الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
إذا حلف أيمانًا متعددة على شيء واحد في مجلس واحد أو مجالس متفرقة، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يلزمه بكل يمين كفارة، وقال الشافعي: إذا نوى باليمين الثانية تأكيد الأولى لزمه كفارة واحدة، وقال أحمد -في الرواية الأخرى- واختاره شيخ الإسلام وابن حزم: يلزمه كفارة واحدة مطلقًا. قلت: وهو الأقرب، والله أعلم.
ثانيًا: النُّذُور
التعريف:
النذور: جمع نذر، وهو لغةً: النحب (أي: العهد) وهو ما يجعله الإنسان نحبًا واجبًا على نفسه.
والنذر شرعًا: إلزام الإنسان نفسه بشيء من القُرَب (الطاعات) التي لم تكن واجبة عليه، فيجعله واجبًا عليه، بلفظ يُشعر بذلك.
حكم الإقدام على النذر:
الأحاديث الصحيحة الواردة في النذر تدل على أن النذر لا ينبغي وأنه منهي عنه، ولذا قال أكثر أهل العلم بكراهته (1)، لكن إذا وقع وجب الوفاء به.
1 -
فعن ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: «إنه لا يردُّ شيئًا، ولكنه يستخرج به من البخيل» (2).
2 -
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنذروا، فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل» (3).
3 -
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدَّره له، ولكن النذر يوافق القدر فيُخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يُخرج» (4).
وقد دلَّ الكتاب والسنة على وجوب الوفاء بالنذر -في الطاعة- والثناء على الموفين بنذورهم:
(1)«المحلى» (8/ 2)، و «سبل السلام» (4/ 1446)، و «نيل الأوطار» (8/ 277).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6693)، ومسلم (1639).
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (1640)، والترمذي (1538)، والنسائي (7/ 16)، وأحمد (2/ 412).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (6694)، ومسلم (1640) واللفظ له.
1 -
قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (1).
2 -
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليُطعْهُ، ومن نذر أن يعصيه فلا يَعْصِه» (2).
3 -
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم» -قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثًا بعد قرنه - «ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يُستشهدون، ويظهر فيهم السِّمن» (3) وهو ظاهر في إثم من لا يوفون بنذرهم.
4 -
وقال سبحانه -في الثناء على الموفين بالنذر-: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَاسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (4).
5 -
وقال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (5). ولأجل هذه النصوص ذهب أكثر المالكية وبعض الشافعية -كالنووي والغزالي- إلى استحباب النذر.
إشكالٌ وحَلُّهُ (6):
القول بكراهة النذر والقول باستحبابه كلاهما مُشكل بأدلة الآخر، وقول الجمهور -بكراهة النذر- فيه إشكال كذلك على القواعد، فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة، ووسيلة المعصية معصية، ولما كان النذر وسيلة إلى التزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة!! لكن النصوص الأولى تدل على خلافه!! فكيف توجَّه هذه النصوص؟
وأحسن طريق لإزالة هذا الإشكال أن يقال: إن نذر القُربة على نوعين:
(1) سورة الحج: 29.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (6696)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (7/ 17)، وابن ماجه (2126).
(3)
صحيح: أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535).
(4)
سورة الإنسان: 5 - 7.
(5)
سورة البقرة: 270.
(6)
«تفسير القرطبي» ، و «إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (2/ 266)، و «نيل الأوطار» (8/ 277)، للشنقيطي (5/ 677) وفيه بحث مستفيض في أحكام النذر (5/ 659) وما بعدها.
1 -
مُعلَّق على حصول نفع: كقوله (إن شفى الله مريضي فعليَّ لله نذر كذا) ونحوه.
2 -
نذر مطلق، غير معلَّق على نفع للناذر: كأن يتقرب إلى الله تَقرُّبًا خالصًا بنذر، فيقول ابتداءً:(لله عليَّ أن أتصدق بكذا) ونحوه.
ويقال: إن النهي في الأحاديث متوجِّه إلى النوع الأول، لأن النذر فيه لم يقع خالصًا للتقرب إلى الله، بل بشرط حصول نفع للناذر، وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أم القدر فيه غالب على النذر.
