الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وقد صرف المالكية أمره صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع بالترخيص للحائض في تركه دون فداء؟! وهذا ليس بشيء، فليس في سقوطه عن المعذور ما يجوِّز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها، والله أعلم.
تنبيه: إن طهرت المرأة قبل أن تسافر فعليها الطواف للوداع: إذا لم تكن قد خرجت من بيوت مكة، فإن طهرت وهي لا تزال في بيوت مكة لزمها أن تطوف طواف الوداع (1).
المكِّيُّ لا وداع عليه:
لا يجب طواف الوداع إلا على الحاج من أهل الآفاق، فأما المكي فلا وداع عليه عند الحنفية والحنابلة -وألحق الحنفية بالمكي من كان منزله داخل المواقيت- لأن الطواف وجب توديعًا للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة لأنهم في وطنهم.
وعند المالكية والشافعية يُطلب طواف الوداع في حق كل من قصد السفر من مكة، ولو كان مكيًّا إذا قصد سفرًا تقصر فيه الصلاة، لعموم الأمر بأن يكون آخر العهد بالبيت (2).
أحكام في الطواف عامة
شروط الطواف:
1 -
هل تشترط الطهارة للطواف؟
ذهب جمهور العلماء -خلافًا للحنفية ورواية عن أحمد وابن حزم- إلى أن الطهارة من الأحداث والأنجاس شرط لصحة الطواف، فإذا طاف فاقدًا أحدهما فطوافه باطل لا يعتد به.
وحجتهم في هذا حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام
…
» (3) وهو مختلف في رفعه والصواب وقفه.
(1)«الأم» للشافعي (2/ 154).
(2)
«الموسوعة الفقهية» (17/ 58).
(3)
أخرجه الترمذي (960)، والنسائي (2922)، والحاكم (1/ 630) وغيرهم، ولا يصح مرفوعًا، والصواب وقفه كما بينه شيخنا -حفظه الله- في «جامع أحكام النساء» (2/ 515 - 521) خلافًا للعلامة الألباني رحمه الله حيث صحح رفعه في «الإرواء» (1/ 156).
وهذا الاستدلال مردود لأمور:
(أ) أن الحديث لا يصح مرفوعًا، فالصواب أنه موقوف من كلام ابن عباس، كما رجَّحه الترمذي والبيهقي وابن تيمية وابن حجر، وشيخنا مصطفى العدوي.
(ب) على فرض صحته، فلا يلزم منه أن الطواف يشابه الصلاة في كل شيء حتى يشترط له ما يشترط للصلاة!! (1).
(جـ) أنه قد كانت أعداد من المسلمين -لا يحصيهم إلا الله عز وجل يطوفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء لطوافه مع احتمال انتقاض وضوء الكثيرين ودخول كثير منهم الطواف بلا وضوء، لا سيما مع شدة الزحام في طواف القدوم والإفاضة (2).
ولذا قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (6/ 198): «وتبين أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى، [يعني الوضوء] فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه ..» اهـ. وقال ابن حزم (7/ 179): «والطواف بالبيت على غير طهارة جائز» اهـ. وهو اختيار العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- في «الممتع» (7/ 300).
قلت: ومع ترجيحنا لجواز الطواف على غير وضوء، فلا شك أنه يستحب ذلك لحديث عائشة قالت: «أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم
…
» (3) الحديث. لعموم الأدلة على استحباب الذكر على طهارة.
لكننا لا نستطيع أن نلزم من انتقض وضوؤه في الطواف بالذهاب للوضوء لا سيما مع شدة الزحام -بغير دليل واضح، والله أعلم.
هذا كله في الطهارة من الحدث الأصغر، فأما الحدث الأكبر كالحيض والنفاس والجنابة، فالظاهر أنه يجب الطهارة منه للطواف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة -وقد حاضت-:«افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» (4) فمن طاف محدثًا
(1) انظر أوجه التفريق بين الصلاة والطواف في «جامع أحكام النساء» (2/ 522).
(2)
«جامع أحكام النساء» (2/ 515) بتصرف يسير وانظر «مجموع الفتاوى» (21/ 273).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (5/ 16)، ومسلم (1235).
(4)
صحيح: تقدم تخريجه.
حدثًا أكبر -بغير عذر- ثم خرج إلى بلده، فقال مالك والشافعي: حكمه حكم من لم يطف أصلاً، وقال أبو حنيفة: يبعث بدم ويجزيه (1).
