الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإسحاق، وهو اختيار شيخ الإسلام: هي يمين بمنزلة قوله: وإلا لأفعلن، لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله، وهذا هو حقيقة الحلف بالله، فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالاً من ربطه بالله، وعلى هذا إذا حنث تجب الكفارة.
ثم يبقى الحكم على الحالف نفسه: فإن كان كاذبًا وكان يقصد بحلفه تبعيد نفسه عن الشيء أو حضها عليه لم يكفر، لكنه داخل تحت الوعيد الشديد، وإن كان قصد بذلك الرِّضا بالكفر إذا فعله فهو كافر في الحال.
وأما إن كان صادقًا (بَرَّ في يمينه) فلا يكون سالمًا لأن فيه نوع استخفاف بالإسلام فيكون بنفس هذا الحلف آثمًا، والله أعلم.
أنواع اليمين القَسَمِيَّة
تقدم أن أيمان المسلمين إما أن تكون قسمية، وإما أن تكون تعليقية (بالشرط والجزاء) والأيمان القسمية تكون على ثلاثة أنواع من جهة انعقادها ووجوب الكفارة بالحنث فيها، وإليك هذه الأنواع مع طرف من الأحكام المتعلقة بكل نوع:
أولاً: اليمين اللغو:
1 -
تعريفها: قال الله تعالى {لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (1).
وقد اختلف العلماء في تفسير معنى «اليمين اللغو» على أقوال، أشهرها قولان كلاهما يحتمله معنى «اللغو» (2).
الأول: اللغو ما جرى على اللسان من غير قصد معنى اليمين، كقولهم «لا والله» ، «بلى والله» في نحو صلة كلام أو غضب سواء أكان ذلك في الماضي أم الحال أم في المستقبل، وهو قول الشافعية والحنابلة، ووجهه: قول عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ} قالت: «أنزلت في قوله: لا والله، وبلى والله» (3).
(1) سورة البقرة: 225.
(2)
«البدائع» (3/ 4)، و «الصاوي» (1/ 331)، و «الأم» (7/ 89)، و «المغنى» (11/ 180).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6663)، وعبد الرزاق (15952).
وعنها قالت: «أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب» (1).
ولأن الله تعالى قابل اليمين اللغو في الآية الكريمة باليمين المكسوبة بالقلب، والمكسوبة هي: المقصودة، فكانت غير المقصودة داخلة في قسم اللغو بلا فصل بين ماضيه وحاله ومستقبله تحقيقًا للمقابلة.
الثاني: اللغو: أن يحلف على شيء يعتقده على سبيل الجزم أو الظن القوي، فيظهر خلافه: وهو قول الحنفية والمالكية، ووجهه ما ثبت عن زرارة بن أوفى رضي الله عنه قال:«هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف» (2).
قلت: والقولان متقاربان، واللغو يشملهما، لأنه في الأول: لم يقصد عقد اليمين أصلاً، وفي الثاني: لم يعمد الحنث ولم يقصد إلا الحق، والله أعلم (3).
2 -
حكم يمين اللغو:
قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (4) فدلَّ على عدم المؤاخذة بيمين اللغو، وهذا يعم الإثم والكفارة، فلا يجب الإثم ولا الكفارة.
ثانيًا: اليمين الغموس:
1 -
تعريفها: أن يحلف على أمر ماضٍ (5) متعمدًا الكذب، ليهضم بها حقَّ غيره، وتسمى: الزور، والفاجرة، وسميت في الأحاديث: يمين صبر (أي: التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين الكاذبة) ويمينًا مصبورة.
قال في النهاية: غموسًا، لأنها تغمس صاحبها في النار.
2 -
حكمها: هي كبيرة من الكبائر، وفاعلها آثم باتفاق المسلمين.
(أ) فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» (6).
(1) صحيح: أخرجه الطبري (2/ 245)، والبيهقي (10/ 49).
(2)
صحيح: أخرجه الطبري (2/ 245).
(3)
«المحلى» (8/ 34)، و «المغنى» (11/ 181)، و «أضواء البيان» (2/ 108).
