الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(632) باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
5371 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار. فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
5372 -
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: "عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده. فاختار ما عنده" فبكى أبو بكر. وبكى. فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخوة الإسلام. لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر".
5373 -
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوما. بمثل حديث مالك.
5374 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكنه أخي وصاحبي. وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلا".
5375 -
عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت متخذا من أمتي أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر".
5376 -
عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا".
5377 -
عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله".
5378 -
عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. إن صاحبكم خليل الله".
5379 -
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل. فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر" فعد رجالا.
5380 -
عن عائشة رضي الله عنها وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح. ثم انتهت إلى هذا.
5381 -
عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه، أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فأمرها أن ترجع إليه. فقالت: يا رسول الله! أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ قال أبي: - كأنها تعني الموت- قال: "فإن لم تجديني فأتي أبا بكر".
5382 -
وفي رواية عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء، فأمرها بأمر. بمثل حديث عباد بن موسى.
5383 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه:
"ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتابا. فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر".
5384 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ " قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".
5385 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يسوق بقرة له، قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا. ولكني إنما خلقت للحرث" فقال الناس: سبحان الله! تعجبا وفزعا. أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أومن به وأبو بكر وعمر" قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا راع في غنمه، عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة. فطلبه الراعي حتى استنقذها منه. فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟ " فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أومن بذلك. أنا وأبو بكر وعمر".
5386 -
وفي رواية عن ابن شهاب بهذا الإسناد قصة الشاة والذئب. ولم يذكر قصة البقرة.
5387 -
وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث يونس عن الزهري. وفي حديثهما ذكر البقرة والشاة معا. وقالا في حديثهما:"فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر" وما هما ثم.
-[المعنى العام]-
إنما يعرف الفضل للناس ذووه، وذكر الفضائل، والثناء على من يستحق الثناء حق لأهل الخير، وعلى من انتفع منهم، {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له"
إن تسجيل الفضائل والتنويه بها نوع من أنواع شكرها والله تعالى يقول {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152] ويقول {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7].
وتسجيل الفضائل والتنويه بها رد لبعض جميل صاحبها، وحث وترغيب للاقتداء به، ومعرفة قدره، ومن هنا عقد علماء الحديث كتابا لفضائل الصحابة، ومن هنا أثنى صلى الله عليه وسلم على أصحابه وذكر مآثر لكثير منهم، ورفع من قدر أعمالهم وجهادهم.
فأثنى بالدرجة الأولى على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أول من أسلم من الرجال، وكان إيمانه تصديقا لا نظير له، حتى لقب بالصديق، وأنفق على الدعوة كل ماله، أسلم وهو يملك أربعين ألف درهم أنفقها كلها في سبيل الإسلام، اشترى العبيد الذين أسلموا، وأوذوا لإسلامهم، وأعتقهم، وأنفق على هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته عائشة رضي الله عنها فكانت بلسما لجراحه، وأنسا وسعادة لحياته في بيته، وشاركه في جميع غزواته، وجاهد في الله حق جهاده، وكان كوزيره الأول في إدارة شئون أمته، وكان الأخ الأول في أخوة الإسلام، وكان ثاني اثنين إذ هما في الغار، وكان رفيق رحلة الهجرة، بل كان خير من يرافق في السفر روي أنه كان في هذه الرحلة يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، ويتأخر عنه أخرى فلما سئل قال: أخشى الرصد من أمامنا فأتقدم لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم والصد عنه، وأخشى الملاحقة والمتابعة من خلفنا، فأتأخر للدفاع عنه.
لقد كان أحب الرجال إليه صلى الله عليه وسلم وأول من يثق فيه من أصحابه والمرشح الأول من جهته للخلافة، ولقد هم صلى الله عليه وسلم أن يعينه خليفة من بعده، لكنه - وبالوحي - علم أنه سيكون كذلك عن طريق الأمة، فقال: لقد هممت أن أكتب كتابا أوصي فيه بخلافة أبي بكر ولكني قلت: يأبى الله إلا خلافة أبي بكر، كتبت أو لم أكتب ويدفع المؤمنون الطامعين في الخلافة.
نعم أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارات واضحة لاستخلاف أبي بكر، فأمر بسد فتحات البيوت المحيطة بالمسجد، والتي يدخل منها الناس في المسجد إلا فتحته صلى الله عليه وسلم وفتحة بيت أبي بكر.
ويعد صلى الله عليه وسلم امرأة أن تأتيه بعد عام، فتقول المرأة: فإن لم أجدك بعد عام؟ فيقول لها: فائت أبا بكر، ويعينه صلى الله عليه وسلم رئيسا وإماما للمسلمين في حجتهم سنة تسع من الهجرة، قبل أن يحج بهم صلى الله عليه وسلم وأخيرا وفي مرضه صلى الله عليه وسلم حين عجز عن إمامة الناس في المسجد قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فصلى أبو بكر بالناس ثلاثة أيام أو نحوها بدلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال قائل الصحابة: ائتمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديننا، أفلا نأتمنه على دنيانا؟ رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
-[المباحث العربية]-
(من فضائل أبي بكر) واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم ابن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي، أبو بكر الصديق بن أبي قحافة، ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر.
صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمر معه طول الإقامة بمكة، ورافقه في الهجرة وفي الغار، وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم غزوة تبوك، وحج بالناس سنة تسع، وأسلم على يديه كثير من الصحابة، وأعتق سبعة، كلهم كان يعذب في الله، كان يشتغل بالتجارة، كان يملك أربعين ألفا، أنفقها في سبيل الله، كانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما، توفي لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وما ترك دينارا ولا درهما.
والفضائل جمع فضيلة، وهي الخصلة الجميلة، التي يحصل لصاحبها بسببها شرف وعلو منزلة، إما عند الحق، وإما عند الخلق.
(نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار) غار ثور، ولما كان الغار تجويفا في داخل جبل، أشعر هذا التعبير بأنه كان منخفضا، إلا أنه كان ضيقا.
(ما ظنك باثنين الله ثالثهما) المراد ناصرهما ومعينهما، وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه.
(جلس على المنبر فقال عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا، وبين ما عنده، فاختر ما عنده) كانت هذه الخطبة في مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم "قبل أن يموت بخمس ليال" وفي رواية للبخاري "إن الله خير عبدا بين الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عند الله" وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: .. " وزهرة الدنيا نعيمها وأعراضها، شبهت بزهرة الروض.
(فبكى أبو بكر وبكى) معناه: بكى كثيرا، وكان أبو بكر قد فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المقصود بالعبد المخير، بقرينة مرضه فبكى حزنا على فراقه، وانقطاع الوحي، وغيره من الخير وإنما قال صلى الله عليه وسلم "عبد" وأبهمه، لينظر فهم أهل المعرفة ونباهة أصحاب الحذق، كذا قال النووي. والظاهر أن الإبهام لعدم إثارة العامة، وعدم إدخال الهم والحزن عليهم مبكرا ليبقوا بين الشك في البلاء وعدمه فترة، فيهون عليهم عند وقوعه.
وفي رواية للبخاري، يقول أبو سعيد الخدري "فعجبنا لبكائه، أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا" وفي رواية "فقلت في نفسي" وفي رواية "فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد، وهو يقول: فديناك"؟ زاد في رواية للبخاري: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر. لا تبك".
(إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر) قال العلماء: معناه أكثرهم جودا وسماحة لنا بنفسه وماله، قال النووي: وليس هو من المن، الذي هو الاعتداد بالصنيعة، لأنه أذى مبطل للثواب، ولأن المنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبي: هو من الامتنان، والمراد أن أبا بكر له من الحقوق، ما لو كان لغيره نظيرها لامتن بها، ويؤيده رواية "ليس أحد أمن علي" أي يمكن أن يمن علي لما له عندي من يد وفي رواية "إن من أمن الناس علي أبا بكر" وعند الترمذي "ما لأحد عندنا يد، إلا كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا، يكافئه الله بها يوم القيامة" زاد في رواية للطبراني "منة أعتق بلالا، ومنة هاجر بنبيه" وفي رواية له أيضا "واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته".
(ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) في الرواية الرابعة "لو كنت متخذا من أمتي أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر" وفي الرواية الخامسة "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا" وفي الرواية السادسة "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا" قال أهل اللغة: الخلة أرفع رتبة من المودة والمحبة والصداقة، ولذلك نفى الخليل، وأثبت المحب، فهو صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر وعائشة وفاطمة والحسنين وغيرهم وقال الزمخشري: الخليل هو الذي يوافقك في خلالك، ويسايرك في طريقك، أو الذي يسد خللك، وتسد خلله، أو يداخلك خلال منزلك، وقيل: أصل الخلة انقطاع الخليل إلى خليله، وقيل الخليل من يتخلله سرك، وقيل: من لا يسع قلبه غيرك، قيل: أصل الخلة الاستصفاء وقيل: المختص بالمودة قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله بالنسبة إلى الإنسان أما خلة الله للعبد فبمعنى نصره له، ومعاونته، وفي الرواية الثالثة "وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلا" وفي الرواية السادسة "ولكن صاحبكم خليل الله" ولا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما "أخبرني خليلي صلى الله عليه وسلم" فذلك جائز لهم، لأن الصحابي يحسن في حقه الانقطاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي الرواية السابعة "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله" قال النووي: هما بكسر الخاء، فأما الأول فكسره متفق عليه والخل بمعنى الخليل وأما قوله "من خله" فبكسر الخاء عند جميع الرواة في جميع النسخ والخل الصداقة وصوب القاضي فتحها والمعنى على كل: أبرأ من خلة كل خليل أي أن يكون خليلي.
