الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(607) باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم وإذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها
5194 -
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء. فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم. وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به. ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق".
5195 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا. فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه. فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه" وحدثناه عمرو الناقد وابن أبي عمر قالا حدثنا سفيان عن أبي الزناد بهذا الإسناد، نحوه.
5196 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي كمثل رجل استوقد نارا. فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها. قال فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني تقحمون فيها".
5197 -
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها. وهو يذبهن عنها. وأنا آخذ بحجزكم عن النار. وأنتم تفلتون من يدي".
5198 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل
بنى بنيانا فأحسنه وأجمله. فجعل الناس يطيفون به، يقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا، إلا هذه اللبنة. فكنت أنا تلك اللبنة".
5199 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها: وقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها. فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة! فيتم بنيانك" فقال محمد صلى الله عليه وسلم "فكنت أنا اللبنة".
5200 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين".
5201 -
وفي رواية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين" فذكر نحوه.
5202 -
عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة. فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة! " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء".
5203 -
وفي رواية بهذا الإسناد مثله وقال: بدل أتمها أحسنها.
5204 -
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده، قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها. وإذا أراد هلكة أمة، عذبها، ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره".
-[المعنى العام]-
صدق الله العظيم، إذ يقول {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128].
نعم كل نبي يحرص على إجابة قومه لدعوته لمصلحتهم، ويبذل في سبيل ذلك جهده، ويتحمل من مكذبيهم وسفهائهم قدر الطاقة، لكن من الرسل من ضاق ذرعه بعصيانهم، ومنهم أولوا العزم الذين طال صبرهم، وعظم بلاؤهم، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
قد ينفد الصبر، فيدعو الرسول على العاصين، وقد يتمكن من أعدائه فينتقم منهم، بحكم الطبيعة البشرية، أما أن يقابل السيئة بالحسنة في عامة أحواله فهذه هي الخصوصية.
يذهب إلى الطائف، يدعو أهله، لصالحهم، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، فيسخرون منه، ويهزءون به، ويغرون به سفهاءهم وصبيانهم يجرون خلفه، يسبونه ويقذفونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ولما تعبوا رجعوا، فاستند إلى سور حديقة مجهدا متعبا مغتاظا، فينزل عليه ملك الجبال يعرض عليه أن يطبق عليهم الجبال، فيقول: لا. اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون.
يغتال وحشي الكافر أعز أعمامه، أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وتبقر هند زوجة أبي سفيان بطنه، وتخرج كبده، تلوكها في فمها، فيقدر عليهما، فيعفو عنهما. يفتح مكة، فيمكنه الله ممن آذوه وآذوا أصحابه، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، فيقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فيقولون أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول لهم: لا أقول لكم إلا كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء.
يذهب إليه أعرابي، يطلب إحسانه من بيت المال، فيمسك بخناق ثوبه، ويجذبه منه حتى يؤثر الثوب في رقبته، وهو يقول: يا محمد، أعطني من مال الله الذي عندك، فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك، ويثور عمر، فيجرد سيفه، ويقول لرسول صلى الله عليه وسلم: دعني أدق عنق هذا المنافق، فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل إلى بيت المال، فيخرج له ما شاء الله، ثم يقول له: أأحسنت؟ فيقول الأعرابي: ما أحسنت وما أجزلت. فيثور عمر ثانية، فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل، فيزيد الرجل، ثم يقول له: أأحسنت؟ فيقول له: لا، ما أحسنت وما أجزلت، ويثور عمر حتى لا يكاد يملك نفسه فيمنعه صلى الله عليه وسلم، ويدخل، فيزيد الرجل، ويقول صلى الله عليه وسلم: إن مثلي ومثلكم ومثل هذا كرجل شردت ناقته، فجرى الناس خلفها، يمسكونها، فكلما رأتهم يطاردونها زادت شرودا، فقال لهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي، ثم أخذ في يده شيئا من حشيش الأرض، وتقرب به إليها، فجاءت وبركت واستناخت. صلى الله عليه وسلم {بالمؤمنين رءوف رحيم} منع العصاة أن يقعوا في النار، يبذل جهده الخارق في الحيلولة بينهم وبين المعاصي، لكن كثيرا منهم، تغلبهم شهوتهم ونفسهم الأمارة بالسوء، فينهمكون في الشهوات، فيقعون في نار الآخرة، كالفراش الجاهل الذي يحارب النار بالوقوع فيها، ولقد كانت رسالته صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات، وقمتها، فكل نبي جاء بشرع، أصلح الإنسانية بعض الإصلاح، فكان الأنبياء السابقون كمن يبني جزءا من بيت، حتى كاد يكتمل
البناء، إلا زاوية من زواياه، لو بنيت لاكتمل، فكان صلى الله عليه وسلم ممثلا في البناء هذه الزاوية، محققا تمام البناء، واكتمال الشرائع، ووصول البشرية إلى أرقى عباداتها وصلاحها، بما جاء به من شرع حكيم، صالح لكل زمان ومكان إلى يوم الدين.