2 -
ستر العورة: فلا يجوز لأحد أن يطوف بالبيت عريان، فإن فعل لم يجزئه عند الجمهور، لقوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2).
ولحديث أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» (3).
وقال الحنفية ستر العورة واجب في الطواف وليس شرطًا لصحته، فمن طاف عريان بطل طوافه عند الجمهور وصح عند الحنفية لكن يلزمه دم.
3 -
أن يكون الطواف خارج البيت (الكعبة): قال تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4). فلو طاف في الحجر (5) لم يصح طوافه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«الحجر من البيت» (6) وقد تركته قريش لضيق النفقة وأحاطته بالجدار، فيشترط لصحة الطواف أن يكون خارج الحجر وإلا بطل عند الجمهور، وعند الحنفية يجب إعادته ما دام في مكة فإن رجع إلى بلده فعليه هدي يرسله إلى مكة.
4، 5 - أن يبدأ طوافه من الحجر الأسود وينتهي إليه ويجعل البيت عن يساره:
لحديث جابر: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى الحجر الأسود فاستلمه ثم مشى عن يمينه، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا» (7) وهذا شرط للطواف عند الجمهور، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، لأنه بيان لمجمل الأمر القرآني بالطواف فكان من حقيقته، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» (8).
(1)«التمهيد» لابن عبد البر (19/ 262).
(2)
سورة الأعراف: 31.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (369)، ومسلم (1347).
(4)
سورة الحج: 29.
(5)
الحجر: هو الموضع المحاط بجدار مقوس تحت ميزاب الكعبة في الجهة الشمالية منها ويسمى الحطيم والجدر.
(6)
صحيح: أخرجه الترمذي (876)، وأبو داود (2028)، وابن ماجه (2955)، وأصله في الصحيحين عن عائشة.
(7)
صحيح: تقدم بتمامه وتخريجه.
(8)
صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا (في البيوع)، ومسلم (1718).
6 -
أن يكون سبعة أشواط كاملة:
لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم المبيِّن للقدر الذي يحصل به امتثال قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا} فيكون فرضًا، وهو مذهب الجمهور، فلو ترك خطوة في أي شوط لم يجزئ هذا الشوط، وأما الحنفية فجعلوا الركن: الإتيان بأكثر السبعة، والأقل الباقي واجبًا لا ركنًا، وهذا مردود بأن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي والاجتهاد، وإنما بالتوقيف والنص، فهي كمن نقص من الصلاة ركعة فلا تصح، ولذا خالف الكمال بن الهمام -وهو من الحنفية- المذهب فقال:«الذين ندين به أنه لا يجزئ أقل من سبع، ولا يجبر بعضه بشيء» (1) اهـ.
الشك في عدد الأشواط:
من شك في عدد أشواط طوافه وهو في الطواف بنى على اليقين، وهوالأقل، عند جمهور الفقهاء (الشافعية والحنابلة) ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك (2).
قلت: لكن لو ترجَّح عنده الأكثر بنى عليه، والله أعلم.
7 -
الموالاة بين الأشواط: بمعنى عدم الفصل الطويل بين الأشواط، وهو شرط للطواف عند المالكية والحنابلة، وفي قول عند الشافعية أنه واجب، وعند الحنفية والشافعية سنة.
ومن قطع طوافه لعذر كقضاء حاجة أو وضوء -لمن يراه شرطًا- أو أداء الصلاة المكتوبة، أو ليستريح من تعب ونحوه، فإنه يبني على ما طاف، ولو قطع طوافه عابثًا لغير عذر بطل طوافه (3).
سنن الطواف:
1 -
الوضوء قبل الطواف: لحديث عائشة رضي الله عنها: «إن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت» (4) وهذا مجرد فعل يدل على الاستحباب ولا ينتهض للوجوب، وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك حتى يقال أنه بيان لقوله «خذوا عني مناسككم» ، ثم يحتمل أنه توضأ لأجل ما يعقب الطواف من الصلاة.
(1)«نهاية المحتاج» (2/ 409)، و «بدائع الصنائع» (2/ 132)، و «فتح القدير» (2/ 247).
(2)
«المغنى» (3/ 378)، و «المجموع» (8/ 25).
