الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويستثنى من هذا: إذا كان المستحلف ظالمًا للحالف أو غيره، فحينئذٍ يجوز للحالف التورية لحفظ حقٍّ أو نصرة مظلوم:
كما في حديث سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل ابن حجر، فأخذه عدو له فتحرَّج القوم أن يحلفوا، وحلفتُ أنه أخي فخلىَّ سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنَّ القم تحرَّجوا أن يحلفوا وحلفتُ أنه أخي، قال:«صدقتَ، المسلم أخو المسلم» (1).
ولأن الظالم ليس له حقُّ التحليف، فجازت التورية.
كفَّارة اليمين
تعريفها ومشروعيتها:
الكفَّارة مشتقة من الكفر وهو الستر والتغطية، وكفارة اليمين ما يجب بالحنث فيها، وسميت بذلك لأنها تكفِّر أي تغطي إثم الحنث، فلا يؤاخذ به يوم القيامة.
وكفارة اليمين بالله تعالى إذا حنث فيها -وهي منعقدة- ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه، حيث قال:
فبيَّنت الآية الكريمة أن كفارة اليمين المعقودة واجبة على التخيير -ابتداءً- في:
1 -
الإطعام 2 - الكسوة 3 - تحرير الرقبة (العتق).
فغن عجز عن الثلاث وحب صيام ثلاثة أيام، ولا يجوز التكفير بالصيام إلا بعد العجز عن الثلاث الأولى، وعلى هذا إجماع العلماء.
وإليك أهم ما يتعلق بهذه الخصال من مسائل:
1 -
الإطعام:
(أ) عدد المساكين الواجب إطعامهم (3): جاء في الآية الكريمة أن الكفارة
(1) صححه الألباني: وقد تقدم.
(2)
سورة المائدة: 89.
(3)
«المبسوط» (8/ 150)، و «الأم» (7/ 91)، و «المغنى» (11/ 258)، و «المحلى» (8/ 72)، و «فقه الأيمان» (ص 214 - 216).
تكون بإطعام عشرة مساكين، فهل يجزئ أن يطعم مسكينًا واحدًا عشر مرات أو مسكينين خمس مرات وهكذا؟ قولان للعلماء، والأظهر أنه يلزم إطعام عشرة لظاهر الآية الكريمة، وهو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور- وابن حزم، وقال أبو حنيفة- وهو الرواية الأخرى عن أحمد- يجزئ إطعام مسكين عشر مرات بشرط أن تدفع إليه جملة واحد (!!).
(ب) نوع الطعام ومقداره (1): اختلفت مذاهب الأئمة في تقدير الإطعام في الكفارة، فذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى أن الكفارة بالإطعام مقدرة بالشرع، فمذهب أبي حنيفة: أنه يطعم كل مسكين صاعًا (أي من قمح أو تمر أو شعير أو دقيق)، ومذهب الشافعي: يجزئ المُدُّ، وهو قول الحنابلة، وحجتهم في التقدير بالمد، حديث نافع قال:«كان ابن عمر يعطى زكاة رمضان بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم المدِّ الأول، وفي كفارة اليمين بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم» (2) وحجة من قدر بالصاع أثر عمر بن الخطاب أنه كان: «يطعم عشرة مساكين -كل مسكين- صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو نصف صاع من قمح» (3).
بينما ذهب الإمام مالك وابن حزم -واختاره شيخ الإسلام- إلى أن الإطعام مقدَّر بالعرف لا بالشرع فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرًا ونوعًا، لقوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (4) قال شيخ الإسلام (35/ 349):«.. والمنقول عن الصحابة والتابعين هذا القول، ولهذا كانوا يقولون: الأوسط خبز ولبن، خبز وسمن، خبز وتمر، والأعلى خبز ولحم، وقد بسطنا الآثار عليهم (5) في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ....» اهـ.
وقال (35/ 353): «.. والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس
(1)«ابن عابدين» (3/ 478)، و «روضة الطالبين» (8/ 304)، و «المدونة» (2/ 39)، و «المحلى» (8/ 72)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 349).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6713).