(ولكن أخوة الإسلام) في الرواية الثالثة "ولكنه أخي وصاحبي" وعند البخاري "ولكن أخوة الإسلام ومودته" وعند الطبراني "ولكن أخوة الإيمان والإسلام أفضل" ولا يعكر عليه اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة، لأن زيادة أبي بكر في ذلك لا تخفى.
(لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) المراد بالمسجد مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والخوخة باب صغير، قد يكون بمصراع، وقد لا يكون، وإنما أصلها فتح في حائط، كالطاقة تفتح لأجل الضوء، ولا يشترط علوها، وحيث تكون سفلى يمكن الانتقال منها لتقريب الوصول من البيت إلى مكان مطلوب وهو المقصود هنا، ولهذا أطلق عليها - في رواية للبخاري "باب"، وقي: لا يطلق عليها "باب" إلا إذا كانت تغلق، وكان أصحاب البيوت المحيطة بالمسجد النبوي، قد فتحوا في بيوتهم خوخات في المسجد، وكان لأبي بكر بيت ملاصق، غير بيته
الذي كان في السنح من عوالي المدينة، وضواحيها، وقد جاء في بعض الروايات "وأمر بسد الأبواب إلا باب علي" وسنتعرض لها في فقه الحديث، ورواية مسلم "لا تبقين" بضم التاء مع نون التوكيد مبني للمجهول، و"خوخة" بالرفع نائب فاعل، أي لا تبقى خوخة، أي لا تبقوا خوخة.
وفي رواية للبخاري "لا يبقين" بفتح الياء الأولى، مبني للمعلومات أي لا تبقى خوخة كأنه قال: لا تبقوها حتى لا تبقى فأضيف النهي إلى الخوخة، والمراد نهيهم عن إبقائها، من إضافة الشيء إلى لازمه.
وفي رواية البخاري "لا يبقين باب إلا سد، إلا باب أبي بكر" وقد ادعى بعضهم أن الباب في الحديث كناية عن الخلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر، فإنه لا حرج عليه في طلبها. وإلى هذا جنح ابن حبان.
(عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل) ذكر ابن سعد أن جمعا من قضاعة تجمعوا، وأراد أن يدنوا من أطراف المدينة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ثم أمده بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين، وأمره أن يلحق بعمرو وأن لا يختلفا، فأراد أبو عبيدة أن يؤم، فمنعه عمرو، وقال: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير، فأطاع له أبو عبيدة، فصلى بهم عمرو، وروى الحاكم "أن عمرو بن العاص أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارا، وذلك في ليلة باردة، فأنكر عمر ذلك، فقال له أبو بكر: دعه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعثه علينا إلا لعلمه بالحرب فسكت عنه" وروى ابن حبان نحو هذا وفي رواية "فقال عمرو: لا يوقد أحد منكم نارا إلا قذفته فيها، فلقوا العدو، فهزموهم، فأرادوا أن يتبعوهم، فمنعهم، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا، فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم، فيكون لهم مدد هناك. فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، فقال: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ .. الحديث، وكانت الغزوة في أوائل السنة الثامنة، عقب إسلام عمرو بن العاص فعند أبي عوانة وابن حبان والحاكم "قال عمرو بن العاص: بعث إلي النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي فقال: يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش، فيغنمك الله ويسلمك. قلت: إني لم أسلم رغبة في المال. قال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح".
(فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر. فعد رجالا) كان هذا الإتيان بعد عودته من الغزوة، وبعد سؤاله صلى الله عليه وسلم عما حدث فيها، وتبين رواية البيهقي دوافعه إلى هذا السؤال ولفظها "قال عمرو: فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر، إلا لمنزلة لي عنده" وقوله "فعد رجالا" أي ذكر أسماء بعد أبي بكر وعمر، ولم يذكره في أحب الناس إليه والظاهر أن ممن عدهم أبا عبيدة المذكور في الرواية التاسعة والذي جعلته عائشة ثالث وآخر من ذكر، زاد في رواية علي بن عاصم "قال: قلت في نفسي: لا أعود لمثلها، أسأل عن هذا" وفي المغازي "فسكت، مخافة أن يجعلني في آخرهم" وقيل: إن عليا رضي الله عنه كان ممن أبهمه عمرو بن العاص، وتقول الرافضة: إن إبهامه عليا كان لما بينه وبينه، رضي الله عنهم.
(أرأيت) أي أخبرني.
(إن جئت فلم أجدك؟ ) قال جبير الراوي: كأنها تعني الموت، وفي رواية "تعرض بالموت ومرادها: إن جئت فوجدتك قد مت، ماذا أعمل؟ والظاهر أن هذه القصة كانت في أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم وكان طلب عودتها له بعد زمن.
(ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا) في رواية للبخاري "لقد هممت - أو أردت - أن أرسل إلى أبي بكر وابنه" وفي رواية "أو آتيه" قيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يستميل بذلك قلب عائشة، وكأنه يقول لها: كما أن الخلافة ستفوض إلى أبيك، فإن ذلك يقع بحضور أخيك.