(4)
سورة البقرة: 225.
(5)
تقييدها بالحلف على الأمر الماضي هو مذهب الشافعية والحنابلة، خلافًا للحنفية والمالكية.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (6675)، والنسائي في «الكبرى» (6/ 322)، والترمذي (3021).
(ب) وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة» فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وإن كان قضيبًا من أراك» (1).
(جـ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» (2).
(د) وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم» -ثلاثًا- قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: «المُسْبِل، والمنَّان، والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب» (3).
3 -
هل يُرخَّص في اليمين الغموس للضرورة؟ (4)
لا شك أن الأصل في اليمين الغموس أنها حرام، لكن قد يعرض ما يخرجها عن الحرمة ما لم يكن حرامًا، كأن يختفي مسلمٌ من ظالم، فيُسأل عنه، فإنه يجب الكذب بإخفائه، ولو استحلفه عليه لزمه أن يحلف، ويورِّى في يمينه، فإن حلف ولم يُوَرِّ، فقيل: يحنث على الأصلن وقيل: لا يحنث.
ومستند الترخيص للضرورة، قوله تعالى {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) فإذا كان الإكراه يبيح كلمة الكفر، فإباحته لليمين الغموس أولى.
وعن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حُجْر، فأخذه عدوٌّ له، فتحرَّج القوم أن يحلفوا، فحلفتُ أنا أنه أخي، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«صدقت، المسلم أخو المسلم» (6).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (137)، وابن ماجه (2324).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6676)، ومسلم (138).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (106)، وأبو داود (4087)، والنسائي (2563)، والترمذي (1121)، وابن ماجه (2208).
(4)
«حاشية الصاوي» (1/ 450)، و «الأذكار» للنووي (336)، و «المغنى» (11/ 166).
(5)
سورة النحل: 106.
(6)
صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3070)، وابن ماجه (2119)، والحاكم (4/ 333) وغيرهم.
4 -
هل تلزم الكفارة في اليمين الغموس؟ للعلماء في هذه المسألة قولان (1):
الأول: لا كفارة فيها، وإنما تجب التوبة منها وردُّ الحقوق إلى أهلها: وهو مذهب الجمهور: الحنفية والمالكية والحنابلة، واستدلوا بما يلي:
1 -
الأحاديث المتقدمة في الترهيب من اليمين الغموس.
2 -
قول الأشعث بن قيس -في حديث ابن مسعود المتقدم-: فيَّ أنزلت هذه الآيات وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} (2).
قالوا: هذه النصوص أثبتت أن حكم الغموس العذاب في الآخرة، فمن أوجب الكفارة فقد زاد على المنصوص.
3 -
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس ليس فيهن كفارة: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير الحق، وبهتُ المؤمن، والفرار من الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق» (3) وهو ضعيف.
(1) هذا على القول بأن اليمين الغموس مختصة بالحلف على الأمر الماضي، وإلا ففي المسألة قول ثالث بالتفريق بين الحنث على الأمر الماضي -فلا كفارة فيه- وبين الأمر المستقبل ففيه الكفارة وبه قال المالكية والحنابلة، وانظر:«فتح القدير» (4/ 3)، و «الصاوي» (1/ 330)، و «أسنى المطالب» (4/ 240)، و «المغنى» (11/ 177)، و «المحلى» (8/ 36)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 128 - 35/ 324)، و «فتح الباري» (11/ 557).
(2)
سورة آل عمران: 77.
(3)
ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 362)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1183)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (278)، وفي «الديات» (1/ 16) من طرق عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن أبي المتوكل (وفي بعضها: المتوكل) عن أبي هريرة به، وهذا إسناد فيه علتان: الأولى: عنعنة بقية، وهو مدلس تدليس التسوية، نعم في طريق ابن أبي عاصم المذكورة تصريحه بتحديث بحير دون من فوقه فلم يكف، إلا أن يصرح في بقية السند، لكن تابعه إسماعيل بن عياش عن بحير به فزالت العلة الأولى، لكن بقي أن أبا المتوكل المذكور ليس هو الناجي (الثقة) كما توهَّم ابن الجوزي فاحتج به في التحقيق (2028)، وإنما قال فيه أبو حاتم «شامي عن أبي هريرة» وقال ابن حبان في الثقات: لا أدري من هو ولا ابن من هو؟ قلت فهو مجهول، كما أشار الحافظ في «الفتح» (11/ 557 - المعرفة)، وانظر:«تعجيل المنفعة» (1004)، و «الإكمال» للحسيني (819).
