فخرج إلى أصحابه فقال: «من لم يكن منكم أهدى، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا» قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه [ممن لم يكن معه هدي]
…
» (3).
وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى (ذي طوى) -موضع قريب من مكة- وبات بها- «فلما أصبح قال لهم: «من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة» (4).
3 -
ثم أمرهم -من كان لم يسق الهدي منهم- أن يفسخوا الحج إلى عمرة ويتحللوا، فعن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا مكة تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي فأحللن
…
» (5).
وفي رواية ابن عباس: «
…
فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقال: يا رسول الله، أي الحِلِّ؟ قال: الحل كله» (6).
قلت:
لأجل هذه المراحل المتقدمة اختلف أهل العلم في مشروعية الأنساك الثلاثة:
فذهب الجماهير من السلف والخلف إلى أن الأنساك الثلاثة: الإفراد والقران
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1211).
(2)
سرف: موضع قريب من التنعيم.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1560)، ومسلم (1211) والزيادة له.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1561)، ومسلم (1211).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1564)، ومسلم (1240).
والتمتع، كلها جائزة وأن الأمر فيها واسع، حتى إن بعضهم نقل الإجماع على ذلك (1)، ثم اختلف هؤلاء -بعد الاتفاق على المشروعية- في أي هذه الأنساك أفضل على ما سيأتي.
بينما ذهب بعض العلماء إلى وجوب التمتع على من لم يسق الهدي، وأنه إذا طاف وسعى فقد حلَّ شاء أم أبى، وهذا مذهب ابن عباس وأبي موسى الأشعري وبه قال أهل الظاهر وانتصر له ابن حزم ثم ابن القيم ببحثين ما تعين (2).
واستدلوا على ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى عمرة، وتحتيمه ذلك عليهم، وتعاظم ذلك عندهم مما يدل على أنهم فهموا من الأمر الإيجاب وغضبه صلى الله عليه وسلم لما تراخوا وراجعوه كما في حديث عائشة: «
…
فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون
…
» (3).
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به «ألعامنا هذا، أم لأبد الأبد؟» فشبَّك صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد» (4).
وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يناظر على هذه المسألة حتى يقول: «أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء» (5) لأن أبا بكر وعمر كانا يريان أن الإفراد أفضل من التمتع كما سيأتي.
وخلاصة هذا المذهب: «أن من أراد الحج وجاء إلى الميقات: فإن لم يكن معه هدي وجب عليه أن يحرم بعمرة مفردة ولابدَّ [يعني يكون متمتعًا] فإن أحرم بحج، أو بقران حج وعمرة، وجب عليه أن يفسخ إهلاله بعمرة يحل إذا أتمها، ثم يبتدئ الإهلال بالحج مفردًا من مكة.
(1) انظر «المجموع» (7/ 144)، و «المغنى» (3/ 276)، و «معالم السنن» للخطابي (2/ 301). وقال النووي في «شرح مسلم» بعد أن أورد خلاف بعض الصحابة في المسألة:«وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد والتمتع والقران من غير كراهة» اهـ.
(2)
راجع «المحلى» (7/ 99 وما بعدها)، و «زاد المعاد» (2/ 177 وما بعدها)، و «صفة حجة النبي» .
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1211)، وأحمد (6/ 175).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1218) وهو في السنن مختصرًا.
(5)
مسند أحمد (1/ 337)، و «الفقيه والمتفقه» (1/ 145)، و «جامع بيان العلم» (2/ 239).
وإن كان ساق الهدي فإنه يقرن فيقول: «لبيك بعمرة وحج معًا» (1).
أي الأنساك الثلاثة أفضل؟
وعلى قول الجماهير بجواز الأنساك الثلاثة، فقد اختلفوا في أفضلها على أقوال، وسبب هذا الخلاف: الخلاف في حج النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان مفردًا، أم قارنًا أم متمتعًا؟.
