الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
أيها القارئ الكريم إني أحبوك إعراب الكلمتين الآتيتين بالتفصيل، أما الأولى فهي لفظ (ولقد) وقد تكرر لفظها في كل المعلقات، ولا سيما معلقة عنترة التي تكرر لفظها بكثرة، وإعرابها كما يلي:
الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، هذا وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبرون الجملة الآتية جوابًا لقسم محذوف، ولا أسلمه أبدًا، لأنه يكون على هذا قد حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: ووالله أقسم، أو أقسم والله، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، وبعضهم يقول: اللام موطئة للقسم، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على إن الشرطية، لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابًا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكمة، كما في قوله تعالى:{لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} [الحشر: 12]، افهم هذا وأحفظه فإنه جيد، إن شاء الله تعالي.
فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم، فالجواب أنه قد حذف المقسم به حذفًا مطردة في أوائل السور
القرآنية، مثل قوله تعالى:{والضحى} [الضحى: 1]{والسماء والطارق} [الطارق: 1] ونحو ذلك، فإن التقدير: ورب الضحى، ورب السماء .. الخ، الدليل على ذلك التصريح به في قوله تعالى:{فورب السماء والأرض} [الذاريات: 23]، وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى:{وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيا} [مريم: 71]، وأظهر منه في قوله تعالى:{وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 73]، فالواو في الآيتين حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب.
وأما (كلا) فلم أرها إلا في البيت رقم -65 - من معلقة الأعشى، وإني أنقل لك القول فيها بحروفه من مغني اللبيب لابن هشام طيب الله ثراه، لتكون على بصيرة من أمرك، قال رحمه الله تعالى: وهي عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج، وأكثر البصريين حرف معناه الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إنهم يجيزون الوقف عليها، والابتداء بما بعدها، وحتى قال بعضهم: متى سمعت (كلا) في سورة فاحكم بأنها مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العتو كان فيها، وفيه نظر، لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتو بها، لا عن غلبته، ثم لا تمتنع الإشارة إلى عتو سابق، ثم لا يظهر معنى الزجر في كلا المسبوقة بنحو قوله تعالى:{في أي صورةٍ ما شاء ركبك كلا} [الانفطار: 8] وقوله جل شأنه {يوم يقوم الناس لرب العالمين كلا} [المطففين: 6] وقوله جل ذكره: {ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة} [القيامة: 19 - 20].
وقولهم: المعنى انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي صورة ما شاء الله، وبالبعث وعن العجلة بالقرآن تعسف، إذ لم يتقدم في الأوليين حكاية نفي ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين (كلا) وذكر العجلة، وأيضًا
فإن أول ما نزل خمس آيات من أول سورة الفلق ثم نزل قوله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى} [العلق: 6] فجاءت في افتتاح الكلام، والواو منها في القرآن ثلاثة وثلاثون موضعًا، كلها في النصف الأخير، وذلك في خمس عشر سورة منه، وكلها مكية، قال الديربي في تفسيره المنظوم.
وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن
…
ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى
ويرى الكسائي وأبو حاتم ومن وافقهما أن معنى الردع والزجر ليس مستمرًا فيها، فزادوا فيها معنى ثانيًا، يصح أن يوقف دونها، ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها للكسائي ومتابعيه، قالوا: تكون بمعنى حقًا، والثاني لأبي حاتم ومتابعيه، قالوا: تكون بمعنى (ألا) الاستفتاحية، والثالث للنضر بن شميل والفراء ومن وافقهما، قالوا: تكون حرب جواب بمنزلة إي ونعم، وحملوا عليه قوله تعالى:{كلا والقمر} [المدثر: 32] فقالوا: معناه إي والقمر.
وقول أبي حاتم عندي أولى من قولهما، لأنه أكثر إطرادًا، فإن قول النضر لا يأتي في آيتي المؤمنين والشعراء على ما يأتي بيانه، وقول الكسائي لا يتأتى في نحو قوله تعالى:{كلا إن كتاب الأبرار} [المطففين: 18] وقوله: {كلا إن كتاب الفجار} [المطففين: 7] وقوله جل شأنه: {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} [المطففين: 15] لأن همزة إن تكسر بعد (ألا) الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقًا، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم، وأما قول مكي: إن كلا على رأي الكسائي إذا كانت بمعنى حقًا فبعيد، لأن اشتراك اللفظ بين الاسمية والحرفية قليل، ومخالف للأصل، ومحوج لتكلف دعوى علة لبنائها، وإلا فلم نونت؟
وإذا صلح الموضع للردع ولغيره جاز الموقف عليها، والابتداء بها على
اختلاف التقديرين، والأرجح حملها على الردع لأنه الغالب فيها، وذلك نحو قوله تعالى {أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا كلا سنكتب ما يقول} [مريم: 78 - 88] وقوله جل شأنه: {واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم: 81 - 82].
وقد تتعين للردع، أو الاستفتاح، نحو قوله جل شأنه:{رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت كلا إنها كلمة} [المؤمنون: 99 - 100] لأنها لو كانت بمعني حقًا، لما كسرت همزة إن، ولو كانت بمعني نعم لكانت للوعد بالرجوع لأنها بعد الطلب، كما يقال: أكرم فلانًا، فنقول: نعم، ونحو قوله جل ذكره:{قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 61 - 62] وذلك لكسر همزة إن، ولأن نعم بعد الخبر للتصديق.
وقد يمتنع كونها للزجر، نحو قوله تعالى:{وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر} [المدثر: 31 - 32] وليس قبلها ما يصح ره، وقول الطبري وجماعة: إنه لما نزل في عدد خزنة جهنم قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} [المدثر: 30] قال بعضهم: اكفوني اثنين، وأنا أكفيكم سبعة عشر، فنزل (كلا) زجرا له تعسف، لأن الآية لم تتضمن ذلك اهـ مغني اللبيب.
أقول: ويتلخص من هذا أن الأكثر في كلا أن تكون حرف ردع وزجر، وذلك إذا سبقها كلام يستدعي ذلك، ولا ردع في سورة الانفطار، ولا في سورة العلق، ولا في سورة المطففين، وما جرى مجراهن، وإنما هي للتنبيه والاستفتاح كما هو واضح، وتكون حرف جواب بمعنى إي، كما في قوله تعالى:{كلا والقمر} ولا تكون بمعنى حقًا كما بينه ابن هشام لعدم فتح همزة إن بعدها، ونقل الجمل عن السمين للنحويين فيها ستة مذاهب والمعتمد ما لخصته، وبالله التوفيق، وبه أستعين.