4 -
وعن ابن مسعود قال: «كنا نعدُّ من الذنب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس» فقيل: ما اليمين الغموس؟ قال: اقتطاع الرجل مال أخيه باليمين الكاذبة» (1).
قالوا: ولا يعلم لابن مسعود مخالف من الصحابة بل نقل غير واحد من أهل العلم اتفاق الصحابة على ذلك.
5 -
أن هذه اليمين أعظم من أن تُكفَّر، فالكبائر لا كفارة فيها، كما لا كفارة في السرقة والزنا وشرب الخمر.
الثاني: أن فيها الكفارة: وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد، وابن حزم، وحجتهم:
1 -
أن الغموس يمين مكسوبة معقودة (!!) إذ الكسب فعل القلب، والعقد: العزم، ومن أقدم على الحلف كاذبًا متعمدًا فهو فاعل بقلبه ومصمم، فهو مؤاخذ، لقوله تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2).
2 -
وقال تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
…
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (3).
فهذا عموم يدخل فيه كل يمين يحنث فيه صاحبه، ولا تسقط الكفارة إلا بنص.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «
…
فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» (4) قالوا: فأمره صلى الله عليه وسلم بتعمد الحنث وأوجب عليه الكفارة.
4 -
أن اليمين الغموس أحق بالتكفير من سائر الأيمان المعقودة، لأن ظاهر الآيتين السابقتين ينطبق عليها من غير تقدير، لأنها حانثة من حين إرادتها والنطق بها، فالمؤاخذة مقارنة لها، بخلاف سائر الأيمان المعقودة، فإنه لا مواخذة عليها إلا عند الحنث فيها، فهي محاجة في تطبيق الآيتين عليها إلى تقدير بأن يقال: ولكن يؤاخذكم بالحنث فيما كسبت قلوبكم، وفي قوله {إِذَا حَلَفْتُمْ} أي: حلفتم وحنثتم.
الراجح:
الذي يظهر أن عدم إيجاب التكفير أقوى، ويُردُّ على أدلة المخالفين (5) بأن
(1) إسناده حسن: أخرجه البيهقي (10/ 38).
(2)
سورة البقرة: 225.
(3)
سورة المائدة: 89.
(4)
صحيح: تقدم في أول الباب.
(5)
مستفاد من «فقه الأيمان» لأخي في الله عصام جاد -حفظه الله- باختصار، وهناك بعض الردود الأخرى.
اليمين الغموس ليست بيمين حقيقة، لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة محضة، والكبيرة ضد المشروع، وإنما سميت يمينًا مجازًا، لوقوعها في صورة اليمين، ثم إن اليمين تكون غموسًا لأن فيها تعمُّد الكذب لا تعمد الحنث، فلا يسلم الاستدلال بالحديث.
ويؤيد أن اليمين الغموس ليس فيها إلا التوبة، ما تقدم في «باب اللعان» من قول النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين:«الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» (1) فلو كانت الكفارة واجبة على أحدهما بتعمد الكذب لكانت الحاجة إلى بيانها أشد من الحاجة إلى بيان التوبة كما لا يخفى، والله أعلم بالصواب.
ثالثًا: اليمين المنعقدة:
1 -
تعريفها: هي اليمين على أمرٍ في المستقبل غير مستحل عقلاً، سواء أكان نفيًا أو إثباتًا، نحو: والله لا أفعل كذا، أو: والله لأفعلن كذا.
ويكون الحالف قد عزم بقلبه أن يفعل أو لا يفعل ثم يخبر لسانه عن ذلك باليمين.
وقيل: ما لم تكن غموسًا أو لغوًا.