[1]
القول الأول: الإفراد أفضل: وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي وهو مروي عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم (2) وحجتهم ما يلي:
1 -
ما ثبت عن جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج» (3).
وفي رواية: «أهلَّ بالحج مفردًا» .
2 -
أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا عليه، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان، واختلف فعل علي.
3 -
أن عمر قال: «افصلوا حجكم عن عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم» (4).
4 -
وقال عثمان رضي الله عنه لما ذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: «إنه أتم للحج والعمرة ألا يكونا في شهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله تعالى قد وسع في الخير
…
» (5).
5 -
أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع وذلك لكماله بخلاف التمتع والقران.
6 -
أنه قد أجمعت الأمة -كذا قالوا؟!! - على جواز الإفراد من غير كراهة بخلاف التمتع والقران، فكان أولى.
[2]
القول الثاني: القران أفضل: وهذا مذهب الحنفية والثوري، ورواية عن أحمد -لمن ساق الهدي- وحجتهم:
(1) انظر «المحلى» (7/ 99).
(2)
«المدونة» (1/ 360)، و «الأم» (2/ 143)، و «المجموع» (7/ 145 وما بعدها).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211) عن عائشة وفيهما عن الباقين كذلك.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1217)، ومالك (778).
(5)
صحيح: أخرجه أحمد (1/ 92)، وابن جرير (2/ 207) بسند صحيح.
1 -
ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بحج وعمرة، كحديث أنس:«سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك عمرة وحجًّا» (1).
2 -
قول علي بن أبي طالب لما نهى عثمانُ عن المتعة [يعني هنا القران]: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال:«إني لا أستطيع أن أدعك» فلما رأى عليٌّ ذلك أهل بهما جميعًا (2).
3 -
أن على القارن دم، وليس دم جبران لأنه لم يفعل حرامًا بل دم عبادة، والعبادة المتعلقة بالبدن والمال أفضل من المختصة بالبدن.
4 -
أن القارن مسارع إلى العبادة فهو أفضل من تأخيرها.
5 -
أن القران تحصيل العمرة في زمن الحج، وهو أشرف.
[3]
القول الثالث: التمتع أفضل: وهو مذهب أحمد بن حنبل وأحد قولي الشافعي وهو مذهب أهل الظاهر وابن القيم، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وجماعة من السلف (3)، وحجتهم:
1 -
حديث عائشة قالت: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه» قال الزهري: مثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (4).
2 -
وعن عمران بن حصين قال: «تمتع النبي صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه» (5).
3 -
وعنأبي جمرة قال: تمتعت فنهاني ناس عن ذلك، فسألت ابن عباس فأمرني بها، فرأيت في المنام كأن رجلاً يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم» (6).
4 -
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة -كما تقدم- فنقلهم من الإفراد والقران إلى التمتع، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (4354)، ومسلم (1222).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1569)، ومسلم (1222).
(3)
«المغنى» (3/ 260)، و «المجموع» (7/ 150 - 152)، و «المحلى» (7/ 99)، و «زاد المعاد» (2/ 177).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1692)، ومسلم (1237) والظاهر أن التمتع هنا يراد به القرآن كما قال شيخ الإسلام.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري بمعناه (1572)، ومسلم (1226) واللفظ له.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1567)، ومسلم (1243).
5 -
حديث جابر قال: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردًا، فقال لهم:«حلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة» قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به» (1).
6 -
أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2). دون سائر الأنساك!
7 -
أن التمتع يجتمع فيه الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما ويسرهما.
8 -
أن قوله صلى الله عليه وسلم يقدم على فعله عند التعارض.
[4]
القول الرابع: التفصيل: وهواختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (3) وخلاصة كلامه، رحمه الله (4):
(أ) أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، فهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة هو إذاكان قد اعتمر قبل أشهر الحج. قال: وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر وكان يختاره للناس، وكذلك عليٌّ.