ويوضِّحه أنه لو لم يُشفَ مريضهُ، لم يتصدَّق بما علَّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا، وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله:«وإنما يُستخرج به من البخيل» .
وقد ينضمُّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة في الحديث بقوله:«فإنه لا يردُّ شيئًا» ، قلت: وهذا التفصيل متجه وقوي، وهو جمعٌ فيُقدَّم على الترجيح، والله أعلم.
أقسام النذر، وأحكامها:
ينقسم النذر الذي يفعله المسلمون -من جهة الأمر المنذور- إلى قسمين:
الأول: أن يكون فيه طاعة لله (نذر الطاعة): فيلزم الإنسان نفسه إما بفعل أمر ندب الشرع إلى فعله، كصلاة (النافلة) والصيام والحج والصدقة والاعتكاف وسائر الطاعات، أو يُلزم نفسه بفعل واجب إذا تعلَّق النذر بوصف، كأن ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، ونحوه.
وأما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك من الفرائض، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر.
وقد تقدم قريبًا أن نذر الطاعة له صورتان: نذر ابتداء غير معلَّق على منفعة للناذر، (نذر مطلق)، وهذا يشرع للإنسان الإقدام عليه.
ونذر معلَّق على منفعة للناذر، ويكون خارجًا مخرج طلب العوض وتوقيف العبادة على تحصيل الغرض، وهذا منهي عن الإقدام على فعله.
حكم الوفاء بنذر الطاعة:
ونذر الطاعة بنوعيه: المطلق والمعلَّق، يجب على الناذر الوفاء به، بالكتاب والسنة والإجماع (1)، وقد تقدم بعض الأدلة على ذلك، ومنها:
1 -
قوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (2) وهذا أمر بالوفاء بالنذر، وهو يقتضي الوجوب.
2 -
وذم الله سبحانه الذين ينذرون ولا يوفون، فقال عز وجل:{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (3).
3 -
وقال صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه
…
» (4).
4 -
وعن عمر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أوفِ بنذرك» (5).
5 -
وتقدم حديث عمران بن حصين -في ذم أقوام يأتون بعد القرون المفضلَّة- وفيه: «
…
ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون
…
» (6).
إذا نذر ما لا يطيقه، أو عجز عن الوفاء:
من نذر قُربةً لزمه الوفاء بنذره -كما تقدم- إن قدر عليه، فإن عجز عن الوفاء أو كان المنذرَ مما لا يطيقه، فلا يجب عليه الوفاء به:
1 -
فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُهادى بين اثنين، فقال:«ما هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي إلى البيت، فقال:«إن الله عز وجل لغنيٌ عن تعذيب هذا نفسه» ثم أمره فركب (7).
2 -
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن أُخته نذرت أن تمشي إلى البيت الحرام حافية
(1)«مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (32/ 87 - 33/ 36).
(2)
سورة الحج: 29.
(3)
سورة التوبة: 75 - 77.
(4)
صحيح: تقدم تخريجه قريبًا.
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (2042)، ومسلم (1656).
(6)
صحيح: تقدم قريبًا.
(7)
صحيح: أخرجه البخاري (1865)، ومسلم (1642).
غير مختمرة، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:«مُرْ أُختَك فلتركبْ، ولتختمر، ولتصُمْ ثلاثة أيام» (1).
وفي رواية من حديث ابن عباس -في هذه القصة-: «فمرها فلتركب ولتُكفِّر» (2).
وفي رواية: «فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديًا» (3).
وفي أخرى: «فلتركب، ولتُهد بَدَنة» (4).
وفي رواية: لم يذكر هديًا ولا كفارة (5).
3 -
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» (6).
فلهذه الأحاديث وغيرها اختلف أهل العلم فيما يلزم من نذر ما لا يطيق إن عجز عن الوفاء، كمن نذر أن يحجَّ ماشيًا -وعجز عنه- على أقوال (7):
الأول: لا شيء عليه: لظاهر قوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (8) وقوله
(1) إسناده ليِّن: أخرجه الترمذي (1544)، والنسائي (3815)، وابن ماجه (2134)، والدارمي (2334)، وأحمد (16668 - 16709 - 16735) من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر به وفي سنده عبيد الله بن زحر فيه ضعف، وأخرجه الطبراني (17/ 324) عن أبي تميم الجيشاني عن عقبة به وسنده ضعيف.