-[المباحث العربية]-
(إن مثلي ومثل ما بعثني الله به) بفتح الميم والثاء، والمثل الصفة العجيبة الشأن، يوردها البليغ، على سبيل التشبيه، لإرادة التقريب والتفهيم.
(كمثل رجل أتى قومه) في رواية للبخاري "أتى قوما" والتنكير فيه للشيوع، وروايتنا أوضح، لأن قومه هم الأولى بقبول خبره، ولأنهم الذين يحرص عليهم بالدرجة الأولى.
(إني رأيت الجيش بعيني) تثنية عين، وذكر هذا اللفظ لزيادة التأكيد، فالرؤية إنما تكون بالعينين، أي تحقق عنده جميع ما أخبر عنه، تحقق من رأى شيئا بعينيه، لا يعتريه وهم، ولا يخالطه شك، وفي رواية "بعيني" بالإفراد، و"ال" في "الجيش" للعهد، أي جيش عدوكم.
(وإني أنا النذير العريان) مثل يضرب للناصح الأمين الحريص على مصلحة قومه، الخائف المشفق عليهم، والجملة من كلام الرجل، داخلة في المشبه به، وأكدها بإن واسمية الجملة، وإعادة الضمير "أنا" قال العلماء: وأصل المثل أن رجلا من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة، فقطع يده ويد امرأته، فانصرف إلى قومه، فحذرهم من العدو، مقدما لهم نفسه وامرأته كدليل على تحقق الخبر، واستبعد أن يكون ذلك أصل المثل، لعدم اشتماله على العري، وقيل أصل المثل أن رجلا لقي جيشا، فسلبوه، وأسروه، فانفلت إلى قومه، فقال: إني رأيت الجيش، فسلبوني فرأوه عريانا، فتحققوا صدقه، لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن.
وقال النووي: قال العلماء: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه، وإعلامهم بما يوجب المخافة، نزع ثوبه، وأشار به إليهم، إذا كان بعيدا منهم، ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر ما يفعل هذا طليعتهم ورقيبهم وعينهم، قالوا: وإنما يفعل ذلك، لأنه أبين للناظر، وأغرب، وأشنع منظرا، فهو أبلغ في استحثاثهم على التأهب للعدو، وقيل: معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدو، فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانا. اهـ.
أما المشبه، فقد ضرب صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلا بذلك، لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على صدقه، تقريبا لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه، وعند أحمد بسند جيد "خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فنادى ثلاث مرات: أيها الناس. مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا أن يأتيهم، فبعثوا رجلا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدو، فأقبل لينذر قومه، فخشي أن يدركه العدو، قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيها الناس، أتيتم. أتيتم. أتيتم." فالعريان على ما سبق من العري والتعري، وهو المعروف في
الرواية، وحكى الخطابي أن بعضهم رواه بالباء الموحدة، فإن كان محفوظا فمعناه الفصيح بالإنذار، لا يكنى ولا يورى، بل يعرب ويبين، يقال: رجل عربان، أي فصيح اللسان.
(فالنجاء) بالمد مفعول مطلق، أو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: انجوا، أو الزموا واطلبوا، قال القاضي عياض: المعروف في النجاء، إذا أفرد، المد وحكى أبو زيد فيه القصر أيضا فإذا ما كرروه، فقالوا: النجاء. النجاء ففيه المد والقصر معا، وروايتنا بالإفراد، ورواية البخاري بالتكرار، قال الحافظ ابن حجر: بالمد فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية، وبالقصر فيهما تخفيفا، وفيه إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش.
(فأطاعه طائفة من قومه) في طلبه الفرار من وجه العدو، أي صدقوه، فأطاعوه، والتذكير في "فأطاعه" مع أن الفاعل مؤنث "طائفة" على تقدير بعض القوم، وفي رواية "فأطاعته" بالتأنيث.
(فأدلجوا) بهمزة قطع فسكون، أي ساروا أول الليل، أو ساروا الليل كله، على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة، قال الحافظ ابن حجر: وأما بالوصل والتشديد، على أن المراد به سير آخر الليل، فلا يناسب هذا المقام.
(فانطلقوا على مهلتهم) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم "مهلتهم" بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام وفي الجمع بين الصحيحين "على مهلهم" بفتح الميم والهاء الأولى، وبحذف التاء، قال: وهما صحيحان، اهـ. والمعنى انطلقوا وساروا على هينة وراحة، ونجوا من عدوهم.