(ب) وأما إذا أراد أن يجمع بين النسكين (الحج والعمرة) بسفرة واحدة، وقدم إلى مكة في أشهر الحج، ولم يسق الهدي، فالتمتع أفضل له.
(جـ) وإذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة، ويسوق الهدي، فالقرآن أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قرن وساق الهدي.
ثم أيهما أفضل: أن يسوق الهدي ويقرن، أو أن يتمتع بلا سوق للهدي ويحل؟ قال: هذا موضع اجتهاد، لتعارض ما اختاره الله تعالى لنبيه مع ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومال رحمه الله إلى الأول.
قلت: وهذا تفصيل وجيه، وقد أعمل فيه ابن تيمية كل النصوص الواردة كلاًّ في موضعه، ثم جعل أفضل الأنواع بحسب الصعوبة والمشقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بنُسْكين وأصدر بنسك؟ فقال: «إذا
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1568)، ومسلم (1216).
(2)
سورة البقرة: 196.
(3)
«مجموع الفتاوى» (26/ 85 - 91).
(4)
«مجموع الفتاوى» (26/ 85 - 91).
طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتينا بمكان كدا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك» (1).
وكذلك جعل أفضل الأنواع بحسب سوق الهدي، وقد جاءت السنة بكل هذا.
وبذلك لم يقع فيما وقع فيه كثير من الفقهاء من الاضطراب بسبب التفضيل المطلق.
هذا، على أنه لا يخف في قوة قول من ذهب إلى تفضيل التمتع بل ووجوبه، فالله أعلم.
ليس لأهل الحرم إلا الإفراد (2):
قال الله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
…
} (3).
فأباح الله تعالى التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي: من لم يكن مسكنه في مكة أو الحرم -على الأصح- لأن التمتع شرع له أن لا يلم بأهله، والمكي ملم بأهله فلم يكن له ذلك، وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة، ويؤيده حديث ابن عباس الذ فيه «
…
ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله:{ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
…
» (4). قلت: مبنى هذا المذهب على أن قوله تعالى في الآية (ذلك) وقول ابن عباس في الحديث - (أنزله في كتابه وسنة نبيه) عائد على التمتع وهو الأظهر.
ويجوز أن يكن من حاضري المسجد، فإن كان فلا دم عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وانتصر له ابن حزم.
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1787)، ومسلم (1211).
(2)
انظر: «المجموع» (7/ 165 - 166)، و «فتح الباري» (3/ 508)، و «المحلى» (7/ 156).
(3)
سورة البقرة: 196.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1572).
هل يجوز إدخال الحج على العمرة (1):
إذا أحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، ثم بدا له أن يدخل عليها الحج فيصير قارنًا جاز له ذلك عند الجمهور (خلافًا للحنفية) بشرط أن يكون قبل الشروع في الطواف، فإن شرع فيه ولو بخطوة فلا يجوز إدخال الحج على العمرة.
ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما حاضت عائشة بسرف وهي محرمة بالعمرة أمرها أن تهلَّ بالحج وقال:«طوافك بالبيت وبالصفا والمروة، يسعك لعمرتك وحجك» (2) وهو دليل على أن أمره صلى الله عليه وسلم لها بالإهلال بالحج لم يكن إبطالاً لعمرتها.
لكن
…
لقائل أن يقول: إن الدليل إنما وقع في حاله تشبه الضرورة، لأن عائشة لا يمكن أن تكمل عمرتها وهي حائض، فيكون الدليل هنا أخص من المدلول، وهذا في النفس منه شيء، ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أحرم بالحج ولم يسق الهدي أن يجعله عمرة، فكيف نجعل العمرة حجًّا وهو خلاف ما أمر به؟!
هل يجوز إدخال العمرة على الحج؟ (3)
أما إذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، فذهب مالك، والشافعي في الجديد، وأحمد، أنه لا يصح ولا يصير قارنًا، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
وخالف أبو حنيفة فجوَّزه بناء على أصله: أن عمل القارن زيادة على عمل المفرد، فإذا أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة صار قارنًا ولزمه طوافان وسعيان.