(2)
إسناده ليِّن: أخرجه أبو داود (3295)، وأحمد (2685)، وابن خزيمة (3046 - 3047)، وابن حبان (4384) من طريق شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن كريب عن ابن عباس، وفي بعضها:(تكفر عن يمينها).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه أبو داود (3296 - 3303)، والدارمي (2335)، وأحمد (2027 - 2032 - 2165 - 2691 - 17125)، وابن خزيمة (3045)، والبيهقي (10/ 79)، والطبراني (11/ 308) من طرق يشد بعضها بعضًا عن عكرمة عن ابن عباس، لكن ذكر الحافظ في «الفتح» (11/ 589) عن البخاري أنه قال: لا يصح فيه الهدي!!.
(4)
أخرجه أبو داود (3304)، والبيهقي (10/ 79)، والطبراني في «الأوسط» (9380)، وأحمد (6653) وغيرهم من بعض الطرق المتقدمة لكنها مرجوحة.
(5)
صحيح: أخرجه مسلم (1645)، والترمذي (1528)، والنسائي (3832).
(6)
«فتح القدير» (3/ 173)، و «المجموع» (8/ 494)، و «جامع العلوم والحكم» (ص: 309 - 310) ط. المعرفة، و «مجموع الفتاوى» (35/ 327).
(7)
سورة البقرة: 286.
(8)
سورة التغابن: 16.
سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقوله عز وجل {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (3) وهو قول للشافعية ورواية عن أحمد والأوزاعي.
الثاني: عليه كفارة يمين: لحديث عقبة بن عامر المتقدم، ولقول النبي لعقبة -في شأن أخته:«فمرها فلتركب، ولتكفِّر» وهو مذهب أحمد والثوري وهو اختيار شيخ الإسلام.
الثالث: عليه صيام ثلاثة أيام: وهو رواية عن أحمد.
الرابع: عليه بدنة وهو قول للشافعية.
الخامس: عليه هدي وهو الأصح عند الشافعية، وهو رواية عن أحمد وهو قول الحنفية والليث وقد استند القائلون بالأقوال الثلاثة الأخيرة كلٌّ إلى رواية من روايات قصة أخت عقبة بن عامر المتقدمة.
والسادس: أنه لا يجزيه الركوب بل يحج من قابل فيمشي ما ركب ويركب ما مشى وعليه بدنة وهو قول مالك.
الراجح: الذي يظهر لي بعد دراسة أسانيد هذا الحديث، أن أقوى الروايات -من جهة السند- رواية التكفير بالهدي (أو البدنة) ثم تليها رواية (صيام ثلاثة أيام) ثم بدا لي أن الأرجح من جهة الدراية أنه يلزم كفارة يمين، وذلك لأمور:
1 -
أن رواية البدنة أو الهدي -التي هي الأقوى سندًا- قد تُعلُّ بما ذكره الحافظ في «الفتح» (11/ 589) من أن الترمذي نقل عن البخاري أنه قال: لا يصح ذكر الهدي في حديث عقبة بن عامر. اهـ. وكذا نقله البيهقي (10/ 80).
2 -
أن رواية الصيام لا تعارض رواية (ولتكفِّر)، (ولتكفِّر عن يمينها) إذا صيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفارة اليمين كما تقدم.
3 -
أن هذا هو الموافق لحديث عقبة بن عامر نفسه -وهو المستفتى لأخته- في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كفارة النذر كفارة يمين» (4) فلعله اختصره من فتوى النبي صلى الله عليه وسلم في حال أخته.
(1) سورة البقرة: 286.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
(3)
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
4 -
أن المشي مما لا يوجبه الإحرام، فلم يجب الذم بتركه.
والحاصل: أن من نذر طاعة ثم عجز عن الوفاء، فلا يلزمه الوفاء، وعليه كفارة يمين.
