الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: الذي يظهر أن أدلة الموجبين ليست قوية في الدلالة على الوجوب، وعليه فالقول قول الصحابة رضي الله عنهم وجمهور أهل العلم.
ما يُضَحَّى به
1 -
لا يجزئ في الأضحية إلا الأنعام: وهي الإبل، والبقر، والضأن، والمعز لقوله تعالى:{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (1)، وقد نقل جماعة من أهل العلم الإجماع على أن الأضحية لا تصح إلا بها، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح أنه يجوز أن يُضحى ببقر الوحش وبالضب، وبه قال داود في بقر الوحش، وأجازه ابن حزم بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع أو طائر (!!) واحتج بقول بلال رضي الله عنهم:«ما كنت أبالي لو ضحيت بديك ..» (2).
قلت: ومذهب الجماهير هو المتعيِّن للآية الكريمة، ولأنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بغير الإبل والبقر والغنم.
(أ، ب) أما الإبل والبقر: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ضحَّوا بها، والجمهور على أنه يجوز أن يشترك سبعة في بقرة أو بدنة، وأنها تجزئ عنهم، لما يأتي:
1 -
حديث جابر بن عبد الله قال: «نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (3).
2 -
وعنه قال: «كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة، فنذبح، البقرة عن سبعة نشترك فيها» (4).
فوائد:
1 -
ذهب إسحاق وابن خزيمة وغيرهم إلى أن البدنة تجزئ عن عشرة، لحديث ابن عباس قال:«كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة وفي البعير عشرة» (5).
(1) سورة الحج: 34.
(2)
إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8156)، وابن حزم في «المحلى» (7/ 358).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1318)، وأبو داود (2809)، والترمذي (904)، وابن ماجه (3132).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1318)، وأبو داود (2807)، والنسائي (7/ 222).
(5)
إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1501)، والنسائي (7/ 222)، وابن ماجه (3131).
وقال الشوكاني تجزئ البدنة عن عشرة في الأضحية، وعن سبعة في الهدي، جمعًا بين الأدلة، والجمهور اقتصروا على السبعة قياسًا على الهدي، وقال شيخنا:«وإن صحَّ حديث ابن عباس فالقول عليه إذ هو صريح في بابه، ولكن في نفسي منه شيء، وذلك لتفرد حسين بن واقد به، وهو وإن كان ثقة -على الإجمال- لكن قال فيه أحمد: في أحاديث زيادة لا أدري أيش هي» اهـ (1).
قلت: قد يتأيد حديث ابن عباس، بحديث رافع بن خديج قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل في قسم الغنائم: عشرًا من الشاء ببعير ..» (2).
2 -
اشترط الإمام مالك رحمه الله خلافًا للجمهور- فيمن يشترك في البدنة أو البقرة أن يكونوا من بيت واحد!!
وفيه نظر لأن في حديث جابر المتقدم: «نحرنا بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وقد كانوا أشتاتًا من قبائل شتى، ولو اتفقت قبائلهم لم تتفق بيوتهم، ولو اتفقت لتعذر أن يستكمل عدد كل بيت سبعة حتى لا يزيدوا عليهم ولا ينقصوا عنهم (3).
3 -
أجاز الجمهور -خلافًا لأبي حنيفة- أن يشترك بعض السبعة بنية القُربة وبعضهم بنيَّة إرادة اللحم، لأن كل ما جاز أن يشترك فيه السبعة إذا كانو متقربين جاز أن يشتركوا فيه وإن كان بعضهم غير متقرب كالسبعة من الغنم، ولأن سهم كل واحد معتبر بنيته لا بنية غيره، لأنهم لو اختلفت قربهم فجعل بعضهم سهمه عن قران وبعضهم عن تمتع وبعضهم عن حلق وبعضهم عن لباس جاز، كذلك إذا جعل بعضهم سهمه لحمًا، لأن نية غير المتقرب لا تؤثر في نية المتقرب (4).
4 -
السِّنُّ المجزئة في الإبل والبقر:
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مُسِنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (5).
والمُسنة: هي الثني من كل شيء، من الإبل والبقر والغنم فما فوقها، والثنية
(1)«فقه الأضحية» (ص: 85) الحاشية.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2488).
(3)
«الحاوي» للماوردي (19/ 145 - 146)، و «فقه الأضحية» (ص: 89 - 90).
