الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
قضية الاستخدام اللغوي للفصحى واللهجات:
تثبت كتب اللغة والنحو وجود اختلافات في اللهجات التي سادت شمال الجزيرة العربية ووسطها في فجر الإسلام والقرنين الأول والثاني للهجرة وتختلف العربية الفصحى كما نعرفها في الشعر الجاهلي اختلافات بعينها عن كل لهجة من اللهجات العربية القديمة، حتى إنه من الصعب اعتبار العربية الفصحى امتدادًا مباشرًا لإحدى هذه اللهجات فالثابت أنها كانت لغة الشعر. وقد أثار بعض الباحثين منذ أواخر القرن التاسع عشر قضية لغة الحديث اليومي في جزيرة العرب في هذه الفترة، تسائل البعض هل كانت اللغة الفصحى لغة الشعر فقط أم أنها كانت أيضًا لغة التعامل في الأمور غير اليومية ولغة التعامل بين القبائل. وارتبط بهذا التساؤل تساؤل آخر حول اللغة التي كان الرسول يستخدمها في قراءته للقرآن، هل كان يقرأ القرآن بلهجة الحجاز، أم وفق الخصائص الصوتية للغة الفصحى أي لغة الشعر الجاهلي.
كان المتعارف عليه عند اللغويين العرب قديمًا واللغويين المحدثين حتى أواخر القرن التاسع عشر أن لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن الكريم تمثلان العربية الفصحى1 والمقصود بهذا أن هذه اللغة لم تكن مجرد لغة أدبية، بل كانت أيضًا لغة التعامل الراقي ولغة التعامل بين أبناء القبائل المختلفة. وقد أثار فولرز وهو متخصص ألماني في اللغة العربية كثيرًا من الشكوك حول كون هذه اللغة قد استخدمت في الحديث اليومي أو في التعامل الشفوي في الفترة التي ألف فيها الشعر الجاهلي. ولذا رفض فولرز تسمية هذه اللغة باسم:"العربية الفصحى"، واقترح تسميتها باسم اللغة "المكتوبة الأقدم"2. وبهذا عد فولرز المعايير المتعارف
1 وصف نولدكه اللغة الفصحى كما جاءت إلينا في الشعر الجاهلي والقرآن بأنها هي العربية الكلاسيكية أي العربية الفصحى، ولذا أطلق نولدكه على أحد كتبه اسم:
Th. Noldeke، Zur Grammatik des Klassischen Arabisch 1896.
2 أطلق فولرز على لغة الشعر الجاهلي: alteste schriftsprache
وانظر تفاصيل رأي فولرز في: K. Vollers، Volkssprache und Schriftsprache im alten Arabien Strassburg 1906.
عليها حول العربية الفصحى والتي سجلتها الأمثلة الواردة في كتب النحو شيئًا مصنوعًا أقامه النحاة ودعوا إليه. ومعنى هذا في رأي فولرز. أن لغة الحديث اليومي في عصر تأليف الشعر الجاهلي وفي صدر الإسلام كانت تخلو من عدد كبير من السمات التي تنسب للعربية الفصحى، ومنها مثلا الإعراب. فيرى فولرز أن اللغويين العرب صنعوا ظاهرة الإعراب، ولم يكن لها وجود حقيقي من قبل. أما القرآن الكريم فرأى فولرز اعتمادًا على المصاحف المخالفة للمصحف المتداول، واعتمادًا على بعض القراءات - أنه كان يقرأ في صدر الإسلام على نحو محلي، أي وفق العادات الصوتية لأهل الحجاز في مكة والمدينة، أما قراءته وفق معايير اللغة الفصحى فقد كان عملا متأخرًا، هذه خلاصة رأي فولرز.
ويقوم هذا الرأي على بعض المعلومات التي جاءت بها كتب اللغة والنحو وكتب الطبقات، مع تجاهل البعض الآخر. فاللغويون العرب في القرن الثاني الهجري لم يعتمدوا على الشعر والقرآن فقط، بل اعتمدوا أيضًا على لغة الإعراب الفصحاء. وكان الإعراب من أهم السمات التي لاحظها اللغويون العرب عند رواتهم، واعترفوا بصحة لغة مجموعة من القبائل، فعدوا أبناءها حجة في قضايا اللغة، ولو كانت لغة الحديث اليومي عند هذه القبائل تخلو من الإعراب في الشعر والقرآن الكريم على هذا النحو المطرد وفي قراءة القرآن الكريم على نحو يجعلنا نقتنع بأنه ليس من عمل النحاة بل هو انعكاس للواقع اللغوي الحي وأغلب الظن أن اللغة الفصحى كانت مستخدمة في الأغراض الفنية وفي التعامل الرفيع بين أصحاب المكانة في القبائل وفي التعامل بين أبناء القبائل المختلفة. فإذا كانت لغة الشعر الجاهلي لا تختلف باختلاف القبائل، بل يقتصر الاختلاف على الاستخدام
اللغوي من شاعر لآخر في إطار المستوى اللغوي الواحد فإن الطبيعي أن يكون ترتيل القرآن بهذه اللغة الفصحى التي يحترمها ويتعامل بها أبناء القبائل المختلفة في الأمور الجادة. وإذا كان القرآن ينص على أنه "بلسان عربي مبين" فمن غير المتوقع أن يكون بعد هذا ذا لون محلي والأقرب إلى طبيعة الأمور أن تكون قراءة القرآن وأن يكون الاستخدام اللغوي في القرآن مطابقًا بصفة عامة للمتعارف عليه في اللغة الفصحى آنذاك.