(3)
صحيح: أخرجه عبد الرزاق (10675)، والطبري (5/ 13).
(4)
سورة المائدة: 89.
(5)
انظر هذه الآثار في «تفسير الطبري» (5/ 12 - 13)، و «مصنف عبد الرزاق» (8/ 507) وما بعدها، و «سنن البيهقي» (10/ 55)، وقد أورد أخونا عصام ما صحَّ عنده منها في «فقه الأيمان» (ص 217 - 219).
وعادتهم، فقد يجزئ في بلد ما أوجبه أبو حنيفة، وفي بلد ما أوجبه أحمد، وبلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته عملاً بقوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (1).
قلت: وهذا هو الصواب لما تقدم، ولا يعارضه ما كفَّر به بعض الصحابة فإن هذا كان عرف بلدهم، ولذا قال مالك: أما عندنا ههنا فليكفر بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم في اليمين، وأما أهل البلدان فإن لهم عيشًا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم.
(جـ) هل يجزئ إطعام المساكين أو لابد من تمليكهم الطعام؟ (2)
1 -
ذهب جمهور العلماء (مالك والشافعي وأحمد) أنه لابد من تمليك المساكين الطعام، ولو غداهم أو عشَّاهم لم يجزئه -عندهم- لأن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم كلَّ مسكين مدًّا، ولأنه مال وجب للفقراء شرعًا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة، ولأن التمليك يسمى إطعامًا كما في الحديث:«أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدَّ السدس» (3).
2 -
بينما ذهب أبو حنيفة -ورواية عن مالك- والثوري والأوزاعي والحسن وغيرهم أنه يجزئ أن يُغدِّيهم أو يعشيِّهم، وهو اختيار شيخ الإسلام، لأن المقصود حقيقة الإطعام لا التمليك، وهو المنصوص عليه، ولأن التمكين من الطعام إطعام، قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (4) فبأي وجه أطعمه دخل في الآية، نعم في التمليك تمام الإطعام، فيتأدَّى الواجب بكل منهما.
قلت: وهذا أصحُّ، فلو غدَّى عشرة المساكين أو عشَّاهم من الطعام الذي يعتادون طبخه في المتوسط، فقد أدَّى الكفارة وأجزأت عنه، والله أعلم.
2 -
الكسوة:
ويجزئ منها ما يصدق عليه مسمَّى الكسوة (اللباس) مما يلبسه المساكين عادة، وقدرها مالك وأحمد بأن تكون ساترة لعورته في الصلاة رجلاً كان أو امرأة (5).
(1) سورة المائدة: 89.
(2)
«المبسوط» (7/ 15)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 651)، و «روضة الطالبين» (8/ 307)، و «الفتاوى» (33/ 350).
(3)
حديث ضعيف: انظر «الإرواء» (6/ 121).
(4)
سورة الإنسان: 8.
(5)
«المدونة» (2/ 44)، و «الأم» (8/ 92)، و «المغنى» (11/ 260)، و «المحلى» (8/ 75) وفيه كلام نفيس.
فائدة: لا يجزئ إخراج القيمة بدلاً من الإطعام والكسوة: وبهذا قال الجمهور خلافًا لأبي حنيفة (1).
3 -
تحرير الرقبة: أي إعتاق العبد وتحريره، وقد اشترط الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- أن تكون رقبة مسلمة، حملاً للمطلق في آية كفارة اليمين على المقيد في كفارة القتل والظهار، إذ قال تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} (2).
قلت: حمل المطلق على المقيد عند اتفاق الحكم واختلاف السبب فيه نزاع أصولي (3)، والصحيح أنه لا يحمل عليهن فيترجَّح مذهب أبي حنيفة، فلا يشترط في الرقبة المعتقة في كفارة اليمين أن تكون مسلمة، والله أعلم.
4 -
الصيام (بعد العجز عن واحدة مما تقدم):
فإن عجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق، فإنه يصوم ثلاثة أيام.