5 -
أن القول بأنه يلزمه كفارة يمين هو المتعيِّن إذا كان النذر في غير الحج للحديث السابق ولا يتصوَّر أن يقال في كل من نذر ثم عجز أنه يهدي بدنة!! والله تعالى أعلم.
والحاصل: أن من نذر طاعة ثم عجز عن الوفاء، فلا يلزمه الوفاء وعليه كفارة يمين.
لا نَذْرَ لشخص في التقرب بما لا يملك:
ففي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه في قصة المرأة الأنصارية التي أُسرت: «ونذرت لله إن نجَّاها الله لتنحرنَّها [أي: العَضْباء] فلما قدمت المدينة، رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «سبحان الله، بئسما جزتها، نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنَّها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد» (1).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك
…
» (2) الحديث، وهل يلزمه كفارة؟ قولان، الأظهر: لا يلزمه، والله أعلم.
من نذر التصدُّق بجميع ماله:
من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله، فللعلماء في الوفاء بهذا النذر عشرة مذاهب، أكثرها لا يعتضد بالدليل، والذي يعتضد بدليل -منها- ثلاثة أقوال (3):
الأول: يلزمه التصدق بالمال كلِّه: وهو مروي عن الشافعي والنخعي، وأبي حنيفة [إذا كان مالاً زكويًّا] وحجة هذا القول الأدلة المتقدمة على إيجاب الوفاء بنذر الطاعة كقوله صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله، فليطعه» (4).
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1641)، وأبو داود (3316)، والنسائي (7/ 19)، وابن ماجه (2124) وغيرهم.
(2)
حسن: أخرجه الترمذي (1181)، وأبو داود (2190)، وابن ماجه (2047) وغيرهم.
(3)
«المغنى» (10/ 72)، و «كشاف القناع» (6/ 279).
(4)
صحيح: تقدم قريبًا.
بضميمة ما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه تصدق بكل ماله، وقبله النبي صلى الله عليه وسلم منه (1).
الثاني: يجزئ عنه التصدُّق بثلث ماله: وهو مذهب مالك وأحمد -في الرواية المشهورة- والليث والزهري، وحجتهم:
حديث كعب بن مالك رضي الله عنه -في قصة توبة الله على الثلاثة الذي خلفوا- قال في آخره: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَمْسِك عليك بعض مالك فهو خير لك» (2).
وفي رواية: إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة، قال:«لا» قلت: فنصفه؟ قال: «لا» قلت: فثلثه؟ قال: «نعم» ، قلت:«فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر» (3).
قالوا: وظاهر الحديث أن كعبًا جاء مريدًا التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة، لم يكن مستشيرًا، فأمره صلى الله عليه وسلم بإمساك بعض ماله وصرَّح بأن ذلك خير.
واعترض على هذا الاستدلال (4): بأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقة، حتى يقع في محل الخلاف، وإنما هو لفظ عن نية قصد فعل متعلقها، ولم يقع بعد، فأشار صلى الله عليه وسلم بأن لا يفعل ذلك، وأن يمسك بعض ماله، وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه، هذا هو ظاهر اللفظ أو هو محتمل له، وكيفما كان فتضعف الدلالة منه على مسألة الخلاف. اهـ.
وأجيب (5): بأن ظاهر أنه جازم غير مستشير، لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد، الذي هو «إن» المكسورة في قوله (إن من توبتي
…
) واللفظ الذي هذه صفته لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة.
قالوا: ويؤيد هذا أن أبا لبابة لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا، يجزئ عنك الثلث» (6).
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، والدارمي (1660).
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (2758)، ومسلم (2769).
(3)
إسناده حسن: أخرجه أبو داود (3331).
(4)
«إحكام الأحكام» لابن دقيق العيد (2)، ح (372).
(5)
«أضواء البيان» للشنقيطي (5/ 685).
(6)
في سنده اختلاف: أخرجه أبو داود (3319)، وأحمد (3/ 452 - 502)، ومالك (1039)، والطبراني (5/ 33)، والدارمي (1658)، والبيهقي (10/ 68)، والحاكم (3/ 7333) وفي سنده اختلاف شديد على الزهري، فليحرر.