2 -
شروط اليمين المنعقدة (2): يشترط لتكون اليمين منعقدة، شروط بعضها يرجع إلى الحالف، وبعضها إلى المحلوف عليه، وبعضها إلى الصيغة، فهذه الثلاثة أركان اليمين:
(أ) الشروط في الحالف: يشترط في الحالف لتنعقد يمينه ما يلي:
1 -
البلوغ.
2 -
العقل.
3 -
الإسلام (عند الحنفية والمالكية): فلا تنعقد اليمين بالله تعالى من الكافر ولو ذميًّا -عندهم- وقال الشافعية والحنابلة: لا يشترط الإسلام لانعقاد اليمين أو بقائها، فلو حلف الذمي بالله ثم حنث -وهو كافر- لزمته الكفارة، لكن إن عجز عن الكفارة بالإطعام لم يكفِّر بالصوم حتى يسلم.
4 -
التلفظ باليمين: فلا يكفي كلام النفس عند الجمهور خلافًا لبعض المالكية.
(1) صحيح: تقدم في «اللعان» .
(2)
«البدائع» (3/ 10)، و «الدسوقي» (4/ 307)، و «نهاية المحتاج» (8/ 164)، و «المغنى» (11/ 161).
5 -
القصد: لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية، ولذلك أسقط الله تعالى الكفارة في يمين اللغو.
6 -
الاختيار: فلو أخطأ أو أُكره لم ينعقد ولم يؤاخذ على الراجح وهو قول الجمهور خلافًا للحنفية -لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1).
(ب) الشروط في المحلوف عليه:
1 -
أن يكون أمرًا مستقبلاً، لأن اليمين على الأمر الماضي ليس فيها كفارة على الأرجح -كما تقدم- ولقوله صلى الله عليه وسلم:«فيكفِّر، وليأت الذي هو خير» (2).
2 -
أن يكون المحلوف عليه أمرًا متصوَّر الوجود حقيقة عند الحلف (غير مستحيل).
(جـ) شروط في صيغة الحلف:
1 -
أن لا يكون القسم بمخلوق، وقد تقدمت أدلة هذا الشرط في أول الباب.
2 -
أن لا يفصل بين المحلوف به والمحلوف عليه بسكوت ونحوه.
3 -
خلوها من الاستثناء، أي: التعليق على مشيئة الله تعالى ونحو ذلك مما لا يتصور معه الحنث، وسيأتي بيانه، إن شاء الله.
3 -
حكم البَرِّ والحنث فيها:
اليمين المنعقدة إما أن تكون:
(أ) على فعل واجب أو ترك معصية، كقوله (والله لأصليَّن الظهر) أو (والله لا أسرق الليلة) فيجب البرُّ فيها، ويحرم الحنث بلا خلاف.
(ب) وإما أن تكون على فعل معصية أو ترك واجب، فيحرم البرُّ فيها ويجب الحنث.
ومن هذا الباب أن يحلف يمينًا تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه، ويكون الحنث ليس بمعصية، فينبغي له أن يحنث، فيفعل ذلك الشيء، ويكفر عن يمينه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«والله، لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يُعطى كفارته التي افترض الله عليه» (3).
(1) حسن: تقدم تخريجه.
(2)
صحيح: وسيأتي بتمامه وتخريجه.
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6624)، ومسلم (1655).
(جـ) وإما أن تكون على فعل مستحب أو ترك مكروه، كـ «والله لأصلين سُنة الصبح، أو: لا ألتفتُ في صلاتي» فيكون البرُّ مستحبًّا والحنث مكروهًا، وقيل: بل يجب البر ولا يجوز الحنث لقوله تعالى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1).
(د) وإما أن تكون على فعل مكروه أو ترك مستحب: فيستحب الحنث والتكفير ويُكره البرَّ فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا نها، فليكفِّر عن يمينه ويفعل» (2).
وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «وإذا حَلفتَ على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير» (3).
ومن هذا الباب: حلفَ أبي بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسْطَح -الذي قذف ابنته عائشة رضي الله عنها ظلمًا وزورًا- فنزل قوله تعالى {وَلا يَاتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى
…
} (4)(5).