(وكذبت طائفة منهم) أي كذبت النذير في خبره عن جيش العدو، أي فلم يطيعوه، ولم يأخذوا حذرهم، ولم يهربوا من بطشه، وعبر عن الطائفة الأولى بالطاعة لأنها مسبوقة بالتصديق، مستلزمة له، فإثباتها إثبات له، وفي الثانية بالتكذيب، لأنه الأساس في عدم الطاعة، فاستتبع العصيان، والمراد الأمران في كل منهما، تصديق وطاعة في جانب، وتكذيب وعصيان في جانب، فحذف من كل لازمه.
(فأصبحوا مكانهم) تصريح بما دل عليه اللازم.
(فصبحهم الجيش فأهلكهم، واجتاحهم) معنى "صبحهم" أتاهم صباحا مبكرا وهم نائمون، ثم كثر استعماله، حتى استعمل فيمن طرق بغتة، في أي وقت كان، ومعنى "اجتاحهم" استأصلهم، من جحت الشيء، أجحته، إذا استأصله، والاسم الجائحة، وهي الهلاك، وأطلقت على الآفة، لأنها مهلكة، وذكر الاجتياح بعد الإهلاك لتأكيده وقوته.
قال الطيبي: شبه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل، وشبه ما جاء به من الوعد والوعيد بإنذار الرجل قومه بالجيش، وشبه من أطاعه من أمته بمن أطاع الرجل وصدقه، وشبه من عصاه من أمته بمن كذب الرجل في إنذاره، والنتيجة شبيهة بالنتيجة.
(إنما مثلي ومثل أمتي) من حيث موقف الأمة مما جاء به صلى الله عليه وسلم، والقصر بإنما قصر إضافي، لأن مثله صلى الله عليه وسلم مع أمته ليس مقصورا على هذا، فقد سبق مثل، وسيأتي غيره.
(كمثل رجل استوقد نارا) أي أوقد نارا، واستوقد أبلغ من أوقد، فزيادة المبني تفيد زيادة المعنى، زاد في الرواية الثالثة "فلما أضاءت ما حولها" والإضاءة فرط الإنارة، والمراد بذلك ظهور الحق ووضوحه، مما يرفع عذر المعتذر.
(فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه) أي في هذا الشيء الموقد، وفي الرواية الثالثة والرابعة "يقعن فيها" والدواب كل ما يدب على الأرض ولو لحظة، فيشمل الطير ويكون ذكر الفراش وغيره بعده من ذكر الخاص بعد العام، ويحتمل أن يراد بالدابة ما من شأنه يمشي على الأرض، فيكون عطف الطير عليه من العطف المغاير، وعلى كل فالمراد من الدواب التي تسقط في النار بعضها مما من شأنه أن يجري نحو النار يجهل عاقبتها، فيسقط فيها، كالخنافس والصرار وبعض الحشرات، أما الفراش فالمراد منه النوع المعروف من الطير، ذو الأجنحة التي هي أكبر كثيرا من جثته، وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر، وكذا أجنحته، وأغرب ابن قتيبة فقال: المراد من الفراش ما يتهافت في النار من البعوض، وقال الخليل: الفراش كالبعوض، يلقي بنفسه في النار. وقال بعضهم: الفراش ما تراه كصغار البق، يتهافت في النار، وقال المازري: المراد من الفراش الجنادب. اهـ. ربما لأنه ورد في الرواية الرابعة، ولفظها "فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها" فجعله من عطف التفسير، وتعقب بأن الجنادب جمع جندب، وفيها ثلاث لغات، ضم الجيم مع ضم الدال وفتحها، وكسر الجيم مع فتح الدال، وهو الصرار الذي يشبه الجراد، وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد، له أربعة أجنحة، كالجرادة وأصغر منها، يطير ويصر بالليل صرا شديدا.
وفي الرواية الثالثة "جعل الفراش، وهذه الدواب التي في النار، يقعن فيها" ومعنى الموصول وصلته التي من شأنها الدخول في النار.
(وجعل يحجزهن، ويغلبنه، فيتقحمن فيها)"جعل" هنا للصيرورة، والحجز المنع، والتقحم أصله القحم والإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، ويطلق على رمي الشيء بغتة، ومثله الاقتحام، يقال: اقتحم الدار هجم عليها، وفي الرواية الثانية "فأنا آخذ بحجزكم، وأنت تقحمون فيه" بفتح التاء والقاف، وتشديد الحاء، وحذف إحدى التاءين، أي تتقحمون، قال النووي:"آخذ" روي بوجهين، أحدهما اسم فاعل، بكسر الخاء، وتنوين الذال، والثاني فعل مضارع بضم الخاء والذال، وهما صحيحان، والأول أشهر. اهـ.