قال النووي: قال القاضي: صوب بعضهم رواية "آتيه" وليس كما صوب، بل الصواب "وابنه" وهو أخو عائشة، وتوضحه رواية لمسلم "أخاك" ولأن إتيان النبي صلى الله عليه وسلم كان متعذرا أو متعسرا، وقد عجز عن حضور الجماعة واستخلف الصديق ليصلي بالناس واستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة.
ومعنى "حتى أكتب كتابا" أي أعهد فيه بالخلافة من بعدي.
(فإني أخاف أن يتمنى متمن) الخلافة، وهو لا يستحقها، وفي رواية للبخاري "أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون" بضم النون جمع متمني بكسرها. أي كراهة أن يقول القائلون: الخلافة لفلان، من غير استحقاق، أو يتمناها المتمنون ويطالبون بها من غير استحقاق.
(ويقول قائل: أنا أولى) قال النووي: في بعض النسخ المعتمدة "أنا، ولا" بتخفيف النون واللام أي يقول: أنا أحق بالخلافة، وليس كما يقول فأنا مبتدأ، خبره محذوف و"لا" متضمنة معنى جملة حالية - وفي بعض النسخ "أنا أولى" أي أحق بالخلافة قال القاضي: هذه الرواية أجودها، ورواه بعضهم "أنا ولي" بتخفيف النون وكسر اللام أي أنا أحق والخلافة لي - فأنا مبتدأ خبره محذوف، و"لي" خبر لمبتدأ محذوف والجملة الثانية معطوفة على الأولى - وعن بعضهم "أنا ولاه" بتشديد اللام أي أنا الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بعضهم "أنى ولاه" بتشديد النون المفتوحة، أي كيف ولاه.
(ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) في رواية البخاري "ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون" أي يأبى الله إلا خلافة أبي بكر، ويدفع المؤمنون خلافة غيره، أو يدفع الله خلافة غير أبي بكر ويأبى المؤمنون إلا خلافته، أي سيكون ذلك بدون عهد، فلا داعي للعهد، علم ذلك من الوحي.
(ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) أي بدون عذاب، أو مع السابقين، وعند البخاري "فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة. ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد. ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، باب الريان. فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر".
(بينما رجل يسوق بقرة له، قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة، فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث) في رواية للبخاري "بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة" فتبين أن معنى قوله "قد حمل عليها" أي حمل عليها نفسه، أو نفسه ومتاعه، وقوله في روايتنا "إنما خلقت للحرث" فيه قصر ادعائي، أو إضافي، قصر قلب، فقد اتفقوا على جواز أكلها، وفي رواية للبخاري "بينما رجل يسوق بقرة، إذ ركبها فضربها
…
إلخ".
(فقال الناس: سبحان الله؟ ؟ ؟ تعجبا وفزعا، أبقرة تكلم؟ ) أي تتكلم، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا والمراد من الناس الصحابة المستمعون لهذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تعجبي، والقصة مذكورة عن بني إسرائيل.
(فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر) وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أخبرهما بذلك، فصدقاه، أو أطلق ذلك لما علم عنهما من أنهما يصدقان بذلك، إذا علما بقوله، أو سمعاه منه، ولا يترددان فيه، ففي ملحق الرواية "وما هما ثم" بفتح الثاء، أي وما هما هناك في هذه الجلسة، وهو من كلام الراوي، وفي رواية للبخاري "قال أبو سلمة: وما هما يومئذ في القوم".
(عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب، فقال له من لها يوم السبع؟ يوم ليس لها راع غيري؟ فقال الناس سبحان الله! ! ) الظاهر أنهما حديثان حديث البقرة، وحديث الذئب، ذكرهما أبو بكر في جلسة وأخذهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم في جلستين، وفي ملحق الرواية اقتصار على أحدهما، وذكرهما البخاري مجتمعتين في رواية له، وفيها "فقال له الذئب: هذا، استنقذتها مني" أي هذا اليوم استطعت أن تغلبني وتنقذها مني" فمن لها يوم السبع"؟ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي فلا أحد لها ينقذها مني يوم السبع، بضم الباء وسكونها، ولكن الرواية بالضم والمراد من السبع الحيوان المعروف، أي لا أحد منكم يستطيع أن ينقذها يوم يأخذها السبع، أي أنك تهرب، وأكون أنا قربا منه، أرعى ما يفضل لي منها، ولا راعي لها حينئذ غيري وقيل: إنما يكون ذلك عند الاشتغال بالفتن، فتصير الغنم هملا فتنهبها السباع" فيصير الذئب كالراعي لها، لانفراده بها، وقوله "يوم ليس لها راع غيري" مبالغة في تمكنه منها، زاد البخاري في رواية "فقال الناس: سبحان الله! ! ذئب يتكلم؟ ".
-[فقه الحديث]-
الصحابي، من هو؟ وما حقوقه؟
قال الحافظ ابن حجر: اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق عليه اسم صحبة لغة، وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة.