(4)
«الحاوي» للماوردي (19/ 145 - 146)، و «فقه الأضحية» (ص: 89 - 90).
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وأبو داود (2797)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه (3141).
من البقر ما لها سنتان ودخلت في الثالثة، والثنية من الإبل ما لها خمس سنين ودخلت في السادسة، فلا يجزئ ما دون ذلك فيهما» (1).
(جـ) وأما الضأن: فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحى بكبشين أملحين
…
» (2) وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد، فأتى به ليضحي به، فقال لها:«يا عائشة هلمِّي المُدْية» ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال:«بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحَّى به» (3).
وعن عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون، حتى تباهى الناس فصارت كما ترى» (4).
عن عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبت به أمه زينبُ بنت حميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هو صغير» فمسح رأسه ودعا له، وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله (5).
وقد ذهب إلى أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا: مالك والشافعي وأحمد، وكرهه أبو حنيفة والثوري (!!).
السنُّ المجزئة في الضأن:
تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تذبحوا إلا مُسنَّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (6).
فدل على أنه لا يجزئ في الأضحية ما دون المسنة -والمسنة هي الثنية، والثنية من الضأن: ما له سنة ودخل في الثانية- لكن إذا تعسَّر الثني من الضأن أجزأ الجذع -وهو ما له ستة أشهر- وعلى هذا جماهير أهل العلم لكنهم أجازوا الجذع
(1)«المبسوط» (12/ 9)، و «المدونة» (2/ 2)، و «الحاوي» (19/ 89)، و «المغنى» (9/ 348).
(2)
صحيح: تقدم قريبًا.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1967) بغيره.
(4)
صحيح: صحيح: أخرجه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، والبيهقي (9/ 268).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (7210)، وأبو داود (2942) مختصرًا، وأحمد (4/ 233).
(6)
صحيح: أخرجه مسلم (1963)، وغيره وقد تقدم.
من الضأن مطلقًا ولو لم يعجز عن المسنة!! وحملوا هذا الحديث على الاستحباب، واستدلوا بجملة أحاديث تفيد جواز الأضحية بجذع الضأن مطلقًا، وأسانيدها ضعيفة، والأظهر أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا عند العجز عن المسنة لظاهر الحديث وضعف المخالف، والله أعلم (1).
(د) وأما المعز:
فيجزئ منه الثنى فما فوقه، للحديث المتقدم، وأما الجذع من المعز فلا يجزئ في الأضحية بإجماع أهل العلم (2).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«شاتك شاة لحم» فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنًا جذعة من المعز، قال:«اذبحها ولا تصلح لغيرك»
…
الحديث (3).
وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يُقسِّمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود (4) فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«ضَحِّ به أنت» (5) وهذا حمله العلماء على الخصوصية لعقبة بن عامر لقوله «ضحِّ به أنت» ، ويؤيده أن في الحديث زيادة عند البيهقي، «.. ولا رخصة فيها لأحد بعدك» (6).
2 -
العيوب التي تُردُّ بها الأضحية:
تنقسم العيوب التي تكون في الأضاحي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: عيوب تردُّ بها الأضحية، ولا تجزئ معها: وهي أربعة، نصت السنة على عدم إجزائها:
1 -
العوراء البيِّن عورها: فإن غطَّى البياض أكثر ناظرها، بحيث بقي أقله لم تجزئ. ولا تجزئ العمياء من باب أولى.
2 -
المريضة البيِّن مرضها: فإن كان مرضها خفيفًا أجزأت.
(1) انظر «المبسوط» (12/ 9)، و «المدونة» (2/ 2)، و «الحاوي» (19/ 89)، و «المغنى» (9/ 348).
(2)
نقله الترمذي في «السنن» (4/ 194)، وابن عبد البر في «التمهيد» (23/ 185) لكن خالف عطاء والأوزاعي!!
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (5556)، ومسلم (1961).
(4)
هو الجذع من المعز.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (5555)، ومسلم (1965).
(6)
انظر: «فتح الباري» (10/ 17)، و «مشكل الآثار» (14/ 416)، و «سنن البيهقي» (9/ 70).
3 -
العرجاء البيِّن عرجها: ومقطوعة ومكسورة الأرجل من باب أولى.