الثالث: لا يلزمه شيء، وهو رواية عن أبي حنيفة (في غير المال الزكوي) وهو مذهب أبي محمد بن حزم (إذا خرج مخرج اليمين) مستندًا إلى أن التصدق بكل المال ليس مشروعًا، واستدل بما يأتي:
1 -
قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} (1).
2 -
قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) قال: فلام الله سبحانه وتعالى ولم يحب من تصدق بكل ما يملك. اهـ.
3 -
قال: وإن احتجوا بقوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (4).
فليس فيه أنهم لم يُبقوا لأنفسهم معاشًا إنما فيه أنهم كانوا مقلين ويؤثرون من بعض قوتهم. اهـ.
الراجح:
الذي يظهر لي أن إطلاق القول الأخير ضعيف، والتصدق بكل المال مشروع، فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه أتى بكل ماله فدفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله منه، وأثنى عليه خيرًا، وكذلك تصدق عمر بنصف ماله -وهو فوق الثلث!! - فقبله منه صلى الله عليه وسلم (5) فالظاهر أن من نذر كلَّ ماله -وكان لا يتضرر ولا رعيته بذلك- يلزمه التصدق بالمال كله.
فإن كان في هذا ضرر عليه أو على رعيته، فحينئذ يلزمه التصدُّق بما لا يُضر
(1) سورة الإسراء: 26.
(2)
سورة الأنعام: 141.
(3)
إسناده لين: أخرجه أبو داود (1673)، والدارمي (1659)، وعبد بن حميد (1121)، وأبو يعلى (2084)، وابن حبان (3372) وفيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس.
(4)
سورة الحشر: 9.
(5)
صحيح: تقدم قريبًا.
به سواء كان الثلث أو أقل أو أكثر، لقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا ضرر ولا ضرار» (2) وعلى هذه الحالة تحمل النصوص التي استدل بها أصحاب المذهبين الأخيرين، وهذا قول سحنون من المالكية، والله أعلم.
من نذر الصلاة في بيت المقدس أجزأه الصلاة في المسجد الحرام:
فعن جابر بن عبد الله: أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرتُ إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال صلى الله عليه وسلم:«صلِّ هاهنا» ثم أعاد عليه، فقال:«صلِّ هاهنا» ثم أعاد عليك، فقال:«شأنك إذًا» (3).
تنبيه: لو نذر شد الرحال إلى غير المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى، فلا يجوز الوفاء به لأنه نذر معصية وتلزمه كفارة يمين كما تقدم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس» (4).
نذر اللِّجاج (نذر الغضب):
والمراد به: النذر الذي يراد به الامتناع من أمر أو الحث على فعله، لا التقرب إلى الله، كأن يقول:(إن فعلتُ كذا، فلله عليَّ الحج أو صدقة أو صوم) ونحو ذلك.
وهذا يخرج مخرج اليمين، لأن الناذر هنا لم يرد القُربة، والاعتبار في الكلام بمعناه لا بلفظه، وهذا مقصوده الحضُّ على فعل أو المنع منه، وعلى هذا فإنه لا يلزمه الوفاء به، وعليه كفارة يمين إذا حنث، وهذا مذهب أحمد -في المشهور- والشافعي -في قول- وهو الذي رجع إليه أبو حنيفة، وبه قال إسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قول عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة (5).
(1) سورة: 219.
(2)
صحيح بمجموع الطرق: وانظر «الإرواء» (896).
(3)
صحيح: أخرجه أبو داود (3305)، وأحمد (3/ 363)، والدارمي (2339) وغيرهم.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397).
(5)
«فتح القدير» (5/ 93)، و «المجموع» (8/ 459)، و «المغنى» (11/ 194 - مع الشرح)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 253).
وقد رُوى عن عمران بن حصين مرفوعًا: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» (1) لكنه ضعيف لا يصح.
وسُئل ابن عباس: ما تقول في امرأة جعلت بردها عليها هديًا إن لبسته؟ فقال ابن عباس: «في غضب أم في رضا؟» قالوا: في غضب، قال:«إن الله -تعالى- لا يُتقرب إليه بالغضب، لتكفِّر عن يمينها» (2).