ويطلق أيضا على من رآه رؤية، ولو على بعد. وهذا الراجح إلا أنه هل يشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه؟ أو يكتفي بمجرد حصول الرؤية؟ محل نظر قال: وعمل من صنف في الصحابة
يدل على الثاني، فإنهم ذكروا محمد بن أبي بكر الصديق وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الأسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء، لأن أحاديثهم ليست من قبيل مراسيل كبار التابعين ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يلغز به، فيقال: صحابي حديثه مرسل، لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة، ومنهم من بالغ، فكان لا يعد في الصحابة إلا الصحبة العرفية، فقد جاء عن عاصم الأحول قال "رأى عبد الله بن سرجس رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن له صحبة" أخرجه أحمد، كذلك روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا. قال الحافظ: والعمل على خلاف هذا القول لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارق عن قرب كما جاء عن أنس "أنه قيل له: هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا" مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب.
ومنهم من اشترط أن يكون حين اجتماعه به بالغا، وهو مردود أيضا، لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة والبخاري يقول: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه وقيد "من المسلمين" قيد يخرج به من صحبه أو رآه من الكفار، فأما من أسلم منهم بعد موته، فإن كان قوله "من المسلمين" حالا، خرج من هذه صفته وهو المعتمد.
قال: ويرد على التعريف، من صحبه أو رآه مؤمنا به، ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام، فإنه ليس صحابيا اتفاقا، فينبغي أن يزاد فيه "ومات على ذلك" فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيا بعد عودته، فالصحيح أنه معدود في الصحابة لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه، ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد.
قال الحافظ: وهل يختص جميع ذلك ببني آدم؟ أو يعم غيرهم من العقلاء؟ .
أما الجن فالراجح دخولهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعا وهم مكلفون فيهم العصاة والطائعون فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة.
وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم.
وهذا كله فيمن رآه وهو في الحياة الدنيوية. أما من رآه بعد موته وقبل دفنه، فالراجح أنه ليس بصحابي وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الأعصار وكذلك من كشف له عنه من الأولياء فرآه كذلك عن طريق الكرامة إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية وإنما هي أخروية، لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى.
ثم قال: وكذلك المراد بهذه الرؤية من اتفقت له ممن تقدم شرحه وهو يقظان، أما من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقا، فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يعد صحابيا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة.
هذا آخر ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وقد أحال بسط المسألة إلى ما جمعه من علوم الحديث.
وخلاصة هذه الأقوال
أن من أسلم من بني آدم وأقام مع النبي صلى الله عليه وسلم بالغا عاقلا سنة فصاعدا أو غزا معه غزوة فأكثر واستمر على إسلامه حتى مات فهو صحابي باتفاق. فإذا فقد وصفا من هذه الأوصاف ففي استحقاق وصف الصحبة خلاف بين المحدثين من ذلك:
1 -
من اتصف بهذه الصفات من غير بني آدم كالجن ثم الملائكة.
2 -
من رآه حيا لحظة بالغا عاقلا مسلما واستمر على إسلامه حتى مات.
3 -
من رآه حيا لحظة - ولو طفلا مسلما واستمر على إسلامه حتى مات.
4 -
من رأى جسده الشريف بعد موته، مسلما واستمر على إسلامه حتى مات.
5 -
من كشف له عنه من الأولياء، فرآه بعد موته على سبيل الكرامة.
6 -
من رآه مسلما، ثم ارتد ثم أسلم ولم يره بعد عودته إلى الإسلام
7 -
من رآه مميزا غير بالغ مسلما واستمر على إسلامه حتى مات.
8 -
من رآه طفلا مسلما واستمر على إسلامه حتى مات.
9 -
من عاش معه طويلا كافرا، ثم أسلم بعد وفاته.
وهناك أقوال أخرى لا تستحق الذكر في هذا المقام.
والتحقيق أن وصف الصحبة ليس وصفا يمنح وإنما هو شرف يستحق له مؤهلات وله حقوق فمن حقوقه:
(أ) صيانة صاحبه من السب والتجريح فوق صيانة المسلم، لحرمة فيه فوق حرمة الإسلام، ففي إيذائه إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول "لا تؤذوني في أصحابي" ولا شك أن الإنسان يتأذى بإيذاء صاحبه وحبيبه أكثر مما يتأذى بإيذاء غيره.
(ب) تقديره بتقدير ما قدم في خدمة الإسلام من جهاد ونشر للدعوة وإنفاق في وقت الحاجة والضيق فقد بذل نفسه وماله في سبيل الإسلام وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" قال ذلك لبعض أصحابه وكأنه عنى البعض الذي قدم.
(جـ) اعتماد رواياتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فهم الذين سمعوا ورأوا بدون واسطة، وهم الذين خوطبوا بالشريعة وهم حملتها إلينا وهم الذين عنوا بها وحفظوها، وآراؤهم وفتاواهم وتفسيراتهم أقوى وأهم وأحق قبولا من آراء غيرهم.