قلت: وأنا أميل إلى قوله أبي حنيفة -لا لأجل ما بنى عليه- ولكن لحديث عائشة: «أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج» (4) مع حديث ابن عمر مرفوعًا: «أتاني آت من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (5) واختاره العلامة ابن عثيمين، طيب الله ثراه.
هل يصح إطلاق نية الإحرام؟
من أحرم إحرامًا مطلقًا من غير أن يعين نوعًا من هذه الأنواع الثلاثة لعدم
(1)«المجموع» (7/ 168)، و «الشرح الممتع» (7/ 94).
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1211).
(3)
«المجموع» (7/ 170)، و «المغنى» (3/ 512)، و «المبسوط» (4/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 88).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1562)، ومسلم (1211).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1534)، وأبو داود (1783)، وابن ماجه (2976).
علمه بها، أو أحرم كإحرام شخص يعرفه، فهذا جائز ويصح إحرامه عند جمهور العلماء -خلافًا للمالكية- لحديث أبو موسى «أن عليًّا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«كيف قلت حين أحرمت؟» قال على: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم (1).
لا يجوز مجاوزة الميقات بدون إحرام (2):
من مر بالميقات -وهو قاصد للحج أو العمرة- فلا يجوز له مجاوزة الميقات بغير إحرام إجماعًا.
فإن جاوزه ثم أحرم بعده فقد أثم بذلك، ولا يذهب عنه الإثم إلا أن يعود إلى الميقات فيحرم منه ثم يتم سائر نسكه، ولا دم عليه إن كان عاد إلى الميقات قبل التلبُّس بالنسك سواء كان ركنًا كالوقوف والسعي أو سنة كطواف القدوم، وهذا مذهب الشافعية والثوري وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور.
وقال مالك وابن المبارك وأحمد: لا يسقط عنه الدم بالعود، وقال أبو حنيفة: إن عاد ملبيًا سقط الدم وإلا فلا، وحكى ابن المنذر عن الحسن والنخعي أنه لا دم على المجاوز مطلقًا. والله أعلم.
فإن لم يَعُد فنسكه صحيح، ويلزمه دم عند الجمهور.
الإحرام قبل الميقات (3):
أجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه (أي قبله) وقال داود: لا يجوز الإحرام قبله ولا يصح إحرامه، وهو مردود عليه بإجماع من قبله، لكن يكره الإحرام قبل الميقات على الأصح، والله أعلم.
من مرَّ بميقاتين:
إذا مرَّ الشامي أو المصري بميقات أهل المدينة قبل الوصول إلى الجحفة (ميقاته الأصلي) فلا يجوز له أن يؤخر إحرامه، وعليه أن يحرم من ذي الحليفة عند الجمهور لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» (4).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1734)، ومسلم (1221).
(2)
انظر «المجموع» (7/ 212 - 215).
(3)
«المجموع» (7/ 205) بتصرف.
(4)
صحيح: تقدم في المواقيت قريبًا.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجب عليه، وأنه يجوز التأخير إلى ميقاته لأنه الأصل، واختاره شيخ الإسلام، والأول أحوط، والله أعلم.
اشتراط المحرم التحلل بعذر:
يجوز للمحرم أن يشترط -عند إحرامه- التحلل متى حبسه عن إتمام النسك شيء من مرض أو نحوه قائلاً: «اللهم محلى حيث حبستني» .
لحديث عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقال لها:«أردت الحج؟» قالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها:«حُجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» (1).
فإذا اشترط جاز له أن يتحلل من إحرامه إذا حبس ولا دم عليه.
أما إذا لم يشترط فإذا حبسه عارض لزمه دم لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2).
سنن الإحرام:
1 -
الغسل عند الإحرام: لحديث زيد بن ثابت أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل» (3).
وتغتسل المرأة وإن كانت حائضًا أو نفساء: ففي حديث جابر: «.. حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماءُ بنت عميس، محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي واستثفري (4) بثوب وأحرمي» (5).