(هـ) وإما أن تكون على فعل مباح، فالبرُّ أفضل، ما لم يكن فيه أذيَّة، وما لم يكن في الحنث خيرًا، للأحاديث المتقدمة، والله أعلم.
الحلف على الغير، وإبرار المُقسم:
قد يحلف الإنسان على فعل أو ترك منسوبَين إلى غيره، فيقول: والله لتفعلنَّ أو لا تفعل كذا، فإن كان حلف عليه أن يفعل واجبًا أو أن يترك محرَّمًا وجب إبراره، وإن حلف عليه أن يفعل محرَّمًا أو يترك واجبًا، لم يجز إبراره، ولو حلف على مكروه كُره إبراره، أما إذا حلف عليه أن يفعل مندوبًا أو مباحًا أو يترك مكروهًا أو مباحًا، فإنه يستحب إبرار قسمه لحديث البراء رضي الله عنه قال:«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المُقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام» (6).
(1) سورة المائدة: 89.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1650)، والترمذي (1530).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (6622)، ومسلم (1652).
(4)
سورة النور: 22.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (4750)، ومسلم (2770) من حديث عائشة الطويل في قصة الإفك.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (6654)، ومسلم (2066).
وظاهر الأمر بإبرار المقسم للوجوب إلا أنه مصروف إلى الاستحباب بحديث ابن عباس في قصة تأويل أبي بكر لرؤيا رآها رجلٌ -في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال أبو بكر: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأتُ في الرؤيا، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تقسم» (1).
يعني: لا تكرر القسم، لأنني لن أجيبك، ولعل هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل خلاف المستحسن إلا بقصد بيان الجواز، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم يبرُّ بقسم الناس، ففي حديث المغيرة بن شعبة: «
…
قلت: يا رسول الله، أقسمتُ عليك لما أعطيتني يدك، فناولني يده، فأدخلتُها في كمي حتى انتهيت إلى صدري فوجده معصوبًا، فقال:«إن لك عذرًا» (2).
إذا لم يبرَّ قسم أخيه، فهل يلزم الحالف كفارة؟
1 -
إذا قال لأخيه: بالله افعل كذا، أو أسألك بالله لتفعلن، فهذا طلب محض وسؤال وليس بيمين، فلا كفارة فيه، وفي الحديث:«من سألكم بالله فأعطوه» ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله.
2 -
إذا قال: والله لتفعلن كذا، فأحنثه، فقيل: يلزم الحالف كفارة، وهو منقول عن عمر وأهل المدينة وعطاء وقتادة والأوزاعي والشافعي (3)، وقال ابن حزم: لا كفارة عليه لأنه لم يقصد الحنث، ويؤيده حديث أبي بكر المتقدم، والله أعلم.
4 -
ما يترتَّبُ على البرِّ والحنث:
اليمين المنعقدة إذا برَّ فيها الحالف -أي: فعل ما أقسم عليه- فلا شيء عليه ولا تلزمه كفارة.
أما إذا حنث -أي خالف المحلوف عليه، بثبوت ما حلف على عدمه، أو عدم ما حلف على ثبوته- لزمته الكفارة.
هل يمنع الحنثَ: النسيانُ والخطأ والإكراه؟
من حلف أن لا يفعل أمرًا ففعله ناسيًا أو مخطئًا -أي: معتقدًا فعل غيره- أو مكرهًا- فالصحيح أنه لا يحنث بشيء من ذلك، لحديث:«إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4).
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (2293)، وأبو داود (3268)، وابن ماجه (3918).
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (3826)، وأحمد (4/ 249)، والبيهقي (3/ 77).
(3)
«المغنى» (11/ 247)، وانظر «المحلى» (8/ 35).
(4)
حسن: تقدم تخريجه.
ولقوله تعالى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} (1) وفي الحديث أن الله تعالى قال: «قد فعلت» وفي رواية: «نعم» (2).
ولقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (3).
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة -في الجملة- وبه قوال ابن حزم (4).