(3)
انظر «المحلى» لابن حزم (7/ 180).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1615)، ومسلم (1235).
وعلى كلٍّ فالطواف ذكر فتستحب له الطهارة لحديث الرجل الذي سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم «فلم يَرُدَّ عليه حتى أقبل فمسح بوجهه ويديه ثم ردَّ عليه السلام» (1).
2 -
الاضطباع [للرجال فقط]: وهو أن يجعل وسط إزاره تحت إبطه الأيمن ويَرُدَّ طرفيه على منكبه الأيسر، فيكون منكبه الأيمن مكشوفًا، لحديث يعلى بن أمية:«أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعًا» (2).
والاضطباع سنة -عند الجمهور- للرجال دون النساء، في جميع الأشواط، ويُسَنُّ الاضطباع في كل طواف بعده سعي، كطواف القدوم لمن أراد أن يسعى بعده، وطواف العمرة، وطواف الزيارة لمن أخر السعي إليه، في مذهب الحنفية والشافعية، ومذهب الحنابلة أنه لا يضطبع في غير طواف القدوم (3).
تنبيه: الاضطباع إنما يشرع في الطواف دون سائر المناسك، لا كما يفعل كثير من الناس، من الاضطباع من حين يحرم ويستمر كذلك حتى يُحلَّ، وهذا من الجهل بالسنة، حتى إنه ليصلي مكشوف العاتق، وهذا منهي عنه، كما تقدم في «مكروهات الصلاة» .
وعلى هذا فينبغي له أن يسوِّي رداءه فيغطي عاتقه الأيمن كذلك بعد إنهاء طوافه، لأن الاضطباع محله الطواف فقط.
3 -
الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى [للرجال]:
ومعناه: إسراع المشي مع تقارب الخطى وهزِّ الكتفين من غير وثب، ويكون في الأشواط الثلاثة الأول فقط، ويمشي في الأربعة الأخرى.
والرَّمل سنة في كل طواف بعد سعي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حُمَّى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحُمَّى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين (4) ليرى المشركون جَلَدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1875) وغيره.
(2)
حسن: أخرجه أبو داود (1883)، والترمذي (859)، وابن ماجه (2954) وحسنه الألباني.
(3)
«الموسوعة الفقهية» (29/ 134).
(4)
أي الحجر الأسود والركن اليماني، وذلك لأنهم بينهما يغيبون عن نظر المشركين، قاله في «الفتح» (3/ 551) قلت: فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستريحوا ليبقوا على قوتهم.
من كذا وكذا» (1) وهذا في عمرة القضاء في السنة السابعة، لكن الرَّمل ظل سنة في الأشواط الثلاثة الأولى بتمامها، فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجته -وكانت بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا- كما في حديث جابر «
…
فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا» (2) وفي حديث ابن عمر «سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ومشى أربعة في الحج والعمرة [من الحجر إلى الحج]» (3) وسعى -هنا- يعني: أسرع.
ويؤيد أن الرمل سنة باقية -بعد زوال العلة من إغاظة المشركين- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان همَّ أن يتركه «قال: ما لنا وللرَّمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه» (4).
لا يُشرع تدارك الرَّمل: فلو تركه في الثلاثة الأُوَل لأجل الزحام ونحوه، فلا يقضه في الأربعة الأخرى، لأن هيئتها السكينة فلا تغير (5).
لا يشرع الرمل للنساء (6): وهو يقول أكثر أهل العلم، حتى نقل بعضهم الإجماع عليه.
قالت عائشة رضي الله عنها: «يا معشر النساء، ليس عليكنَّ رمل بالبيت، لَكُنَّ فينا أسوة» (7) وصح نحو هذا عن ابن عمر (8) وروى عن ابن عباس (9) وغيرهما من السلف.
4، 5 - استلام الحجر الأسود وتقبيله في كل شوط إن أمكن:
استلام الحجر هو: مسحه باليد، وهو سنة لحديث ابن عمر قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع» (10).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1602)، ومسلم (1266).
(2)
صحيح: تقدم كثيرًا.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1604)، ومسلم (1261) وغيرهما بدون الزيادة، وهي عند ابن ماجه (2950).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1605)، ومسلم (1270).
(5)
«فتح الباري» (3/ 551).
(6)
«الأم» (2/ 150)، و «المغنى» (3/ 394)، و «فتح الباري» (3/ 551)، و «شرح مسلم» (3/ 397).