(د) وجوب الإمساك عن تنقيصهم، عند ذكر ما ينقصهم من الأعمال فلعل ما قدموا من الخير يفوق بكثير ما يؤخذ عليهم من قصور وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم عن حاطب بن أبي بلتعة - وقد اتهم بتسريب أخبار المسلمين إلى كفار قريش - "لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم".
فإذا ما أريد بوصف الصحبة هذه المعاني، وهذه الحقوق لم يستحقه إلا النوع الأول المتفق عليه، وهو من أسلم من بني آدم وأقام مع النبي صلى الله عليه وسلم بالغا عاقلا، سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فأكثر، واستمر على إسلامه حتى مات دون الأنواع التسعة الأخرى.
أما إذا أريد بوصف الصحبة مجرد الوصف، فلا مانع من إطلاقه على كل الأنواع حتى على من سيدخل النار ممن شهد النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ففي الحديث الصحيح أن ناسا من أصحابه صلى الله عليه وسلم يذادون عن حوضه يوم القيامة فيقول: أصحابي أصحابي؟ أين تذهبون بهم؟ فيقال: إلى النار إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقا. سحقا.
وقد اهتم الإمام النووي بالحق الرابع (د) وهو وجوب الإمساك عن تنقيصهم، فقال: وأما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة، اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول رضي الله عنهم ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحدا منهم عن العدالة، لأنهم مجتهدون، اختلفوا في محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم.
قال: واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:
قسم ظهر له بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه - فيما اعتقدوه - ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
وقسم عكس هؤلاء، ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته، وقتال الباغي عليه.
وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم، حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه، فكلهم معذورون. رضي الله عنهم، ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم، ورواياتهم، وكمال عدالتهم. رضي الله عنهم أجمعين. اهـ.
ونحن نقدر مشاعر الإمام النووي في تبرئة ساحتهم جميعا رضي الله عنهم لكنا لا نوافق على تعميم هذه البراءة فهم بشر وليسوا معصومين وكان في جيوش النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه من يقاتل للمغنم، ومن يقاتل حمية، ومن يقاتل للغضب ومن يقاتل ليرى مكانه ولا شك أن هذه الدوافع كانت موجودة في جيش عائشة وعلي رضي الله عنهما في موقعة الجمل التي قتل فيها نحو عشرة آلاف من خيرة الصحابة والتابعين ثم موقعة صفين وقبلهما الفتنة الكبرى ومقتل عثمان رضي الله عنه. ومع أننا لا نبرئ ساحة الجميع - لأن تبرئتهم تقربنا من السوفسطائية شعبة العندية، التي ترى أن الحق يختلف باختلاف ما عند كل واحد - إلا أننا نمسك عن لوم وتعنيف وذم أحد منهم، فلهم من الفضل ما يحملنا على التوقف عن الإساءة إليهم، وإن اعتقدنا أن الصواب كان في هذا الجانب دون هذا الجانب رضي الله عنهم أجمعين.
التفاضل بين الصحابة
والكلام فيه في مقامين:
مقام التفاضل بين الخلفاء الأربعة، ومقام التفاضل بين أزواجه صلى الله عليه وسلم وبناته.
أما المقام الأول فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، رضي الله عنهم" وفي رواية له "كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم" وله عند أبي داود "كنا نقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم: حي - أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان" زاد الطبراني "فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا ينكره" قال الحافظ ابن حجر: وتقديم "عثمان" على "علي" رضي الله عنهما هو المشهور عند جمهور أهل السنة، وذهب بعض السلف إلى تقديم "علي" على "عثمان" وممن قال به سفيان الثوري، ويقال: إنه رجع عنه، وقال به ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده، وقال مالك في المدونة: لا يفضل أحدهما على الآخر، وتبعه جماعة.
وقال ابن معين: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعرف لعلي سابقتيه وفضله فهو صاحب سنة، وأنكر ابن معين رأي قوم - وهم العثمانية، الذين يغالون في حب عثمان، ويستنقصون عليا، وقال فيهم قولا غليظا.
قال الحافظ ابن حجر: ولا شك في أن من اقتصر على ثلاثة ولم يعرف لعلي بن طالب فضله فهو مذموم وادعى ابن عبد البر أنهم أجمعوا على أن عليا أفضل الخلق بعد الثلاثة، قال: ودل هذا الإجماع على أن حديث ابن عمر [التوقف عند الثلاثة] غلط وإن كان السند صحيحا وتعقب بأنه لا يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله، عدم تفضيله على الدوام وتعقب أيضا بأن الإجماع المذكور الذي ادعاه، إنما حدث بعد الزمن الذي قيده ابن عمر، فيخرج حديثه عن أن يكون غلطا. قال الحافظ ابن حجر: وأظن أن ابن عبد البر إنما أنكر الزيادة التي وقعت في رواية ابن عمر وهي قوله "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاضل بينهم" ولا يلزم من تركهم التفاضل إذ ذاك أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل "علي" على من سواه.
