الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
العربية بين البداوة والحضارة:
كانت لغة البدو لا تزال حتى القرن الثاني من الهجرة موضع إعجاب، وكان البدو حجة في أمور اللغة، وكان إليهم المرجع إذا اختلفت النحاة، وكثيرًا ما اختلفوا، فعرفت مجتمعات العراق عددًا من البدو الوافدين المعتمدين على ثقة المجتمع في صحة لغتهم، جاء هؤلاء واستقروا على مقربة من المدن يبيعون الغريب لكل نحوي يلجأ إليهم وكل لغوي ينشدهم مادة لكتاب أو لرسالة. وعندما اختلف سيبويه مع الكسائي في مدى صحة التعبيرين:"فإذا هو إياها" أو "فإذا هو هي" احتكما إلى البدو ليجدا عندهم الخبر اليقين1. ويفسر البعض اختلاف الضوابط البصرية في النحو عما قال به الكوفيون بأن هذا يرجع لاختلاف لهجات البدو الذين أخذ عنهم كل فريق. ومن المعروف أن النحاة العرب لم يحاولوا توزيع الظواهر اللغوية واقعيًّا بأن يقرروا لكل قبيلة ما عندها من أصوات وأبنية، بل نظروا إلى كل هذا بمعيار الصحة والخطأ، واعتبروا البدو حجة لا يرقى إليها الشك. وكان ينظر إليه كل اختلاف بين اللهجات بمقياس الصحة والخطأ وبهدف المفاضلة بين الصور اللغوية إن كانت كلها بدوية، بأن يقال هذا فصيح وهذا أفصح.
كان الأمويون مرتبطين بالبادية مؤمنين بتنشئة الأبناء في بيئة لغوية بدوية، ولكن العباسيين آمنوا بضرورة إجادة الأبناء للعربية، غير أنهم لم يكونوا
1 ياقوت الحموي: إرشاد الأريب 13/ 187، وعبارة الكسائي:"هذه العرب في بابك قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم فيحضرون ويسألون".
مرتبطين فكريًّا أو عاطفيًّا بالمجتمع البدوي، وأرادوا لأبنائهم حياة رغدة في قصور بغداد ومعرفة جيدة بالعربية، ولهذا ظهر الأعراب في قصور السادة الجدد يعلمون اللغة، وهكذا اختلفت الصورة، قديمًا كان الأبناء يرسلون إلى البادية، وفي القرن الثاني كان الأعراب يفدون إلى القصور يعلمون اللغة.
ويبدو أن المثقفين في القرن الثاني من الهجرة كانوا يحاولون استخدام العربية الفصحى في حديثهم ولم يقصروها على الكتابة، وهناك مجموعة من الأخبار تروي أن حمادًا الراوية "كان يكذب ويلحن ويكسر" أو أنه "لحنه لحانة". ويروى عن حماد أنه قال عن نفسه:"إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامها". ويرى البعض أن هذه الاتهام إنما نشأ من التأثر بالخصومة التي كانت بين حماد وبين غيره من الرواة1. كما يروى أن الفراء، وهو نحوي كوفي، لحن مرة بمحضر هارون واعتذر قائلا بأن اللحن عند سكان المدن كالأعراب عند أهل البادية.
وإذا نظرنا إلى طبيعة الأخطاء التي تنسب إلى المثقفين في القرن الثاني لاحظنا أنها تتناول الخلط بين الحالات الإعرابية، كأن يقول أحدهم:"أن نقم" بالجزم بدلا من "أن نقوم" بالنصب، أو أن يستخدم متحدث حالة النصب بعد حرف جر كان يقول "بخيرا" وكأنه يقول "خيرا"، أو أن يخلط المتحدث بين صيغ الممدود وصيغ المقصور كأن يقول "قفاء" بدلا من "قفا"2. وهذه الأمثلة نادرة ولكنها تعكس أمرًا مأخوذًا من لغة الحديث اليومي، لا لغة الكتابة. وندرة هذه الأمثلة دليل على أن لغة الحديث عند مثقفي القرن الثاني كانت هي الفصحى أو أنهم حاولوا استخدام الفصحى، ولو كان
1 انظر طبقات الشعراء لابن سلام ص15 "ط أوروبا" والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 13/ 145، والأغاني "دار الكتب 6/ 71"، وقد جمع هذه المواضع يوهان فك في كتابه: العربية 62–63.
2 انظر: فك العربية 68- 7، والمرجع المذكورة به.
حديثهم باللهجات المحلية لما لوحظت هذه الأخطاء. كانت لغة المثقفين هي الفصحى، بينما كانت اللهجات المحلية المختلفة وسيلة التفاهم عند السواد الأعظم من سكان الدولة الإسلامية.