(7)
حسن لغيره: أخرجه البيهقي (5/ 84)، وابن أبي شيبة (809).
(8)
صحيح: أخرجه البيهقي (5/ 84)، وابن أبي شيبة (1/ 4/ 121).
(9)
إسناده لين: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 4/ 122) وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
(10)
صحيح: أخرجه البخاري (1603)، ومسلم (1261).
وعن نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبَّل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (1).
وقد قبَّل عمر بن الخطاب الحجر، وقال:«لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبَّلتك» (2).
إذا لم يستطع تقبيله أو استلامه:
المستحب أن يستلم الحجر بيده ويقبِّله إن أمكنه، فإن استلمه وشقَّ عليه تقبيله قبَّل يده، فإن شق عليه استلامه بيده، فله أن يستلمه بعصا ونحوها ويقبِّلها: لحديث ابن عباس قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الرُّكن بمحجن» (3) زاد مسلم في روايته من حديث أبي الطفيل: «ويقبِّل المحجن» (4).
فإن عجز عن استلامه فإنه يشير إليه بيده ويكبِّر، لحديث ابن عباس قال:«طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبَّر» (5).
وصح عن ابن عمر: «أنه كان إذا استلم الركن قال: بسم الله، الله أكبر» (6).
6 -
السجود على الحجر الأسود: فعن ابن عمر قال: «رأيت عمر بن الخطاب قبَّل الحجر، وسجد عليه، ثم عاد فقبَّله وسجد عليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، وقد ثبت هذا أيضًا عن ابن عباس من فعله، قال الألباني رحمه الله في الإرواء (4/ 312): «فيبدو من مجموع ما سبق أن السجود على الحجر الأسود ثابت، مرفوعًا وموقوفًا والله أعلم» اهـ.
7 -
استلام الركن اليماني: لحديث ابن عمر قال: «لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين» (8).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1268).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1065)، ومسلم (1270).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1607).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1275).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1613).
(6)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8894)، والبيهقي (5/ 79)، وصححه الحافظ في «التلخيص» (2/ 247).
(7)
حسَّنه الألباني: كما في «الإرواء» (4/ 312).
(8)
صحيح: أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (1267).
لا تزاحم المرأة الرجال:
لا ينبغي للمرأة أن تزاحم الرجال في الطواف لاستلام الركنين أو تقبيل الحجر الأسود، فعن عطاء قال: «كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة (1) من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عني، وأبت [قال عطاء:] يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كُنَّ إذا دخلن البيت قُمن حتى يدخلن وأخرج الرجال
…
» (2).
ولما اشتكت أم سلمة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» (3).
لا يُستلم الركنان الشاميَّان:
لحديث ابن عمر المتقدم قريبًا، لأن الركن الشمالي والغربي (جهة الحجر) ليسا على قواعد إبراهيم عليه السلام كما تقدم.
8 -
الدعاء بين الركنين اليمانيين:
عن عبد الله بن السائب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول بين الركن والحجر: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (4).
قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (26/ 122): «
…
ويستحب له في الطواف أن يذكر الله تعالى، ويدعوه بما يُشرع، وإن قرأ القرآن سرًّا فلا بأس، فليس فيه ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك، فلا أصل له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بين الركنين بقوله:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (5). كما كان يختم سائر دعائه بذلك» اهـ.
9 -
الانتهاء إلى مقام إبراهيم -بعد الطواف- وقراءة: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (6).
(1) حجرة أي: ناحية معتزلة عن الرجال (الفتح 3/ 562 - سلفية).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (1618)، وعبد الرزاق (5/ 67).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (1619)، ومسلم (1276).
(4)
حسن: أخرجه أبو داود (1892)، والنسائي في «الكبرى» (3934)، وأحمد (3/ 411) وغيرهم، وقد ثبت كذلك من فعل عمر وابنه عند عبد الرزاق (8966، 8964).
(5)
سورة البقرة: 201.
(6)
سورة البقرة: 125.
10 -
صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم بعد الطواف إن تيسَّر.
11 -
أن يقرأ في هاتين الركعتين: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وهذه السنن الثلاث الأخيرة ثابتة في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم والركعتان بعد الطواف خلف المقام سنة عند الجمهور، خلافًا للحنفية فتجب عندهم، وهو رواية عن أحمد وقول عند الشافعية ووافقهم المالكية في طواف الركن دون غيره (1).