2 -
التطيُّب على البدن قبل الإحرام: لحديث عائشة قالت: «كنت أُطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت» (6).
وكذلك تتطيَّب المرأة: لحديث عائشة قالت: «كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالسُّك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا» (7).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).
(2)
سورة البقرة: 196.
(3)
حسن: أخرجه الترمذي (831).
(4)
الاستثفار: هو أن تضع المرأة خرقة (فوطة) على محل الدم وتشدها على وسطها.
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (1218).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (1539)، ومسلم (1189).
(7)
صحيح: أخرجه أبو داود (1830)، والبيهقي (5/ 48).
قلت: فأما بعد الإحرام فلا يجوز استعمال الطيب بإجماع العلماء كما نقله النووي في «المجموع» (7/ 270).
3 -
أن يحرم الرجل في إزار ورداء أبيضين: فعن ابن عباس قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجَّل وادَّهن ولبس إزاره ورداءه هو أصحابه» (1).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (2).
أما المرأة: فإنها تلبس ما شاءت من الثياب، لكن لا تلبس النقاب ولا القفازين -كما سيأتي في المحظورات- ولا يختص لباسها بلون معين كالأبيض أو غيره- كما يعتقد كثير من النساء خصوصًا المصريات- فقد «كانت عائشة رضي الله عنها تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة» (3).
4 -
الصلاة في «وادي العقيق» لمن مرَّ به: وهو واد بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال (4) وقد قال عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (5).
5 -
الصلاة في مسجد ذي الحليفة لمن مرَّ به:
لحديث ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين» (6).
وفي حديث جابر: «فلما أتى ذا الحليفة صلى وهو صامت حتى أتى البيداء» (7).
تنبيه: أخذ الجمهور من حديث ابن عمر استحباب صلاة ركعتين لأجل الإحرام، فقال النووي في شرحه: «فيه استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الإحرام ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري: أنه استحب كونها بعد صلاة
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1545).
(2)
صحيح: أخرجه الترمذي (999)، وأبو داود (3860).
(3)
إسناده صحيح: عزاه ابن حجر في الفتح (3/ 405) إلى سعيد بن منصور وقال: إسناده صحيح.
(4)
«فتح الباري» (3/ 459) ط. السلفية.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1534) وغيره وقد تقدم.
(6)
صحيح: أخرجه مسلم (1184).
(7)
حسن: أخرجه النسائي (2756).
فرض، قال لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث» اهـ.
قلت: بل ظاهر الحديث استحباب الصلاة لأجل المسجد لا لأجل الإحرام، ويؤيد هذا حديث ابن السمط: أنه خرج مع عمر إلى ذي الحليفة فصلَّى ركعتين فسألته عن ذلك، فقال:«إنما أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1) فليس فيه ذكر الإحرام. وإنما الذي قد يؤخذ من الحديث ما يأتي بعده:
6 -
إيقاع نية الإحرام عقب صلاة فريضة أو نافلة:
فالأفضل أن يكون الإحرام عقب أداء فريضة أو نافلة لسبب مشروع، للأحاديث السابقة، ويؤيد هذا أيضًا أنه في حديث ابن عباس:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة ..... فلما قعد عليها واستوت على البيداء أهلَّ بالحج» (2).
قلت: فالأظهر أن الصلاة التي صلَاّها صلى الله عليه وسلم قبل إحرامه كانت صلاة الظهر، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر بذي الحليفة -كما تقدم في صلاة المسافر- فصلَاّه ركعتين.
وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم «أتاني آت من ربي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» (3) وهذه الصلاة يحتمل أن تكون فريضة أو نافلة، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4):«إن كان يصلي فرضًا أحرم عقيبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصُّه وهذا أرجح» اهـ.
7 -
الحمد والتسبيح والتكبير -على الدابة- قبل الإهلال:
لما في حديث أنس قال: «
…
ثم ركب حتى استوت به على البيداء، حمد الله، وسبَّح وكبَّر، ثم أهلَّ بحج وعمرة» (5).