4 -
الهزيلة التي لا تنقى: أي التي لا مخ لها لضعفها وهزالها.
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة لا يجزين في الأضاحي: العوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ظلعها، والكسيرة التي لا تنقى» (1).
وهذه العيوب تُردُّ بها الأضحية ولا تجزئ باتفاق أهل العلم (2).
الثاني: عيوب تُكره في الأضحية، لكنها تجزئ:
1 -
مقطوعة الأذن أو جزء منه: والجمهور على أنها لا تجزئ، وفيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حصر عدم الإجزاء في العيوب الأربعة المتقدمة، وإنما قال عليٌّ رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن» (3).
فدلَّ على أنه يُجتنب ما فيه ثقب أو شق أو قطع، وليس فيه عدم الإجزاء.
واختلفوا في السَّكَّاء، وهي التي خلقت بلا أذنين، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أنها إذا لم تكن لها أذن خلقة لم تجز، وإن كانت صغيرة الأذنين جازت (4).
2 -
مكسورة القرن أو أكثره: وجمهور العلماء على جواز الأضحية بمكسورة القرن إن كان لا يدمي، فإن كان يدمي، فقد كرهه مالك، وكأنه جعله مرضًا بيِّنًا (5).
قلت: قد ورد في بعض روايات حديث عليٍّ المتقدم النهي عن مكسورة القرن، وهي ضعيفة.
الثالث: عيوب لا أثر لها: لم يصح النهي عنها، لكنها تنافي كمال السلامة، فتجزئ في التضحية ولا تحرم، وإن كان من أهل العلم من لم يجزها، كالهتماء (التي لا أسنان لها) والبتراء (مقطوعة الذنب أو الألية) والجدعاء (مقطوعة الأنف) والخصي وغير ذلك.
(1) صحيح: أخرجه النسائي (7/ 215)، وابن ماجه (3144)، وأحمد (4/ 284).
(2)
«التمهيد» (20/ 168)، و «المغنى» (9/ 349)، و «المجموع» (8/ 404).
(3)
حسن بطرقه: أخرجه النسائي (7/ 217)، وأحمد (1/ 95) ومواضع، والترمذي (1498)، وأبو داود (284)، وابن ماجه (3142) وغيرهم.
(4)
«الاستذكار» (15/ 128)، و «ابن عابدين» (9/ 467)، و «المجموع» (8/ 401).
(5)
«الاستذكار» لابن عبد البر (15/ 132).
3 -
ما يستحب في الأضحية (صفات الكمال في الأضحية)(1):
(أ) يستحب للتضحية الأسمن والأكمل: حتى إن التضحية بشاة سمينة أفضل من شاتين دونها، لأن المقصود اللحم، والسمين أكثر وأطيب، وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم، ومما قد يدل على استحباب الأسمن:
1 -
قوله تعالى {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) فقد استدل به الشافعي رحمه الله على استحباب تعظيم الهدى واستسمانه (3).
2 -
وعن أبي أمامة بن سهل قال: «كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون» (4).
(ب) الأفضل في الأنعام:
ذهب الجمهور -خلافًا لمالك- إلى أن أفضل الضحايا: الإبل ثم البقر ثم الغنم، واستدلوا بجملة أدلة منها:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرَّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن
…
» (5).
2 -
وحديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها
…
» (6).
وقال المالكية: أفضلها الضأن ثم البقر ثم الإبل نظرًا لطيب اللحم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحَّى بكبشين أملحين
…
» (7)، واستدلوا بقوله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (8) قال: أي بكبش عظيم.
(1)«روضة الطالبين» (2/ 465)، و «الحاوي» (19/ 92)، و «المغنى» (9/ 347)، و «المحلى» (7/ 370).
(2)
سورة الحج: 32.
(3)
«الحاوي» (19/ 94).
(4)
إسناده حسن: علَّقه البخاري (10/ 12) بصيغة الجزم، ووصله أبو نعيم في «مستخرجه» كما في «التعليق» (5/ 6).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850).
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84).
(7)
صحيح: تقدم قريبًا.
(8)
سورة الصافات: 107.
قلت: والأول أظهر لكن قد يقال: إن التضحية بشاة أفضل من المشاركة في بدنة والله أعلم.