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه إذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف.
وتصلي ركعتا الطواف في أي وقت من غير كراهة ولو في أوقات النهي، لحديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» (2).
لا يجوز المرور أمام المصلي في الحرم ولا في غيره:
وأما قول شيخ الإسلام رحمه الله: فلو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه، لم يُكره، سواء مرَّ أمامه رجل أو امرأة، وهذا من خصائص مكة (3). اهـ. فلا أعرف دليلاً على هذه الخصوصية، والأصل عدم جواز المرور أمام المصلي كما تقدم في أبواب الصلاة. والله أعلم.
12 -
الشرب من ماء زمزم وصَبُّه على الرأس بعد الطواف والركعتين:
ففي حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، وصلى ركعتين ثم عاد إلى الحجر، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصبَّ على رأسه ثم رجع فاستلم الركن ....» (4).
13 -
ل يُلتَزم (5) ما بين الحجر الأسود والباب (المُلتَزَم)؟
رُوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله يوم الفتح، فعن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، انطلقت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من
(1)«فتح القدير» (2/ 154)، و «حاشية العدوي» (1/ 467)، و «مغنى المحتاج» (1/ 492)، و «المغنى» (3/ 394).
(2)
صحيح: أخرجه الترمذي (869)، والنسائي (5/ 223)، وابن ماجه (1254).
(3)
«مجموع الفتاوى» (26/ 122).
(4)
إسناده حسن: أخرجه أحمد (3/ 394)، وفي مسلم (1218) الشرب فقط.
(5)
أي: يلصق صدره وخدَّه الأيمن بجدار الكعبة بين بابها والحجر الأسود، ويداه مبسوطتان قائمتان.
الكعبة هو وأصحابه وقد استلموا الركن من الباب إلى الحَطيم ووضعوا خدودهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم» (1).
ورُوى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: «طُفت مع عبد الله بن عمرو، فلما حاذى دُبُر الكعبة قلت: ألا تتعوَّذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا -وبسطها بسطًا- وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» (2).
قلت: في كلا الحديثين ضعف، لكن هل يتقوى أحدهما بالآخر؟ هذا محل نظر، ثم هذا الالتزام يحتمل أن يكون وقت الوداع، وأن يكون في غيره، لكن قال الجمهور: يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو، لأنه من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء كما ورد عن ابن عباس (3)، والله أعلم.
الكلام والتعليم والإفتاء في الطواف (4):
بجوز الكلام في الطواف، ولا يبطل به ولا يكره، لكن الأولى تركه إلا أن يكون كلامًا في خير، كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم جاهل أو جواب فتوى ونحو ذلك، فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ -وهو يطوف بالكعبة- بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو شيء غير ذلك، فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: قُد بيده» (5).
الطواف ركبًا: يجوز الطواف راكبًا -ولو مع القدرة على المشي- للحاجة الداعية إليه، فقد «طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير يستلم الركن بمحجن» (6). ليراه الناس، لحديث جابر قال:«طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، بين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف، وليسألوه، فإن الناس قد غشوه» (7) أي: ازدحموا عليه.
(1) إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1898).
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1899)، وابن ماجه (2962)، والبيهقي في «السنن» (5/ 93)، وفي «الشعب» (4058) بسند ضعيف.
(3)
«زاد المعاد» (2/ 298)، و «شرح ابن عابدين» (1/ 170 - 187)، و «روضة الطالبين» (3/ 118)، و «كشاف القناع» (2/ 513).
(4)
«المجموع» للنووي (8/ 62 - 63).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1620).
(6)
صحيح: تقدم قريبًا.
(7)
صحيح: أخرجه مسلم (1216).
وبهذا قال الشافعية، وهو رواية عن أحمد، ولا شيء على الراكب -ولو لغير عذر- عندهم، بينما أوجب الحنفية والحنابلة المشي مطلقًا، وكذا المالكية -لكن في الطواف الواجب فقط- فلو طاف راكبًا مع القدرة على المشي لزمه دم عندهم (1)، والأظهر أنه ليس عليه شيء والله أعلم.
الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة:
تعريفه: السعي هو المشي بين الصفا والمروة ذهابًا وجيئة، بنية التعبد، وهو سبعة أشواط تبدأ من الصفا وتنتهي بالمروة.