لقد عرفت اللهجات القديمة مجموعة من الظواهر المغرقة في المحلية مثل الكشكشة والكسكسة والعجعجة. إلخ. والمقصود بالكشكشة إبدال الشين من كان الخطاب المؤنثة فبدلا من "عليك" يكون نطق هذه الكلمة في اللهجات التي تعرف الكشكشة "عليش"، وبالمثل "منش" و "بش". وهنكا أشكال للكشكشة لا تزال مسموعة في اللهجات البدوية الحالية. وقريب من الكشكشة ظاهرة الكسكسة وهي استخدام السين مع ضمير المؤنث بديلا للكاف أو ملحقة بالكاف، فبدلا من:"رأيتك" تكون الصيغة عند بعض القبائل "رأيتكس"، وبدلا من "أخوك" تنطق بعض القبائل "أخوس". أما العجعجة فهي ثمرة اختلاط نطق الجيم مع نطق الياء فبدلا من "تميمي" كانت بعض القبائل تقول "تميمج"1. فهذه الظواهر الصوتية المحلية كانت مما أثار انتباه اللغويين العرب. ولكن الشواهد التي جاءوا بها لبيان هذه الخصائص شواهد شعرية محدودة العدد تتكرر في كل الكتب، وكأنها انعكاس خافت للهجات المحلية. وبغض النظر عن هذه الظواهر المحدودة الأثر في الشعر الجاهلي فإن لغته لا تختلف باختلاف القبائل، ويبدو أن اللغة الفصحى وفق ما تعارف عليه القوم آنذاك كان ينبغي لها أن تخلو من مثل الظواهر المحلية. ولذا كان من الطبيعي أن يحاول المسلمون في صدر الإسلام تجنب استخدام هذه
1 انظر "الصاحبي في فقه اللغة" لابن فارس ص52-54.
وكذلك: السيوطي: المزهر 1/ 221–222.
السمات المغرقة في المحلية في قراءتهم للقرآن الكريم، وأن يكون المثل اللغوي المنشود في لغة القرآن الكريم بعيدًا عن المحلية في الخصائص اللغوية بمثل ما هو بعيد عن المحلية في المضمون الفكري. ولذا فليس من الممكن تصور أن لغة القرآن الكريم تعكس لهجة الحجاز وأية لهجة أخرى، بل الأقرب إلى واقع الأمر أن يكون بتلك اللغة الفصيحة المحترمة من الجميع.
لقد شك فولرز في كون اللغة المنطوقة في فجر الإسلام ذات نظام إعرابي واضح المعالم، وظنها تخلو من النهايات الإعرابية. وقد ورد نولدكه على فولرز بمجموعة من الأدلة اللغوية مثبتًا عدم صحة ما قال به فولرز1. فعلامات الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًّا مطردة في اللغة الأكاديمة على نحو اطرادها في لغة الشعر الجاهلي والقرآن الكريم ولغة القبائل التي أخذت عنها شواهد كتب النحو. والصحيح أن العربية ورثتها كما ورثتها الأكادية عن اللغة السامية الأولى. وقد بقيت من علامات الإعراب في اللغة الحبشية علامة النصب، وهي تطابق تمام المطابقة علامة النصب في العربية فما جاء عند النحاة العرب يعد تسجيلا لواقع يفسره ما جاء في النقوش الأكادية والنصوص الحبشية. وإذا كانت ثمة شك في الحركات النهائية للفعل الماضي، فهو ينتهي مثلا بالفتحة في "كتب" بينما ينتهي دون هذه الفتحة في اللهجات العربية، فإن العربية الفصحى كانت تعرف نهاية هذه الصيغة بالفتحة كما تعرفها اللغة الأمهرية إلى اليوم. لقد أثبت "نولدكه" أن الشك في النهايات الإعرابية للأسماء أو الحركات النهائية للأفعال لا يقوم على دليل، وأثبت بمقارنة العربية بالأكادية بالحبشية من هذا الجانب أن هذه النهايات لا يمكن أن تكون من صنع النحاة، بل كان جهد النحاة تسجيلا لها كما وجدوها في الشعر الجاهلي والإسلامي وفي القرآن الكريم وعند القبائل المعترف بفصاحتها.
1 انظر: رد "نولدكه" على فولرز في المقال التالي:
Das Kiassische Arabisch und die arabischen Dialekte، in: Beitrage zur semitischen Sperachwissenschaft، 1910