(جـ) أفضلها البيضاء ثم العفراء ثم السوداء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم «ضحَّى بكبشين أملحين» والأملح: الأبيض الخالص البياض.
قال شيخ الإسلام (26/ 308): «والعفراء أفضل من السوداء، وإذا كان السواد حول عينيها وفمها وفي رجليها أشبهت أضحية النبي صلى الله عليه وسلم» اهـ. قلت: يشير إلى حديث عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد فأتى به ليضحى به
…
» الحديث (1).
قال النووي: معناه أن قوائمه وبطنه وحول عينيه أسود، والله أعلم. اهـ.
(د) التضحية بالذكر أفضل من الأنثى، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في أفضل الرقاب:«أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها ..» وقد تقدم.
تقليم الأظفار والأخذ من الشعر لمن أراد أن يضحي:
عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يُضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا» (2).
وقد اختلف العلماء فيمن دخلت عليه عشر ذي الحجة وهو يريد أن يضحي (3)، فقال ابن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي: يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يُضحي، لظاهر هذا الحديث.
وذهب مالك والشافعي وأصحابه إلى أن هذا مكروه -كراهة تنزيه- وليس مُحرَّمًا، لحديث عائشة رضي الله عنها:«كنتُ أفتل قلائد بُدن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقلده ويبعث به، ولا يحرم عليه شيء أحلَّه الله حتى ينحر هديه» (4).
قالوا: وأجمعوا على أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المُحرِم، فدلَّ على الاستحباب والندب، دون الحتم والإيجاب.
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1967)، وغيره.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1977)، وغيره وقد تقدم.
(3)
«شرح مسلم للنووي» (3/ 138)، و «المغنى» (9/ 346)، و «معالم السنن» (2/ 196) و «فقه الأضحية» (ص: 99).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1698)، ومسلم (1321).
وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك لا يُكره!!
قلت: هو دائر بين التحريم والكراهة، ووجه الأول: أن قص الشعر وما يُفعل نادرًا غير مراد في خبر عائشة وإنما أرادت ما يباشرها به وما يفعله دائمًا من اللباس والطيب ونحوه.
فائدتان (1):
1 -
المراد بالنهي عن أخذ الظفر يشمل إزالته بالقلم والكسر ونحوه، والمنع من أخذ الشعر يشمل الحق والتقصير والنتف ونحوه، وسواء في ذلك شعر الإبط والشارب والعانة والرأس غير ذلك من شعور البدن.
2 -
الحكمة في النهي: أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبُّه بالمُحرِم، وفيه نظر، لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المُحرِم.
وقت الأُضحية:
أجمع أهل العلم على أن الأضحية لا يجوز ذبحها قبل طلوع الفجر من يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك (2).
1 -
فقال الشافعي وداود وابن المنذر وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواءً صلى الإمام أم لا، وسواء صلَّى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو القرى أو البوادي.
2 -
وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه.
3 -
وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه.
4 -
وقال أحمد: لا يجوز قبل الصلاة، ويجوز بعدها، قبل ذبح الإمام.
(1)«شرح مسلم» للنووي (3/ 138) ط. إحياء التراث العربي.
(2)
«الإجماع لابن المنذر» (64)، و «التمهيد» (23/ 162)، و «شرح مسلم» (13/ 110)، و «المحلى» (7/ 374).
قلت: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمَّ نُسكُه، وأصاب سنة المسلمين» (1).
وعن البراء بن عازب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: «إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب سنَّتنا، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله، ليس من النسك في شيء» فقال أبو بريدة: يا رسول الله، ذبحتُ قبل أن أصلين وعندي جذعة خير من مسنة، فقال:«اجعلها مكانها، ولن تجزئ عن أحد بعدك» (2).
والحديثان يدُلَاّن على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة -لمن تقام فيهم صلاة العيد- ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام، فإن الإمام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطًا على الناس مشروعية النحر، ولو أن الإمام نحو قبل أن يصلي لم يجزئه نحره، فدلَّ عن أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء (3).
وأما حديث جابر قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم» (4) فقد تأوَّله الجمهور على أن المراد: زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت، وبهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وأن من ضحى بعدها أجزأه ومن لا فلا.
