الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرقي العالم الإسلامي، وذكر عددًا كبيرًا من اللغات واللهجات1. ومن أهم هذه اللغات: اللغة الفارسية، واللغة الصغدية "السغدية" ولغة الديلم، ولغة الخزر، واللغة الأرمينية، واللغة الرانية، ولغة البلوش، بالإضافة إلى عدد كبير من اللهجات المحلية. وفي كل هذه المناطق وجد المقدسي معرفة باللغة العربية عند المثقفين، كما وجد أيضًا في إقليم الديلم مجموعة من المتحدثين باللغة العربية واللغة الفارسية يعيشون في عزلة عن باقي أنحاء الدولة الإسلامية. وهكذا صور المقدسي بعبارات موجزة صورة للتنوع اللغوي في أنحاء العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري.
1 المقدسي 259، 443–446.
8-
العلاقات اللغوية في القرن الخامس إلى فجر العصر الحديث
يلاحظ اتجاه هذه الفترة التي امتدت سبعة قرون أن العالم العربي كان واقعًا في قبضة عناصر غير عربية تشترك مع غالبية العرب في اعتناقها الدين الإسلامي، ورغم تغير الحكام فقد كانوا دائمًا من غير العرب. كانت الطبقات الحاكمة من عناصر فارسية أو تركية أو شركسية، ويختلف توزيع العناصر من إقليم لآخر، وفي كل هذه الفترة كانت العربية لغة الطقوس الدينية ولغة الفقه الإسلامي مما جعل دراسة العربية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدراسة الدين، فلم تكن العربية إلا لغة الدين. وهذا الأمر يشبه مركز العربية في إيران الحالية، فكل من أراد أن يشتغل بالدين كان عليه أن يدرس العربية.
وظهر في هذا العصر عدد من الملخصات والشروح انتشرت انتشارًا كبيرًا في المشرق والمغرب. وكان الهدف من هذه الملخصات تقريب ما توصل إليه الباحثون القدماء من نتائج في بحث اللغة العربية. كانت المعرفة بالعربية أداة لدراسة الدين، وكل المعاهد العلمية التي نشأت أو أخذت طابعها المميز في تلك الفترة مثل الأزهر والمعاهد المماثلة في العالم العربي والبلدان الإسلامية لا تزال تعتبر دراسة العربية والدين أمرًا واحدًا. وهذا الربط إنما يرجع إلى ظروف
تاريخية، فالعربية لم تكن إلا لغة الدين عندما كان العالم العربي واقعًا تحت السيطرة الإسلامية غير العربية، فلم تكن العربية لغة الإدارة أو السياسة، كانت الإدارة فارسية في أقصى المشرق الإسلامي وتركية في المناطق الواقعة تحت النفود التركي.
بدأت هذه المرحلة بإبعاد العربية عن الإدارة عندما أعلن السلجوقيون في القرن الخامس الهجري اللغة الفارسية لغة رسمية لدولتهم التي ضمت القسم الشرقي من الدولة الإسلامية. وفي ذلك العصر بدأ الإيرانيون يؤلفون بالفارسية وبدأ بعضهم يهجر العربية، وألف بعض المفكرين بالعربية والفارسية، فالغزالي مثلا ألف كتابه "إحياء علوم الدين" بالعربية، وألف بالفارسية كتبًا كثيرة منها "التبر المسبوك". ويلاحظ في المؤلفات الفارسية المبكرة أي في القرن الخامس أنها اعتمدت اعتمادًا كليًّا على المصطلحات العلمية العربية. فقد كان الإيرانيون يستخدمون العربية في القرون الأربعة الأولى للهجرة لغة للتعبير وللتأليف. كان كل ما كتبه الإيرانيون في القرون السابقة بالعربية، وكانت عندهم لغة التأليف، وعندما حاولوا استخدام الفارسية اعتبروا العربية لغة الأساس، وأخذوا منها المصطلحات العلمية المختلفة. أما الأفعال وأدوات الربط اللغوي والألفاظ الأساسية البسيطة فكانت من اللغة الفارسية وهذا يشبه الكتابة العلمية بالألمانية أو بالسويدية، فمعظم المصطلحات لاتينية أو يونانية وأدوات الربط والأفعال والمفردات البسيطة من اللغة التي يفترض أن يكتب الإنسان بها.