8 -
استقبال القبلة عند الإهلال:
فعن نافع قال: «كان ابن عمر إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته
(1) حسن: أخرجه أحمد (202).
(2)
حسن: أخرجه الدارمي (1912)، وأبو داود (1752)، وأحمد (2982).
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
(4)
«مجموع الفتاوى» (26/ 108) ونحوه في «المحلى» لابن حزم (7/ 90).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1551)، وأبو داود (1779).
فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة قائمًا يلبيِّ
…
وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك» (1).
9 -
رفع الصوت بالتلبية:
لحديث السائب بن خلاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جائني جبريل فقال: يا محمد، مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» (2).
وهذا أمر ندب عند الجمهور، وأمر وجوب عند الظاهرية (3) وعن جابر وأبي سعيد قالا:«قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخًا» (4).
هل ترفع المرأة صوتها بالتلبية؟:
أجمع أهل العلم على أن المراة لا يلبِّي عنها غيرها، بل هي تلبِّي عن نفسها (5).
أمَّا: هل ترفع المرأة صوتها بالتلبية؟ فذهب الأكثرون (6) إلى أنها لا ترفع صوتا بالتلبية واحتجوا بما يلي (7):
1 -
أن المرأة مأمورة بالستر، فيكره لها رفع الصوت مخافة الافتتان بها.
2 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» (8) فدلَّ على أنها لا ترفع صوتها بالتلبية إلحاقًا بحالها في الصلاة.
3 -
ما يروى عن ابن عمر أنه قال: «لا تصعد المرأة فوق الصفا والمروة، ولا ترفع صوتها بالتلبية» (9) لكنه ضعيف.
بينما ذهب آخرون -على رأسهم عائشة رضي الله عنها إلى أن المرأة ترفع صوتها لما يأتي:
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1553).
(2)
صحيح: أخرجه الترمذي (830)، وأبو داود (1197)، والنسائي (5/ 162)، وابن ماجه (2922).
(3)
حاشية السندي على النسائي (5/ 162).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1148).
(5)
نقله الترمذي في «الجامع» (849) وأما حديث جابر «كنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان» فضعيف لا يصح.
(6)
حتى نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، وهو منقوض بما يأتي عن عائشة وغيرها.
(7)
«الأم» للشافعي (2/ 133)، و «المغنى» (3/ 330)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 499).
(8)
صحيح: تقدم في «الصلاة» .
(9)
إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في «سننه» (5/ 46).
1 -
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «جاءني جبريل فقال: يا محمد، مُر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» (1) وهو عام يشمل الرجال والنساء، وهذا ما فهمته عائشة رضي الله عنها.
2 -
فعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: «خرج معاوية ليلة النفر، فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة، اعتمرت من التنعيم، فذُكر ذلك لعائشة، فقالت: لو سألني لأخبرته» (2).
قال ابن حزم في «المحلى» (7/ 93): وقد كان الناس يسمعون كلام أمهات المؤمنين ولا حرج في ذلك، وقد روى عنهن وهنَّ في حدود العشرين سنة وفويق ذلك ولم يختلف أحد في جواز ذلك واستحبابه اهـ. ثم أورد آثارًا في هذا.
قلت: أعدل الأقوال ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 115):
«والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها» اهـ.
الحائض والنفساء تهلُّ وتلبي:
تقدم أن الحيض والنفاس لا يمنعان الإحرام بالحج، وأنه يستحب لهما الاغتسال، وكذلك تهلُّ الحائض والنفساء بعد اغتسالها، فعن عائشة قالت:«نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهلَّ» (3).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -لما حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (4) قال الشافعي في «الأم» (2/ 134): والتلبية مما يفعل الحاج. اهـ.
لفظ التلبية (5):
عن نافع عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» .