وذهب مالك، وأبو حنيفة -في قوله القديم- إلى أنه يلزمه الوفاء بالنذر.
إذا نذر قُربةً وهو كافر ثم أسلم: فاختلف أهل العلم في وجوب الوفاء بنذره بعد إسلامه على قولين (3):
الأول: يجب عليه الوفاء بالنذر إذا أسلم: وهو مذهب الشافعي وداود الظاهري وابن حزم، واستدلوا بما يلي:
1 -
حديث ابن عمر: أن عمر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرتُ أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فأوف بنذرك» (4).
2 -
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال:«أوفي بنذرك» قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا -مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية- قال: «لصنم؟» قالت: لا، قال:«لوثن؟» قالت: لا، قال:«أوفي بنذرك» (5).
الثاني: لا ينعقد نذر الكافر، لا يلزمه الوفاء إذا أسلم: وهو مذهب الجمهور، واحتجوا:
1 -
بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (6).
2 -
وقوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} (7).
(1) ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 433) وغيره، وانظر «الإرواء» (2587).
(2)
إسناده ليِّن: عزاه شيخ الإسلام (35/ 256) إلى الأثرم قال: ثنا عبد الله بن رجاء أنا عمران عن قتادة عن رزارة بن أبي أوفى به.
(3)
«المحلى» (8/ 25)، و «نيل الأوطار» (8/ 286).
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (2032)، ومسلم (1656).
(5)
إسناده حسن: أخرجه أبو داود (3312)، وانظر «الإرواء» .
(6)
سورة الزمر: 65.
(7)
سورة الفرقان: 23.
وأجاب عن هذا ابن حزم بأنه لا حجة فيه، لأن هذا كله إنما نزل فيمن مات كافرًا بنص كل آية منهما، وقال تعالى {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
…
} (1) ثم إنهم مع هذا يجيزون بيع الكافر ونكاحه وهبته وصدقته وعتقه!!.
وفي حديث أبي هريرة -في قصة إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه -أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
…
وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر» (2).
فهذا كافر خرج يريد العمرة فأسلم فأمره عليه السلام بإتمام نيَّته.
قلت: فالراجح أنه يلزمه إذا أسلم أن يفي بنذر الطاعة الذي نذره في كفره، والله أعلم.
قضاء نذر الطاعة عن الميت:
إذا نذر الإنسان طاعة مما يلزمه الوفاء به، ثم مات قبل أن يوفى، فإن وليَّه يقضي عنه نذره، فإن كان النذر مالاً، فإنه يؤدَّى عن الميت من رأس ماله قبل ديون الناس، لقوله تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (3) فعمَّ الله تعالى الدين ولم يخص وقال صلى الله عليه وسلم:«دين الله أحق أن يقضى» (4).
وإن كان النذر عبادة كالحج والصيام (5) والاعتكاف ونحو ذلك، فإن وليَّه يؤديه عنه:
1 -
فعن ابن عباس «أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أُمِّه، فتُوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه أن يقضيه عنها، فكانت سنةً بعدُ» (6) وفي لفظ أنه قال: «اقضه عنها» .
2 -
وعن ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أُمِّي ماتت وعليها صوم من نذر أفأصوم عنها؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان على
(1) سورة البقرة: 217.
(2)
صحيح: أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764).
(3)
سورة النساء: 11.
(4)
صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148).
(5)
وقد تقدم حكم الصيام عن الميت في «كتاب الصيام» فليراجع.
(6)
صحيح: أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638).
أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها» قالت: نعم، قال:«فصومي عن أمك» (1).
3 -
وعن عائشة رضي الله عنه: «أنها اعتكفت عن أخيها بعد ما مات» (2).
وهل يقضي الصلاة المنذورة عن الميت؟
ذهب جماهير العلم إلى أنه لا يصلي أحد عن أحد، بل حكى ابن بطال الإجماع على ذلك!! لكنه منقوض بأن ابن عمر أمر امرأة جعلتْ أُّمها على نفسها صلاة بقباء فقال:«صلي عنها» (3) وقد أوجب داود وابن حزم (4) قضاء الصلاة المنذورة عن الميت.