"وحجزكم" بضم الحاء وفتح الجيم وضمها جمع حجزة بضم الحاء وسكون الجيم، وهي معقد الإزرار من وسط الإنسان، ومن السراويل موضع التكة، وفي الرواية الرابعة "فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها- أي يدفعهن ويبعدهن عنها- وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي" قال النووي: روي بوجهين: أحدهما فتح التاء والفاء واللام المشددة، وأصله تتفلتون، حذفت إحدى التاءين، والثاني ضم التاء، وإسكان الفاء وكسر اللام، وكلاهما صحيح، يقال: أفلت مني، وتفلت مني، إذا نازعك الغلبة، والهرب، ثم غلب وهرب وفي الرواية الثالثة "أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني، تقتحمون فيها" و"هلم" اسم فعل أمر،
تفرد على كل حال، تقول: هلم يا رجلان وهلم يا رجال وقد تلحقها علامات التثنية والجمع، والمعنى هنا تعالوا عن النار، أي تعالوا إلي، وابتعدوا عن النار.
ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك، مع منعه إياهم، وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك لجهله.
(مثلي ومثل الأنبياء) في الرواية السادسة والسابعة "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي".
(كمثل رجل بنى بنيانا، فأحسنه وأجمله) قيل: المشبه به واحد والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه؟ وأجيب بأنه جعل الأنبياء كرجل واحد، لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذلك الدار، لا تتم إلا باجتماع البنيان- أي فهو من تشبيه مفرد بمفرد، وقيل: هو من تشبيه التمثيل، بأن نجعل أوصاف المشبه به في حكم مفردات، يشبه بها أجزاء وأوصاف المشبه. فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس، ببيت أسست قواعده، ورفع بنيانه، وبقي منه موضع، به يتم صلاح ذلك البيت، وفي الرواية السادسة "كمثل رجل ابتنى بيوتا، فأحسنها وأجملها وأكملها".
(فجعل الناس يطيفون به، يقولون: ما رأينا بنيانا أحسن من هذا. إلا هذه اللبنة، فكنت أنا اللبنة) يقال: طاف حوله، وبه، وعليه، وفيه، يطوف، طوفا، بفتح الطاء وسكون الواو، وطوفانا، بفتح الواو، دار وحام، وأطاف به، وعليه، طاف، فيطيفون من أطاف، وفي الرواية السادسة والسابعة "يطوفون" من طاف. وفي الرواية السادسة "فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان، فيقولون: ألا وضعت ها هنا لبنة؟ فيتم بنيانك؟ ""فألا" بتشديد اللام للتحضيض، و"وضعت" بفتح الواو، والضاد وسكون العين وتاء المخاطب.
وفي الرواية السابعة "ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"؟ فهلا بتشديد اللام للتحضيض أيضا والتاء للمخاطب، واللبنة بفتح اللام وكسر الباء، بعدها نون، وبكسر اللام، وسكون الباء، هي القطعة من الطين، تعد للبناء، ويقال لها ذلك ما لم تحرق، فإذا أحرقت فهي آجرة، وفي الرواية الثامنة، كما في البخاري "لولا موضع اللبنة" قال الحافظ ابن حجر:"موضع" بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي لولا موضع اللبنة، يوهم النقص لكان بناء الدار كاملا، ويحتمل أن تكون "لولا" تحضيضية، وفعلها محذوف، تقديره لولا أكمل موضع اللبنة؟ .
وزعم ابن العربي أن اللبنة المشار إليها كانت في رأس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار. قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور، قال الحافظ ابن حجر: وهذا إن كان منقولا فهو حسن، وإلا فليس بلازم (ففي روايتنا السادسة والسابعة "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها") نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها.
(فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها) الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط، هو الذي يتقدم الوارد، ليصلح له الحياض، والدلاء ونحوها من أمور الاستسقاء.
-[فقه الحديث]-
-[ويؤخذ من أحاديث الباب]-
1 -
ترجم البخاري للروايات الأربع بباب الانتهاء عن المعاصي، أي تركها أصلا ورأسا والإعراض عنها بعد الوقوع فيها.
2 -
وفيها إشارة إلى أن الإنسان في حاجة شديدة إلى النذير.
3 -
وفيها ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة والحرص على نجاة الأمة، كما قال تعالى:{حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128].
4 -
وفيها مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تحذير الأمة مما يضرهم.
5 -
ومن الرواية الخامسة والسادسة فضيلته صلى الله عليه وسلم.
6 -
ومن الرواية السابعة والثامنة أنه خاتم النبيين.
7 -
ومن مجموع الروايات جواز ضرب الأمثال في العلم وغيره.
8 -
أن إهلاك الأمم واستئصال مكذبيها إنما يكون في حياة نبيهم.
9 -
تبشير الأمم التي يموت نبيها قبلها بشفاعته لأمته ووساطته لهم عند ربهم.
10 -
وفي ذلك تبشير بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لأمة الإسلام.
والله أعلم