وهل يلزم صيامها متتابعة؟ (4)
ذهب أبو حنيفة والثوري وأحمد -في ظاهر المذهب- إلى وجوب تتابع الأيام الثلاثة، واحتجوا بقراءة ابن مسعود وأُبيٍّ أنهما قرآ قوله تعالى «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» قالوا: إن هذا قرآنًا فهو حجة، وإن لم يكن قرآنًا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ يحتمل أنهما سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرًا فظناه قرآنًا، وعلى كلا التقديرين فهو حجة (!!).
قالوا: ولأنه صيام في كفارة فوجب فيه التتابع ككفارة القتل والظهار (!!).
بينما ذهب مالك والشافعي -في الأظهر- وأحمد في رواية وابن حزم إلى عدم وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، وحجتهم: أن الصوم غير مشروط بالتتابع في المصاحف التي بين أيدينا، وقراءة ابن مسعود وأُبيٍّ شاذه لا حجة فيها، فمن صام ثلاثة أيام على أي صفة أجزأه.
(1)«الأم» (7/ 91)، و «المدونة» (2/ 40)، و «المحلى» (8/ 69)، و «المغنى» (11/ 256)، و «المبسوط» (8/ 154).
(2)
سورة النساء: 92.
(3)
راجع المسألة أصوليًّا في «البحر المحيط» للزركشي (5/ 15 - 22) ط. دار الكتبي.
(4)
«المبسوط» (3/ 75)، و «المدونة» (2/ 43)، و «الأم» (7/ 94)، و «المغنى» (11/ 273)، و «المحلى» (8/ 75).
ولأن حمل المطلق على المقيد مع اختلاف السبب لا يصح كما تقدم الإشارة إليه، قلت: وهذا هو الراجح أنه لا يلزم التتابع في صيام كفارة اليمين، وقد كان يلزم مالكًا والشافعي -رحمهما الله- يقولا بمثل هذا في تحرير الرقبة فلا يشترطا أن تكون مسلمة، وقوفًا مع النص لا سيما مع اختلاف السبب.
الكفارة تجزئ قبل الحنث وبعده:
لا خلاف بين أهل العلم في أن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث، ثم اختلفوا فيما لو قدَّم الكفارة على الحنث هل تجزئه؟ فالجمهور على أنها تجزئ، وإن كان الأولى تأخيرها لبعد الحنث، وهذا القول منسوب لأربعة عشر صحابيًّا وعدد كبير من التابعين.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجزئ قبل الحنث، وقال الشافعي: لا تجزئ بالصوم، وتجزئ فيما عداه (1).
قلت: والصواب -هنا- قول الجمهور فلو كفَّر عن يمينه قبل الحنث -وبعد اليمين- أجزأه وألفاظ الأحاديث تؤيد هذا المذهب، ففي حديث عبد الرحمن بن سمرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين فكفِّر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» (2).
وهو صريح في تقديم الكفارة على الحنث بل في وجوب ذلك، لولا الإجماع على خلافه، وإن كان الأولى تأخيرها خروجًا من الخلاف، والله أعلم.
هل تتعدد الكفارة بتعدد اليمين؟ (3)
1 -
لا خلاف في أن من حلف يمينًا فحنث فيها، وأدَّى ما وجب عليه من الكفارة، أنه لو حلف يمينًا أخرى وحنث فيها تجب عليه كفارة أخرى.
2 -
إذا حلف أيمانًا على أمور مختلفة، فالصواب أنه إذا حنث في واحدة منها فعليه كفارتها، وإذا حنث في أخرى لزمه كفارة أخرى وهكذا، ولا تتداخل الكفارات، لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفَّر إحداها بكفارة الأخرى.
(1)«المدونة» (2/ 38)، و «المغنى» (11/ 222)، و «المحلى» (8/ 67)، و «المبسوط» (8/ 148)، و «شرح مسلم» للنووي.
(2)
صحيح: أخرجه النسائي (7/ 10)، وأبو داود (3278).
(3)
«ابن عابدين» (3/ 417)، و «بداية المجتهد» (1/ 578)، و «المغنى» (11/ 212)، و «المحلى» (8/ 53)، و «الإنصاف» (11/ 180)، و «مجموع الفتاوى» (33/ 319).