القسم الثاني (من أقسام النذور): أن لا يكون فيه طاعة لله تعالى، وهذا على نوعين:
1 -
ليس فيه معصية في ذاته (المباح):
إذا نذر ما ليس بمعصية، لكنه ليس من جنس الطاعة، كالمباح، فلا يجب الوفاء به، والجمهور على أن هذا ليس بنذر، لحديث ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مره فليتكلَّم، وليستظلَّ، وليقعد، وليتمَّ صومه» (5) وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة كالصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه وفاءً بنذره، وما كان من نذره مباحًا لا طاعة كترك الكلام، وترك القعود، وترك الاستظلال، أمره بعدم الوفاء.
وذهب أحمد إلى أن النذر بالمباح ينعقد، لكن يخيَّر في الوفاء وعدمه، وحينئذٍ يلزمه كفارة.
واختار المحقِّق صديق خان أن النذر بالمباح يصدق عليه مسمَّى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به، قال:
(1) صحيح: أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) واللفظ له.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه سعيد بن منصور (424)، وابن أبي شيبة (2/ 339).
(3)
علَّقه البخاري (11/ 584 - فتح) بصيغة الجزم ولم يصله الحافظ في «التغليق» (5/ 203).
(4)
«المحلى» (8/ 28).
(5)
صحيح: أخرجه البخاري (6704)، وأبو داود (3300)، وابن ماجه (2136) وغيرهم.
وضرب الدف إذا لم يكن مباحًا فهو إما مكروه أو أشد من المكروه، ولا يكون قربة أبدًا، فإن كان مباحًا فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروهًا فالإذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأَوْلى، وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذرًا لم يسمِّه (2) يدلُّ على وجوب الكفارة بالأَوْلى في المباح، فالحاصل أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين: إما وجوب الوفاء به، أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء
…
» اهـ (3).
وقال البيهقي رحمه الله (10/ 77): «يشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما أذن لها في الضرب لأنه أمر مباح، وفيه إظهار الفرح بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعه سالمًا، لا أنه يجب النذر، والله أعلم» اهـ.
قلت: لكن يشكل على ما ذكره البيهقي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «إن نذرت فافعلي، وإلا فلا» (4) فدل على أنه إنما أمرها بذلك إيفاء لنذرها، لكن يبقى أن ضَرب المرأة بالدفِّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمحضر الرجال من الصحابة غير مشروع، فالظاهر أن هذا الحديث واقعة عين فلا عموم لها، ولا ينبغي الاستدلال به والأصل أن النذر إنما يكون بما فيه قربة، وهو عبادة فلا يكون إلا بما شرعه الله تعالى، فالذي يظهر أن المباح يُنظر فيه: فإذا كان وسيلة لواجب أو مستحب (طاعة) فينعقد النذر به، لأن للوسائل حكم المقاصد، وإن لم يكن كذلك فالصواب أنه لا ينعقد به النذر كما قال الجمهور، والله أعلم.
2 -
أن يكون المنذور معصية في ذاته (نذر المعصية):
إذا نذر الإنسان معصية كشرب خمر أو قتل نفس مُحرمَّة أو ذبح على قبر أو شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، أو مخالفة للتسوية بين الأولاد، أو تفضيل
(1) صحيح: أخرجه الترمذي (3690)، وأبو داود (3312)، وأحمد (5/ 356)، وابن حبان (4386).
(2)
سيأتي الحديث بهذا قريبًا.
(3)
«الروضة الندية» (ص: 177 - 178).
(4)
هذا لفظ أحمد (5/ 353)، وابن حبان (4386).
بعضهم أو حرمانهم من ميراثه، ونحو ذلك من سائر المعاصي، فهذا لا يجب -بل يحرم- عليه الوفاء به.
1 -
فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (1).
2 -
وعن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا وفاء لنذرٍ في معصية، ولا وفاء لنذرٍ في ما لا يملك العبد، أو: ابن آدم» (2).