لقد تغير الموقف في القرن الخامس الهجري إذ دخلت اللغة الفارسية مجال التأليف مدعمة بدولة فارسية مسلمة، ورأت هذه الدولة أن تجعل من الفارسية لغة الإدارة والسياسة ومن العربية لغة الدين. ولعل من الغريب أن أول المدارس العالية التي أنشئت لتعليم العربية إنما ظهرت في القرن الخامس الهجري وهي:"المدرسة النظامية" المنسوبة إلى نظام الملك، فقد أسست سنة 459هـ. وكان تأسيس "المدرسة النظامية" في إطار الوضع اللغوي السائد، فقد اهتم السلجوقيون.
بالعربية الفصحى في عصورها المبكرة، لأن هذا يعين على فهم الدين، ولكنهم اعتبروا الفارسية لغة الحياة. وهذا يشبه موقف الكنيسة الكاثوليكية في أوربا في استخدامها اللغة اللاتينية في الطقوس الدينية. وقد درس في "المدرسة النظامية" أبو زكريا التبريزي المتوفى سنة 502هـ، ومن أهم مؤلفاته:"شرح ديوان الحماسة" ويلاحظ في مقدمات الكتب التي ألفها التبريزي وغيره أنه يعتبر دراسة العربية وسيلة فهم القرآن الكريم والسنة. ونلاحظ عند المشتغلين في ذلك الوقت تدينًا شديدًا جعلهم يذكرون أن أشرف العلوم علم الكتاب والسنة وأن مفتاح هذه الدراسة اللغة العربية.
إن الحديث عن العربية في العالم الإسلامي من القرون: الخامس عشر حتى التاسع عشر ذو شجون لقد كان معظم أجزاء العالم العربي تحت السيطرة العثمانية المباشرة أو غير المباشرة، ومعنى هذا أن لغة الإدارة العليا كانت التركية، وأن لغة الإدارة المباشرة كانت التركية في كثير من الأقاليم، ولننظر إلى ألقاب الوظائف الكبرى في مصر في تلك الفترة، لقد كان الديوان الكبير وهو مجلس حكم البلاد يضم عن كل أوجاق موظفين ثلاثة: الأغا والدفتر دار والروز نامجي. والكلمات: أوجاق، أغا دفتر دار، روز نامجي ليست عربية لم تدخل مصر إلا مع الفتح العثماني، والأوجاق هو المنطقة، والأغا قائد الحامية، والدفتر دار مدير المالية، والروز نامجي حافظ السجلات. وكانت أهم وظائف الدولة في يد العناصر غير العربية، فالمماليك يتولون أهم الوظائف العسكرية والمدنية حتى أن شيخ البلد "المحافظ" كان منهم، وكان أعضاء الديوان والمماليك أصحاب الكلمة الأولى في البلاد، فإذا كان منهم، وكان أعضاء الديوان والمماليك أصحاب الكلمة الأولى في البلاد، فإذا أضفنا على ذلك مركز القوة الرابع في البلاد -بجانب الوالي الديوان والمماليك- وهو الحامية التركية والمتتركة لتبينا أن كل مراكز القوة كانت في يد غير العرب. كانت لغة الإدارة المركزية في الدولة العثمانية هي اللغة التركية، وكان أصحاب المراكز العليا يستخدمون في الإدارة اللغة التركية أيضًا، أما العربية فكانت في الإدارة المحلية.
لقد ارتبطت اللغة العربية طوال هذه الفترة بالطبقات غير الحاكمة في المجتمع، فالمتحدثون بالعربية كانوا يمثلون الطبقات المحكومة، وكانت العناصر الحاكمة من أصول غير عربية وكانت العناصر العسكرية المسيطرة من أصول غير عربية أيضًا. كانت الطبقات الأرستقراطية ذات النفوذ من غير العرب فالمماليك الذين حكموا وقتًا طويلًا إنما جلبوا من مناطق مختلفة في وسط آسيا وبعد دخول العثمانيين كانت الطبقات غير العربية في المجتمع تحتفظ لنفسها بكل الوظائف الراقية التي كانت وقفًا على المتحدثين بالتركية.
وهكذا ارتبطت دراسة العربية الفصحى في الوجدان الشعبي بدراسة الدين، وأصبح رجل الدين والمتخصص في العربية شخصًا واحدًا هدفه الدين ووسيلته العربية. وأصبح الحديث باللهجات العربية واستخدام هذه اللهجات للإبداع الفني دليلا على الضعة الاجتماعية، وكانت التركية لغة السياسة والإدارة والطبقات الحاكمة في المجتمع.