حكمه:
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج في أصح أقوال العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد -في إحدى الروايتين- وإسحاق وأبي ثور وبه قال ابن عمر، وجابر وعائشة رضي الله عنهم ومن نسيه أو نسي شوطًا منه فعليه أن ينصرف إليه حيث ذكره في بلده أو غير بلده حتى يأتي به كاملاً، وإلا بطل حجه بتركه له ولا يجبره دم ولا غيره (2)، والأدلة على ذلك:
1 -
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (3).
وقد بيَّنت عائشة رضي الله عنها معنى نزول الآية ومخرجها، وجاءت بالعلم الصحيح في ذلك:
2 -
قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت: بئس ما قلت يا بن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المسلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول
(1)«البدائع» (2/ 128)، و «حاشية العدوي» (1/ 468)، و «المغنى» (3/ 397)، و «نهاية المحتاج» (3/ 275).
(2)
«فتح القدير» (2/ 156)، و «حاشية العدوي» (1/ 470)، و «المجموع» (8/ 71)، و «المغنى» (3/ 385).
(3)
سورة البقرة: 158.
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية قالت عائشة رضي الله عنها وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما (1).
3 -
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» (2).
4 -
وقالت عائشة رضي الله عنها: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون -تعني بين الصفا والمروة- فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة» (3).
5 -
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يجزيك أو يكفيك لحجك وعمرتك» (4) فلو لم يكن واجبًا لما قال: يجزيك، والله أعلم.
6 -
عن عمرو بن دينار قال: سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت في عمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام ركعتين فطاف بين الصفا والمروة سبعًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وسألنا جابر بن عبد الله فقال: «لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة» (5).
وللعلماء في حكم السعي قولان آخران:
فذهب أبو حنيفة والثوري والحسن البصري إلى أن السعي واجب، وليس بركن، فمن تركه فعليه دم، وحجه صحيح.
وذهب أنس بن مالك وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين إلى أن السعي سنة وليس بواجب، وليس في تركه شيء، وروى هذا عن ابن عباس، ويشبه أن يكون مذهب أبي بن كعب وابن مسعود، لأن في مصحف أبي وابن مسعود «فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما» .
قال ابن عبد البر: ليس فيما سقط من مصحف الجماعة حجة، لأنه لا يقطع
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1561).
(2)
صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (6/ 421)، والحاكم (4/ 70)، وانظر «الإرواء» (1072).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1277)، وابن ماجه (2986).
(4)
صحيح: أخرجه أبو داود (1897)، والبيهقي (5/ 106)، والبغوي (7/ 84)، وهو عند مسلم (1211) بلفظ «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» .
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1646)، وأخرج مسلم (1234) أثر ابن عمر.
به على الله عز وجل، ولا يحكم بأنه قرآن: إلا بما نقلته الجماعة بين اللوحين، وأحسن ما روى في تأويل هذه الآية [ما ذكرته] عائشة (1)، والله تعالى أعلم.
طواف سعي القارن والمتمتع:
اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع على ثلاثة مذاهب (2):
[1]
أن على كل منهما طوافين وسعيين: وهو مروي عن علي وابن مسعود، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة والأوزاعي وإحدى الروايات عن أحمد.
[2]
أن على كلٍ منهما طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا: وهذا نص عليه الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
[3]
أن على المتمتع طوافين وسعيين، وعلى القارن سعي واحد: وهو قول عطاء وطاوس والحسن، وهو مذهب مالك والشافعي وظاهر مذهب أحمد.
فأما القول الأول فضعيف إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وغاية ما عند القائلين به قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} ولا دليل في ذلك، فإن التمام حاصل وإن لم يطف -القارن- إلا طوافًا واحدًا، كما هو واضح من أدلة الفريقين الآخرين، وأما القولان الآخران فسبب الخلاف بينهما تعارض الأحاديث الواردة في ذلك:
فعن جابر قال: «لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طواف الأول» (3) يعني بالطواف: السعي.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك» (4) وكانت قارنة على الأصح.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «
…
فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت
(1)«التمهيد» لابن عبد البر (2/ 98).
(2)
«الزاد» (2/ 271)، و «تهذيب السنن» (5/ 243 - مع العون)، و «مجموع الفتاوى» (26/ 104).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1215)، والترمذي (947)، وأبو داود (1895)، والنسائي (2986)، وابن ماجه (2972).