3 -
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟» قال: لا، قال:«هل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أوفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» (3).
وفيه دلالة ظاهرة على أن النحر بوضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية، معصية لله تعالى، وأنه لذلك لا يجوز الوفاء به.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة:
وهل تلزم الكفارة في نذر المعصية؟ للعلماء في هذا قولان (4):
الأول: ليس على الناذر للمعصية كفارة: وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وحجتهم:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية ....» (5) فلا ينعقد النذر بمعصية.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
…
ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» (6) ولم يأمر بكفارة.
3 -
الأحاديث المتقدمة: في المرأة التي نذرت أن تنحر العضباء، والرجل الذي نذر ألا يستظل أو يتكلم، ونحوها وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بعدم الوفاء، وليس فيها أنه ألزمهم بكفارة.
(1) صحيح: تقدم قريبًا في أول الباب.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (1641)، وأبو داود (3316)، والنسائي (7/ 19)، وابن ماجه (2124).
(3)
صحيح: أخرجه أبو داود (3313).
(4)
«المغنى» (10/ 69 - الفكر)، و «المحلى» (8/ 4 - 6)، و «نيل الأوطار» (8/ 281).
(5)
صحيح تقدم قريبًا.
(6)
صحيح: تقدم قريبًا في أول الباب.
الثاني: تجب عليه الكفارة: وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والرواية الأخرى عن أحمد، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وحجة هذا القول:
1 -
حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النذر نذران، فما كان لله كفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين» (1).
2 -
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» (2).
الراجح: لا شك أن دلالة هذين الحديثين -إذا صحَّا وهو الأقرب- أقوى من دلالة الأحاديث التي استدل بها الفريق الأول، فإن الكفارة فيها مسكوت عنها، فيقدَّم المثبت لها، والله أعلم.
إذا نَذَرَ نَذْرًا لم يُسَمِّه:
إذا نذر الإنسان نذرًا مطلقًا لم يعيِّنه أو يسمِّه، كأن يقول (لله عليَّ نذر)، فعليه كفارة يمين، لقول ابن عباس رضي الله عنهما:«من نذر نذرًا لم يسمِّه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين» (3).
وقد رُوى نحوه مرفوعًا من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «كفارة النذر [إذا لم يُسمَّ] كفارة يمين» (4) لكنه ضعيف، وقد صحَّ بدون موضع الشاهد كما تقدم.
النذر لغير الله شرك:
النذر عبادة، فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى، من صرفه لغيره من ملك مقرَّب أو نبي مرسل، أو وليٍّ من الأولياء -حيًّا أو ميتًا- أو لشمس أو قمر ونحو
(1) حسن: أخرجه ابن الجارود (935) ومن طريقه البيهقي (10/ 72) وأخرج نحوه أبو داود (3322) من طريق آخر عن ابن عباس وصرَّب وقفه، وقد صححه الألباني في «الصحيحة» (47).
(2)
صححه الألباني: أخرجه أبو داود (3290)، والترمذي (1524)، والنسائي (2/ 145)، وابن ماجه (2125)، وانظر «الإرواء» (2590).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 173) موقوفًا، وأخرجه أبو داود (3322) ورجَّح الوقف.
(4)
ضعيف بهذه الزيادة: أخرجه أبو داود (2324)، والترمذي (1528)، والنسائي (7/ 26)، وانظر «الإرواء» (2586).
ذلك، مما يفعله عبَّاد الأوثان والقبور وأشباههم، لمن يعتقدون فيهم ضرًا أو نفعًا، أو قضاء حاجة أو تفريج كُربة -فقد ارتكب أعظم الذنوب، وهو الشرك بالله تعالى، وهو نظير ما ذكره الله تعالى في قوله:{وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1).
قال شيخ الإسلام: «وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا شرك لا يوفى به» (2).
وقال رحمه الله: «وأما نذره (أي العبد) لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور، ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات» اهـ.
(1) سورة الأنعام: 136.
(2)
«مجموع الفتاوى» (1/ 286).
(3)
أي: لا خلاف.
(4)
«سبل السلام» (4/ 1448).