الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان حرف منها قبل الألف تليه، ذاك قولك: قاعد، غائب، خامد، صاعد، طائف، وضامن، وظالم، إنما منعت هذه الحروف الإمالة لأنها حروف مستعلية إلى الحنك الأعلى، والألف إذا خرجت من موضعها استعلت إلى الحنك الأعلى فلما كانت مع هذه الحروف المستعلية غلبت عليها كما غلبت الكسرة عليها في مساجد
…
ولا نعلم أحد يميل هذه الألف إلا من لا يؤخذ بلغته"1.
وهذا النص واضح في أن الإمالة صورة لنطق الفتحة الطويلة أن نطقها يتأثر بالمحيط الصوتي، فهي ممالة على مقربة من الكسرة أو الكسرة الطويلة، وهي غير ممالة على مقربة من مجموعات من الأصوات. إذا نظرنا إلى تلك الأصوات التي ذكرها سيبويه مانعة للإمالة لاحظنا فيها وجود كل أصوات الإطباق، وهي: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والقاف، كما نجد من أصوات الحلق: الغين والخاء. يبدو أن اللهجات التي كانت تميل مع الكسرة والكسرة الطويلة كانت تنطق الفتحة الطويلة بلا إمالة إذا كانت تميل مع الكسرة والكسرة الطويلة كانت تنطق الفتحة الطويلة بلا إمالة إذا كانت قريبة من أصوات الإطباق أو الحلق. وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن تلك اللهجات عرفت صورتين لنطق الفتحة الطويلة، كل واحدة منها تظهر في محيط صوتي بعينه. والعبارة الأخيرة في نص سيبويه السابق تشير إلى موقف اللغويين من بعض اللهجات فهو لم يسجل إلا بعض اللهجات، ورفض الأخذ عن البعض الآخر، ويبدو أن بعض اللهجات التي رفض سيبويه الأخذ عنها كانت تعرف الإمالة بصورة أكثر ولكن إلى أي حد؟ هذا ما لم نستطع أن نعرفه، فهذه من لغة من لا يؤخذ بلغته، ولذا لم يجد سيبويه نفسه مطالبًا بتسجيلها ودراستها.
1 الكتاب 2/ 264.
الاتباع = التوافق الحركي
مما سجله سيبويه في كتابه ظاهرة أطلق عليها "الاتباع"، ويطلق عليها
عند اللغويين المحدثين اسم Vowel Harmony أي التوافق الحركي. وهذه الظاهرة تدخل أيضًا في باب المماثلة، وهي هنا مماثلة حركة لحركة أخرى مماثلة تامة، فنحن نقول في العربية الفصحى: منه، فوقه، تحته، فنجعل الحركة التالية للهاء ضمة، ولكنا نقول: به، عليه، فيه، فنجعل الحركة التالية للهاء كسرة، والضمير هو الضمير، فلماذا حدث هذا الاختلاف؟ ولنقرأ الفصل الذي عنونه سيبويه بقوله: هذا ما تكسر فيه الهاء التي هي علامة الإضمار: "اعلم أن أصلها الضم وبعدها الواو، لأنها في الكلام كله هكذا، إلا أن تدركها هذه العلة التي أذكرها لك. وليس يمنعهم ما أذكره لك أيضًا من أن يخرجوها على الأصل، فالهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة.. فكما أمالوا الألف في مواضع استخفافًا، كذلك كسروا هذه الهاء.. فالكسرة هنا كالإمالة في الألف لكسرة ما قبلها وما بعدها نحو كلاب وعابد، وذلك قولك: مررت بهِي وَلَدَيْهِي مال ومررت بِدَارِهِي
…
وأهل الحجاز يقولون مررت بِهُو قبل، وَلَدَيْهُو مال، ويقرءون "فخسفنا بِهُو وبِدارِهُو الأرض". فإذا لحقت الهاء الميم في علامة الجمع كسرتها كراهية الضمة بعد الكسرة، ألا ترى أنهما لا يلزمان حرفًا أبدًا. فإذا كسرت الميم قلبت 1.
وهذا النص مهم، فسيبويه اعتبر الأصل في ضمير الغائب أن تعقبه ضمة طويلة، وهو يتحدث دائمًا عن الواو في هذا الصدد كما لو كان الضمير مكونًا من هاء تليها واو. وقد حدد سيبويه المواضع التي كسرت فيها هذه الهاء فالهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة، فهذه الظاهرة إذن من ظواهر المماثلة، ولكنها مماثلة حركة لحركة. عندما نتحدث عن "فيه" فالحركة التي بعد الفاء كسرة طويلة أتت بكسرة بعد الهاء. عندما نناقش كلمة "عليه" فالصوت المزدوج "ay" جعل الضمة كسرة، وهذا أيضا ضرب من التوافق الحركي.
1 الكتاب 2/ 293.
ويبدو أن التوافق الحركي كان يميز بعض اللهجات عن البعض الآخر. فبعض اللهجات كان يعرف التوافق الحركي على هذا النحو الذي تعرفه العربية الفصحى. ولكن لهجة الحجاز كانت بعيدة عنه كل البعد كما نرى في نص سيبويه عن التوافق الحركي بعدها عن الإمالة. فالحجازيون كانوا لا يقولون "بِهِ" بكسر الهاء، بل قالوا "بِهُ" بضمها، أو كما كتب في كتاب سيبويه "بِهُو" وكانوا يقولون "لديهو" بواو مسبوقة بضمة. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن قراءاتهم للقرآن الكريم كانت تعكس لهجتهم المحلية التي لا تعرف التوافق الحركي، فبينما كان غيرهم يقرأ:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} بكسرة بعد الهاء كان الحجازيون يستخدمون الضم دون أن يستشعروا حاجة إلى التوافق الحركي.
ويبدو أن التوافق الحركي كان من خصائص لهجة تميم، وهو ما نجده في الفصحى بينما كانت لهجة الحجاز بعيدة عن التوافق الحركي. ولكن بعض اللهجات مضت في التوافق الحركي شوطًا أبعد مما تعرفه اللغة الفصحى. يقول سيبويه:"واعلم أن قومًا من ربيعة يقولون: مِنْهِمِ، بكسر الميم والهاء والميم أتبعوها الكسرة، ولم يكن المسكن حاجزا عندهم. وهذه لغة رديئة، إذا فصلت بين الهاء والكسرة فالزم الأصل"1.
فلهجة ربيعة كانت تستخدم صيغة، مِنْهِمِ، بكسر الهاء والميم، بينما لا تعرف الفصحى اليوم إلا ضم الهاء وضم الميم، وهو ما قرره سيبويه أيضًا، فلهجة ربيعة تمثل طورًا أبعد من الفصحى في التوافق الحركي. فالكسرة بعد الميم في: مِنْهِمِ، جعلت حركتي الضمير كسرتين رغم البعد. وهنا يظهر سيبويه الذي يريد أن يشرع للحياة اللغوية فيقول وهذه لغة رديئة.
لاحظ سيبويه أيضا وجود التوافق الحركي في بعض أبنية الأسماء، يقول سيبويه: وفي: فَعِيل، لغتان، فَعِيل، وفِعِيل. إذا كان الثاني من الحروف الستة
1 الكتاب 2/ 294.