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
وبين الصفا والمروة ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافًا واحدًا» (1).
قال ابن القيم: فإما أن يقال عائشة أثبتت وجابر نفى والمثبت مقدم على النافي، أو يقال: مراد جابر من قرن مع النبي صلى الله عليه وسلم وساق الهدي -وهم قلة- فإنهم إنما سعوا سعيًا واحدًا ولم يرد عموم الصحابة، أو يُعلَل حديث عائشة بأن قولها: فطاف
…
إلخ) مُدرج في حديثها، فهذه ثلاث طرق للناس في حديثها. اهـ (2).
قلت: أما دعوى الإدراج فيلزم منها تخطئة جبال الحفظ الثقات بغير بيِّنة كالزهري وغيره، فحديثها ثابت لا شك فيه وله طرق تؤيده (3)، وهو دليل على أن المتمتع عليه طوافان وسعيان وعائشة قد حفظت ما لم يحفظ جابر ويشهد له حديث ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال:«أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، إلا من قلد الهدي» طفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، وأتينا النساء لبسنا الثياب، وقال: «من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهلَّ بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، فقد تم حجنا وعلينا الهدي
…
» (4).
وهذا مؤكد لما دلَّ عليه حديث عائشة من أن المتمتع يلزمه طواف وسعي لعمرة ثم يحلِّ ويَلزمه طواف وسعي آخران بعد الإفاضة من عرفة، وأما القارن فعليه طواف واحد وسعي واحد عند الجمهور.
هل يجوز تقديم السعي على الطواف بالبيت؟
ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن من سعى قبل الطواف أنه لا يجزئه، وعليه أن يعيد، إلا أن مالكًا وأبا حنيفة قالا: يعيد الطواف والسعي جميعًا، وقال الشافعي: يعيد السعي وحده ليكون بعد الطواف (5).
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1556)، ومسلم (1211).
(2)
«زاد المعاد» بتصرف يسير.
(3)
انظر «حجة النبي» للألباني (ص: 90).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري تعليقًا مجزومًا ومسلم خارج صحيحه موصولاً وكذا الإسماعيلي في مستخرجه ومن طريقه البيهقي (5/ 23)، ورجاله رجال الصحيح.
(5)
«التمهيد» (6/ 12 - فتح المالك)، و «المجموع» (8/ 105).
قلت: يُستدل لهم بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها -لما حاضت-: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (1) وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت، ولم تَسْعَ كما لم تطف، فلو لم يكن السعي متوقفًا على تقدم الطواف قبلها لما أخرته، لا سيما والحائض لا تمنع من السعي -على الصحيح- كما سيأتي قريبًا.
لكن لقائل أن يقول (2): ليس معنى تأخير عائشة للسعي إلى أن تطوف أن هذا ملزم لغيرها، وخصوصًا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر يوم النحر إلا قال:«افعل ولا حرج» كما سيأتي، وهذا عطاء والأوزاعي وطائفة من أصحاب الحديث.
هل يجوز للحائض أن تسعى بين الصفا والمروة؟
وردت زيادة في حديث عائشة المتقدم: «أفعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت [ولا بين الصفا والمروة] حتى تطهري» لكن قوله (ولا بين الصفا والمروة) زيادة شاذة لا تصح (3)، وعلى فرض أنها محفوظة فلا تدل على اشتراط الطهارة للسعي، لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله -عند الجمهور- فكان المانع من السعي عدم الطواف.
وليس هناك دليل على اشتراط الطهارة للسعي، بل صح عن ابن عمر أنه قال:«إذا طافت بالبيت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة، فلتسعَ بين الصفا والمروة» (4).
وقد صح نحوه عن الحسن وعطاء والحكم وحماد وغيرهم من السلف، وهومذهب الشافعي (5).
(1) صحيح: تقدم تخريجه.
(2)
قاله شيخنا المبارك مصطفى بن العدوي -أمتع الله بحياته- في «جامع أحكام النساء» (2/ 535).
(3)
انظر «فتح الباري» (3/ 589)، و «جامع أحكام النساء» (2/ 534).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/ 4/ 343).
(5)
«مصنف ابن أبي شيبة» (1/ 4/ 344) بأسانيد صحيحة، وانظر «المجموع» (8/ 106).