الاستثناء في اليمين:
المراد بالاستثناء هنا: التعليق بمشيئة الله تعالى أو نحو ذلك من كل لفظ لا يتصوَّر معه الحنث في اليمين، كما لو قال الحالف عقب حلفه: إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله، أو: إن أعانني الله، أو: إن يسَّر الله، ونحو ذلك.
والاستثناء إذا كان متصلاً باليمين أبطله، فلا يحنث فيه، عند أكثر أهل العلم، بل نقل غير واحد الإجماع على ذلك (5).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء اله، لم يحنث» (6) وقد أُعلَّ، لكن يشهد له حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سليمان عليه السلام إذ قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل تلد غلامًا يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه: «قل إن شاء الله
…
الحديث» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركًا لحاجته» (7).
فائدة (8):
جوَّز بعض العلماء الاستثناء بعد انفصال اليمين بزمن يسير، لهذا الحديث، وأجيب عن ذلك: بأن يمين سليمان طالت كلماتها فيجوز أن يكون قول صاحبه له: «قل: إن شاء الله» وقع في أثنائه، فلا يبقى فيه حجة.
(1) سورة البقرة: 286.
(2)
صحيح: تقدم كثيرًا.
(3)
سورة البقرة: 225.
(4)
«الوجيز» للغزالي (2/ 229)، و «مطالب أولي النهى» (6/ 369)، و «المحلى» (8/ 35).
(5)
«التمهيد» (14/ 372)، و «المغنى» (11/ 226)، و «فتح الباري» (11/ 602).
(6)
إسناده صحيح وأعلَّه البخاري: أخرجه الترمذي (1532)، والنسائي (7/ 30)، وابن ماجه (2104)، وقد أعلَّه البخاري بأن عبد الرزاق اختصره من حديث معمر في قصة سليمان -وهو الآتي بعده- قلت: ويحتمل أن يكونا حديثين، وانظر «الإرواء» (8/ 197).
(7)
صحيح: أخرجه البخاري (6720)، ومسلم (1654).
(8)
«الفتح» (11/ 605)، و «سبل السلام» (4).
فالصحيح ما ذهبت إليه الجماهير من أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً، ولو جاز منفصلاً -كما قال بعض السلف- لم يحنث أحد في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، واختلفوا في زمن الاتصال، فقال الجمهور: هو أن يقول: إن شاء الله، متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا يضره التنفس، والله أعلم.
والحاصل (1): أن من استثنى في يمينه لم يحنث، ويشترط في هذا الاستثناء ما يلي:
1 -
أن يكون متصلاً باليمين، فلا يفصل بسكوت يمكن الكلام فيه، ولا يفصل بكلام أجنبي.
2 -
ويستثنى بلسانه، ولا ينفعه بقلبه.
3 -
أن يقصد الاستثناء، ولا يشترط أن يقصده من أول الكلام.
4 -
لا فرق بين تقديم الاستثناء على اليمين أو تأخيره.
اليمين على نية الحالف أم المستحلف؟ (2)
المتحصل من كلام أهل العلم في المسألة، أن الحالف له حالتان:
1 -
أن لا يكون هناك مستحلفٌ له أصلاً: بل هو حلف على الشيء ابتداءً، فالمرجح إلى نيَّته، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» ، فإذا نوي بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقًا لظاهر اللفظ أو مخالفًا له.
2 -
أن يكون قد استحلفه القاضي أو غيره فيما يتعلق بالحقوق: فإن اليمين تنعقد على ما نواه المستحلف -لا الحالف- ولا تنفع الحالفَ التورية في هذه الحالة، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك» وفي رواية: «اليمين على نية المستحلف» (3) وإلا لم تكن لليمين عند القاضي معنى، ولضاعت الحقوق.
(1)«فقه الأيمان» لعصام جاد (ص: 188 - 189) بتصرف يسير.
(2)
«المغنى» (11/ 242، 283)، و «البدائع» (3/ 99)، و «الدسوقي» (2/ 138)، و «شرح مسلم» للنووي.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1653)، وأبو داود (3255)، والترمذي (1354)، وابن ماجه (2120 - 2121) وغيرهم.