(1) صحيح: تقدم قريبًا.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 4/ 389).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1209)، وأبو داود (1744)، وابن ماجه (2911).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (294)، ومسلم (1211).
(5)
التلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته، على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، والملبي هو: المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته، والمعنى:(أنا مجيبك لدعوتك، مستسلم لحكمك، مطيع لأمرك، مرة بعد مرة، لا أزال على ذلك). ذكره شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى. عن «حجة النبي» ص 55).
قال: [وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغبة إليك والعمل]» (1).
وفي حديث جابر الطويل: «
…
فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهلُّون به، فلم يردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته
…
» الحديث (2).
وفي رواية: «وأهل الناس بهذا الذي يهلون به: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، فلم يردَّ رسول الله ..» (3).
وقد صح عن أبي هريرة أنه «كان من تلبيته عليه الصلاة والسلام: لبيك إله الحق» (4).
قلت: يستفاد من هذه الأحاديث أمران:
1 -
جواز الزيادة على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم لإقراره لأصحابه على ذلك، ولما ثبت عن ابن عمر وغيره.
2 -
الاكتفاء بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل لملازمته صلى الله عليه وسلم لها، قال الشافعي رحمه الله: وإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله، فلا بأس إن شاء الله، وأحب أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ. وذهب مذهب الجمهور كما في «الفتح» (3/ 480).
مواطن التلبية:
يستحب الإكثار من التلبية من حين الإحرام فما بعده دائمًا في حال الركوب والمشي، والنزول والصعود وعلى كل حال، حتى يرمي جمرة العقبة -عند الجمهور- خلافًا للمالكية، ومما يدل على ذلك أنه ثبتت مشروعية التلبية في المواطن الآتية:
1 -
أثناء الصعود والهبوط في الطريق:
فعن ابن عباس مرفوعًا -في حديث الدجال-: «أما موسى كأني أنظر إليه إذا
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1549)، ومسلم (1184) والزيادة له.
(2)
صحيح: تقد بتمامه.
(3)
صحيح: أخرجه أبو داود (1812)، وأحمد (13918).
(4)
صحيح: أخرجه النسائي (2752)، وابن ماجه (2920).
انحدر في الوادي يلبِّي» (1) قال الحافظ (2): وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود. اهـ.
2 -
في الطريق إلى عرفات:
فعن أنس بن مالك أنه سئل -وهو غاد من منى إلى عرفات- عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «كان يلبِّي الملبِّي لا ينكر عليه، ويكبِّر المكبِّر فلا ينكر عليه» (3).
3 -
حين الإفاضة من عرفة حتى يرمي الجمرة:
فعن ابن عباس أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، قال: فكلاهما قال: «لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُلبِّي حتى رمى جمرة العقبة» (4) قال النووي: وهو دليل على أنه يستديم التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة (5) غداة يوم النحر، وهذا مذهب الشافعي وسفيان والثوري وأبي حنيفة وأبي ثور، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ومن بعدهم
…
وقال أحمد وإسحاق وبعض السلف: يلبِّي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة .... ويجيب الجمهور بأن المراد: حتى شرع في الرمي، ليجمع بين الروايتين. اهـ.
وعن ابن مسعود قال: «ونحن بجمع (6): سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: لبيك اللهم لبيك» (7).
تنبيه: ذهب المالكية إلى أنه يقطع التلبية عند دخول مكة فيطوف ويسعى ثم يعاود حتى ظهر يوم عرفة، ودليلهم حديث نافع قال:«كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل، ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك» (8) قال الحافظ (9): قوله (كان
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1555)، ومسلم (166).
(2)
«فتح الباري» (3/ 485).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1659)، ومسلم (1284).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1544)، ومسلم.
(5)
يعني رواية مسلم: «لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة» .
(6)
أي: المزدلفة.
(7)
صحيح: أخرجه مسلم (1383)، والنسائي (5/ 265).
(8)
صحيح: أخرجه البخاري (1573) وغيره.
(9)
«فتح الباري» (3/ 509).