على أن محاولة الابتعاد عن اللهجات المحلية وتوهم الاختلاف الشاسع بين الفصحى واللهجات المحلية في غير أماكن هذا الاختلاف دفع إلى عدد من الأخطاء وإلى خروج على ضوابط البنية اللغوية الفصحى. فالقارئ نافع يجمع كلمة "معيشة" على معائش" بينما الصيغة القياسية "معايش"، لأن الأخيرة لا تعرف الهمز1. والهمز من الظواهر التي تميز العربية الفصحى عن بعض اللهجات القديمة، فأراد نافع أن يجعل الكلمة فصيحة فأضاف إليها الهمزة في غير موضع لها. فقد اعتقد أن المفرد "معيشة" على وزن "فعيلة" دون أن يعلم بأن الميم هنا ليست من أصل الكلمة، وجمع فعيلة فعائل، مثل: كريمة كرائم، ولكن معيشة هي في واقع اللغة بوزن مفعلة الذي يجمع على مفاعل، فتكون صيغة الجمع القياسية معايش بلا همزة، ولكن هذا لم يدر في ذهن من جمع معيشة على معائش لأنه يعتقد أن الهمزة تكسب الكلمة طابعا فصيحا، فأضافها في غير موضعها، ويطلق على هذه الظاهرة اسم Overcorrectness، أي المبالغة في تقليد الفصحاء أو التفاصح.
ودفع الإعجاب بلغة البدو إلى محاولتهم إظهار اختلافهم في النطق عن أهل الحضر، فكانوا يتشدقون أو يتشادقون وكانوا يحتفلون بالغريب ويهتمون به غاية الاهتمام، ولذا نجد في كتب اللغويين اهتمامًا بالغريب، أي بالألفاظ الغريبة النادرة، وحاول بعض البدو إرضاء رغبة اللغويين في استخدام الغريب وولعهم به. وفي هذا الإطار اخترعت بعض الشخصيات الأسطورية ونسبوا لها بعض الأقاصيص2. يروى عن أبي علقمة أنه كان نحويًّا، ولا تذكر كتب
1 سورة الأعراف /10، شرح المفصل لابن يعيش 1434.
2 ياقوت الحموي: إرشاد الأريب 12/ 205–215.
الطبقات أي شيء عنه، أو عن تلاميذه، أو عن مؤلفاته، أو عن آرائه. إنها لا تذكر أي شيء إلا أنه كان مريضًا، وذهب للطبيب فأخبره بعبارات غريبة لا تفهم، فرد عليه الطبيب بعبارات لا تقل غموضًا، وعندما رد أبو علقمة قائلا للطبيب: لم أفهم ما قلت، قال الطبيب: وهل فهمت أنا ما قلت!. وهناك رواية أخرى عن عبارات تنسب لأبي علقمة هي عبارات اخترعت اختراعًا، ولكنها تعبر عن روح العصر. كان هذا في إطار ولعهم بالغريب والألفاظ النادرة البدوية، وتعبيرًا عن روح العصر في تمجيده للحياة البدوية.
دخلت العربية في العصر الأموي مجالًا جديدًا هو مجال التأليف، فإذا نظرنا في التراث العربي قبل ذلك العصر لاحظنا أن يتركز في الشعر القديم والأمثال. يضاف إلى هذا أن القرآن الكريم بالعربية. لم يعرف المجتمع التأليف بالعربية واستخدامها كلغة كتابة إلا في العصر الأموي. وكان ابن المقفع المتوفى سنة 142هـ من أوائل من استخدم العربية لغة كتابة. وقد ترجم من البهلوية إلى العربية مجموعة من الكتب منها "خداي نامة" أي "أخبار الملوك"، كما ترجم أيضا كتاب:"كليلة ودمنة"1، وبذا دخلت العربية إلى مستوى جديد من مستويات الاستخدام اللغوي، فلم تعد العربية لغة الشعر فقط بل أصبحت أيضا لغة التأليف والثقافة. فكان على كل من يعيش في الدولة الإسلامية ويرغب في الإسهام بالتأليف أو بالترجمة أن يتعلم العربية ليترجم إليها أو يكتب بها أو يفهم المأثور الذي كتب بها. ولا شك أن استخدام العربية في مستويات جديدة دفع إلى تجديدات لغوية بعيدة المدى، فسيبويه يتحدث عن "الاسم" و"الفعل" و"الحرف" كاصطلاحات ذات معنى محدد، وشتان بين المعنى القديم لهذه المفردات في لغة البادية اليومية وبين المعنى الاصطلاحي المحدد، فسيبويه خلع على هذه الكلمات مدلولا علميًّا. وهو حين تحدث عن "الهمس" و"الجهر" و"المخارج" ابتكر اصطلاحات استقاها وانتقاها من لغة الحديث، واستخدمها كاصطلاحات.