وذهب قوم إلى أن أفضل الصحابة من استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم جعفر بن أبي طالب، ومنهم من ذكر العباس، قال الحافظ: وهو قول مرغوب عنه، ليس قائله من أهل السنة، ولا من أهل الإيمان.
وذهب قوم، وهم الخطابية إلى أن أفضل الصحابة مطلقا عمر، متمسكا بالحديث الآتي في ترجمته في المنام الذي فيه في حق أبي بكر "وفي نزعه ضعف" وهو تمسك واه.
وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم "علي" على "عثمان".
وقال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضل الصحابة الخلفاء الأربعة على الترتيب، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون، وهم من صلى إلى القبلتين.
قال النووي: واختلف العلماء في أن التفضيل المذكور قطعي؟ أم لا وهل هو في الظاهر والباطن؟ أم في الظاهر خاصة، وممن قال بالقطع أبو الحسن الأشعري، قال: وهم في الفضل على ترتيبهم في الإمامة، وممن قال: إنه اجتهادي ظني أبو بكر الباقلاني.
ثم قال النووي: وأما عثمان رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع، وقتل مظلوما، وقتلته فسقة لأن موجبات القتل مضبوطة، ولم يجر منه رضي الله عنه ما يقتضيه ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل وسفلة الأطراف والأراذل تحزبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه، حتى قتلوه رضي الله عنه قال: وأما علي رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع وكان هو الخليفة في وقته، لا خلافة لغيره.
وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنهم.
أما عن المقام الثاني، وهو التفاضل بين أمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النووي: اختلف العلماء في عائشة وخديجة، أيتهما أفضل؟ وفي عائشة وفاطمة رضي الله عنهما. اهـ. وسيأتي مزيد لهذه المسألة في باب فضائل خديجة وباب فضائل عائشة وباب فضائل فاطمة رضي الله عنهن جمعاء.
من فضائل أبي بكر رضي الله عنه
أما عن فضائل أبي بكر رضي الله عنه فقد ذكر البخاري زيادة عما ذكر في بابنا حديث ابن عمر الذي ذكرناه وحديث عمار رضي الله عنه قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر" أما الأعبد فهم: بلال، وزيد بن حارثة، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فإنه أسلم قديما مع أبي بكر، وكان ممن يعذب في الله، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وأبو فكيهة، مولى صفوان بن أمية بن خلف، أسلم حين أسلم بلال فعذبه أمية، فاشتراه أبو بكر فأعتقه وأما الخامس فقيل: بشقران، وقيل عمار بن ياسر، وأما المرأتان فخديجة وأم أيمن.
كما ذكر البخاري حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر" أي حصلت له خصومة
ومغامرة "فسلم، وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه" في رواية "فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه مغضبا، فاتبعه أبو بكر"
"ثم ندمت فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر" أي تذهب نضارته من الغضب، وفي رواية "فجلس عمر، فأعرض عنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر، فأعرض عنه، ثم قام، فجلس بين يديه، فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله، ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ فقال: أنت الذي اعتذر إليك أبو بكر فلم تقبل منه؟ يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل؟ "وأشفق أبو بكر، فجثا على ركبتين، فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم - مرتين" "قال عمر: والذي بعثك بالحق، ما من مرة يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما خلق الله من أحد أحب إلي منه بعدك، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك" "فقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمر: فهل أنتم تاركوا لي صاحبي"؟ مرتين "فما أوذي بعدهما".
كما ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن" أي حتى رويت الإبل فأناخت.
ثم ذكر حديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم حديث خطبته في سقيفة بني ساعدة عند البيعة له بالخلافة ثم حديث تبشير أبي بكر بالجنة، ثم حديث "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".
-[ويؤخذ من الأحاديث]-
1 -
من الرواية الأولى عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام.
2 -
وفيها مدى خوف أبي بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 -
من قوله "ما ظنك باثنين، الله ثالثهما" منقبة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه.
4 -
ومن الرواية الثانية من قول أبي بكر: فديناك بآبائنا وأمهاتنا جواز التفدية.
5 -
والترغيب في اختيار الآخرة على الدنيا.
6 -
والإشارة بالعلم الخاص، دون التصريح، لإثارة أفهام السامعين.
7 -
وتفاوت العلماء في الفهم.
8 -
وشكر المحسن والتنويه بفضله، والثناء عليه.
9 -
من أحاديث الأمر بسد الخوخات واستثناء خوخة أبي بكر خصوصية عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه.
10 -
قال ابن بطال: فيه أن المرشح للإمامة يخص بكرامة تدل عليه، كما وقع في حق الصديق في هذه القصة.
11 -
وقال الحافظ ابن حجر: ويؤخذ منه أن للخليل صفة خاصة، تقتضي عدم المشاركة فيها.
12 -
وأن المساجد تصان عن التطرق إليها لغير ضرورة.