آخر وقت الأضحية:
اختلف العلماء في آخر وقت للأضحية على نحو الاختلاف الذي تقدم في «كتاب الحج» في أيام النحر، والذي يظهر أن التضحية تمتد إلى آخر أيام التشريق (الثالث عشر من ذي الحجة) وإن كان الأحوط أن تفعل في يوم النحر، للإجماع على إجزائها فيه، والله أعلم.
مكان الذبح والنحر:
يُشرع -بعد صلاة العيد- أن يذبح المضحي أو ينحر في أي مكان شاء، في منزله أو غيره، كما يُشرع أن يذبح في المصلى، كما في حديث جندب بن سفيان
(1) صحيح: أخرجه البخاري (5546)، ومسلم (1962).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (5560)، وقد تقدم.
(3)
«الفتح» (10/ 24) بنحوه، وانظر «الأم» (2/ 332).
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1964)، وأحمد (3/ 294)، و «المحلى» (7/ 374).
قال: شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته سلَّم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذُبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال:«من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح بسم الله» (1).
فظاهره أنهم ذبحوا في المصلى.
ويستحب للإمام أن يذبح بالمصلى ليعلموا أن الضحية قد حلَّت، وليتعلموا منه صفة الذبح، فعن ابن عمر قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى» (2).
ما ينتفع به من الأضحية:
1 -
الأكل منها.
2 -
التصدق على الفقراء.
3 -
الإدِّخار من لحمها.
قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (3).
وعن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء» فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: «كلوا، وأطعموا، وادَّخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردتُ أن تعينوا فيها» (4).
والأمر بالأكل والإطعام والادخار هنا للندب لا للوجوب -عند الجمهور- فيستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته ويدَّخر ويُطعم، وذهب أكثرهم إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل الثلث هو وأهله، وقد ورد في هذا آثار ضعيفة، وعلى كلٍّ فله أن يقسِّمها كما شاء، ولو تصدَّق بها كلها جاز، فعن عليٍّ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدنْه، وأن يقسم بُدنه كلها لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى في جزارتها شيئًا» (5).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1960)، والنسائي (7/ 214).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (5552)، وأبو داود (2811)، والنسائي (7/ 213)، وابن ماجه (3161).
(3)
سورة الحج: 28.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (5569)، ومسلم (1974).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (1717)، ومسلم (1317).
ما لا ينتفع من الأضحية (1):
1 -
لا يجوز بيع بشيء منها: لا جلد ولا صوف ولا شعر ولا لحم ولا عظم ولا غير ذلك، وقد ورد من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها
…
» (2) لكنه ضعيف.
لكن الأموال المستحقة في القُرَب لا يجوز للمتقرب بيعها كالزكوات والكفارات، ويدلُّ على هذا أيضًا أنه لا يجوز أن يعطى الجزار أجرته من لحم الأضحية، كما سيأتي.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه!! والأظهر عدمه، والله أعلم.
2 -
لا يعطى الجزار أجرته من الأضحية: لأنه يصير معاوضًا به، وإنما يعطيه أجرته من ماله، وله أن يتصدق عليه من الأضحية -لا من أجرته- فعن عليٍّ:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدْنِه، وأن يقسم بُدْنَهُ كلها: لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى في جزارتها شيئًا» (3) وفي لفظ أنه قال: «نحن نعطيه من عندنا» (4).
وبهذا قال الجماهير من أهل العلم، ولمُ يرخِّص في إعطاء الجزار منها أجرته إلا الحسن البصري وعبد الله بن عبيد بن عمير في إعطائه الجلد.
فوائد (5):
1 -
الأضحية أفضل من التصدق بثمنها: وعلى هذا جماهير أهل العلم، لأن الأضحية سنة مؤكدة واختلف في وجوبها -كما تقدم- بخلاف صدقة التطوع، ولأن التضحية شعار ظاهر (6).
(1)«الحاوي» (19/ 119)، و «المغنى» (9/ 356)، و «المحلى» (7/ 385).
(2)
ضعيف: أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 15).
(3)
صحيح: تقدم قريبًا.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (1317).
(5)
«فقه الأضحية» للأخ محمد العلاوي أثابه الله (ص: 144 - وما بعدها) بانتفاء وتصرُّف.
(6)
«التمهيد» (23/ 192)، و «المجموع» (8/ 425)، و «مجموع الفتاوى» (36/ 304).