1 الفهرست: 67، وفك: العربية 55-57.
علمية، محددًا معناها تحديدًا يتفق وطبيعة الاصطلاح العلمي. وعندما اكتشف الخليل أوزان الشعر العربي وضع لهذه الأوزان أسماء لم تكن تخطر للشعراء على بال، لقد أخذ اصطلاحات "الطويل" و"الخفيف" و"البسيط" و"الكامل"
…
إلخ، من لغة الحياة العامة، واستخدمها بدلالة جديدة. وفي كل فروع المعرفة نجد ظهور اصطلاحات علمية مع ظهور العلم نفسه.
ومن الطريف ما لاحظة الجاحظ بشأن المصطلحات التي استدعت وجودها العلوم المختلفة التي جدت في العصر العباسي، فلاحظ أن المتكلمين "اشتقوا منك كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفًا لكل خلف وقدوة لكل تابع. ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس، وفرقوا بين البطلان والتلاشي وذكروا الهذية والهوية وأشباه ذلك، كما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابًا ولم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل وأشباه ذلك، كما ذكر الأوتاد والأسباب والخرم والزحاف
…
وكما سمى النحويون فذكروا الحال والظرف وما أشبه ذلك
…
وأصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء وجعلوها علامة للتفاهم"1. فالجاحظ لاحظ وضع هذه الأسماء كمصطلحات علمية، وهذه الكلمات إما جديدة في الصياغة مثل الماهية أو ذات معنى اصطلاحي جديد مثل البسيط والكامل.
وهكذا دخلت العربية عصر الثقافة الإسلامية، كانت لغة بعض القبائل البدوية في شمال جزيرة العرب فصارت لغة الدولة الإسلامية من إيران إلى الأندلس ومن الشام إلى اليمن، وكانت لغة الحياة اليومية البسيطة فأصبحت لغة العلوم وأداة حضارة راقية.
عندما كانت العربية لغة بعض القبائل البدوية في شمال ووسط جزيرة
1 البيان والتبيين: 1/ 139–140.
العرب كانت اللغة تعيش دون موقف مدرسي أو تقنين نظري، كانت في مرحلتها البدوية المتأثرة بما تتأثر به الحياة اللغوية، من مؤثرات غير مدرسية. لم يكن هناك موقف مدرسي أو ديني تجاه اللغة، ولكن خروج القبائل مع الجيوش الإسلامية داعية معربة الأقاليم المفتوحة أحدث تغيرًا لغويًّا، وظهرت عند المستعربين ظواهر جديدة أزعجت الحس اللغوي لمن كان قد أعجب بالعربية البدوية ومن وجد في لغة القرآن الكريم اللغة المثلى والنموذج الممتاز للتعبير اللغوي. خرج اللغويون لجمع اللغة من القبائل التي أعجب العصر بفصاحتها، ورفضوا أخذ اللغة وتعلمها عن باقي القبائل، ومعنى هذا أن تعلم اللغة الفصحى متاح لمن أراد إذا اتجه هادفًا لذلك نحو بعض القبائل. كان مجتمع الشام والعراق يريد العربية، ولكن إعجابه بالبداوة وبحياة البادية قل مع الأجيال التي لم تعرف حياة البادية، لقد أرادوا العربية وحياة الحضارة.
وما أن بدأت حركة التأليف العلمي في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة حتى بدأ التأليف أيضًا في تعليم اللغة العربية. فقد ظهرت الرسائل اللغوية التعليمية الأولى في ذلك الوقت، وكتبت رسالة صغيرة في "لحن العامة" تنسب للغوي الكوفي الكسائي1. يضم هذا الكتيب مجموعة من المفردات التي شاعت في القرن الثاني في صورة رفضها اللغويون لمخالفتها للمأثور عن لغة فصحاء البادية. فالمؤلف يعتبر صيغة فعلول بفتح الفاء مثل عصفور برغوت صيغة فاسدة، لأن المأثور عن لغة فصحاء البادية وزن فعلول بضم الفاء لا بفتحها.
أكد الكسائي أيضًا أن وزن فعيل يستخدم للمؤنث دون تاء التأنيث، وأن إضافة التاء خطأ. والكتاب يعكس بهذه الملاحظات الصورة المضادة للاستخدام اللغوي كما عرفه القرن الثاني للهجرة. ونحن لا ننظر نظرة الكسائي بأن نحكم عليها بالخطأ أو بالصواب، بل نحاول أن ننظر إليها كجزء من واقع لغوي عرفه القرن الثاني للهجرة.
1 طبعت هذه الرسائل: ثلاث رسائل، تحقيق عبد العزيز الميمني، القاهرة 1387.