13 -
جاءت بعض الأحاديث بالأمر بسد الأبواب إلا باب علي رضي الله عنه، فعند أحمد والنسائي بإسناد قوي، عن سعد بن أبي وقاص، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي" وعند الطبراني في الأوسط برجال ثقات زيادة "فقالوا: يا رسول الله! سددت أبوابنا؟ فقال: ما أنا سددتها ولكن الله سدها" وعن زيد بن أرقم قال: "كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم ناس في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني والله! ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أمرت بشيء، فاتبعته" أخرجهما أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات وعن ابن عباس قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد، فسدت، إلا باب علي" وفي رواية "وأمر بسد الأبواب غير باب علي، فكان يدخل المسجد وهو جنب، ليس له طريق غيره" أخرجها أحمد والنسائي، ورجالهما ثقات وعن جابر بن سمرة قال" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مر فيه وهو جنب" أخرجه الطبراني وعن ابن عمر قال: "كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر" أخرجه أحمد، وإسناده حسن، وعند النسائي نحوه وقال فيه:"وأما علي فلا تسأل عنه أحدا، وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه" ورجاله رجال الصحيح إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، وكل طريق منها صالح للاحتجاج به فضلا عن مجموعها قال: وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم وأعله ببعض من تكلم فيه من رواته قال الحافظ: وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في أبي بكر. اهـ.
قال الحافظ: وأخطأ في ذلك خطأ شنيعا، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري، الذي أخرجه الترمذي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك" والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسده، ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثنى باب علي، لما ذكره وفي الثانية استثنى باب أبي بكر ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة "علي" على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي، والمراد به الخوخة، كما صرح به في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خوخا، يستقربون بها الدخول إلى المسجد،
فأمروا بعد ذلك بسدها فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين وبها جمع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار، وأبو بكر الكلاباذي في معاني الأخبار وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد، وخوخة إلى داخل المسجد وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد، والله أعلم. هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر في هذه المسألة.
وأميل إلى ما ذهب إليه ابن الجوزي، ففي أحاديث باب "علي" رضي الله عنه رائحة الوضع، والجمع الذي جمعوا به بين الحديثين بعيد جدا، من وجوه: الأول أنه يفرق بين الباب والخوخة وهما واحد من حيث الغرض الذي هو قرب الوصول من البيت إلى المسجد فكيف ينهى عن أحدهما مرة؟ وعن الثاني أخرى؟ الثاني لو صح أن الأبواب سدت وبقي باب علي، واستحدثت خوخات بدل الأبواب وسدت الخوخات إلا خوخة أبي بكر، ما مصير باب "علي" المستثنى؟ لم يقل أحد إنه ظل مفتوحا بعد سد الخوخات، وإن كان قد سد مع الخوخات سلم لأبي بكر الاختصاص ببقاء خوخته، دون الأبواب والخوخات الثالث لو كان هذا الجمع واقعا لنقل إلينا في رواية من الروايات لتبقى فضيلة أبي بكر وتثبت معها - في الخصلة نفسها فضيلة لعلي، الرابع أن الجمع في الوقائع والأحداث لا يكون بالاحتمال بل بإثبات الواقعة والله أعلم.
14 -
ومن الرواية التاسعة من قول السائل: "من كان مستخلفا لو استخلفه" أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين الخليفة بعده، إذ لو كان هناك نص لما اختلفوا في اجتماع السقيفة، ولا تفاوضوا فيه، قال الحافظ ابن حجر: وهذا قول جمهور أهل السنة واستند من قال: إنه نص على خلافة أبي بكر بأصول كلية، وقرائن حالية تقتضي أنه أحق بالإمامة وأولى بالخلافة. اهـ. من ذلك إمامته للصلاة في مرض الرسول صلى الله عليه وسلم وروايتنا العاشرة والحادية عشرة.
15 -
ومن الرواية الحادية عشرة إشارة إلى أن نزاعا سيقع، ووقع.
16 -
وفيه إخبار بما سيقع في المستقبل بعد وفاته، وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره.
17 -
وفيه استمالة قلب الزوجة والإفضاء إليها بما يستره عن غيرها.
18 -
وفي الرواية الثانية عشرة، من فضائل أبي بكر، وأعماله الصالحات.
19 -
وفضيلة أعمال الخير المذكورة.
20 -
ومن الرواية الثالثة عشرة خرق العادات وكرامات الأولياء قال النووي: وهو مذهب أهل الحق.
21 -
وجواز التعجب من خوارق العادات.
22 -
وتفاوت الناس في المعارف.
23 -
وفضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
(فائدة) قال الزبير بن بكار: مات أبو بكر رضي الله عنه بمرض السل، وقال الواقدي: إنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما، وقيل: بل بالسم في طعام دسته له اليهود ومات لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ولم يختلفوا أنه استكمل سن النبي صلى الله عليه وسلم فمات وهو ابن ثلاث وستين رضي الله عنه.
والله أعلم.