الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(672) باب خيار الناس
5614 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجدون الناس معادن. فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. وتجدون من خير الناس في هذا الأمر، أكرههم له، قبل أن يقع فيه. وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه".
5615 -
وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس معادن" بمثل حديث الزهري. غير أن في حديث أبي زرعة والأعرج: "تجدون من خير الناس في هذا الشأن، أشدهم له كراهية، حتى يقع فيه".
-[المعنى العام]-
لا شك أن الناس قديما وحديثا كالمعادن منها النفيس، ومنها الخسيس، منها ما يساوي الفلس، ومنها ما يساوي القنطار، والقبائل قبل الإسلام كانت معروفة الحسب والنسب، موزونة القدر والقيمة، فمن كان منها شريفا قبل إسلامه، فأسلم وتفقه اتصل شرفه وعلا قدره، وبقي في المسلمين شريفا مرموقا، كما كان بين الكافرين شريفا مرموقا، ومن كان شريفا في الكفر، فلم يسلم، فليس له بين المسلمين شرف ولا قدر، ومن كان غير شريف فأسلم وتفقه شرف بالإسلام وبالفقه، وكان شرفه أقل من شريف أسلم وتفقه في الدين، وهكذا يسلم الكافر على ما كان من خير له، ويستصحب معه ما قدم من مكارم الأخلاق، ومن سجايا الفضيلة والمعروف، كمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فإنه يؤتي أجره مرتين.
ومن خيار الناس من لا يسأل الإمارة، ولا يحرص عليها، فإن جاءته أعانه الله عليها.
ومن شرار الخلق المنافق، ذو الوجهين الذي يثير الفتنة بين الناس، ويأتي هؤلاء بوجه وقول، وهؤلاء بوجه وقول، والمعدن النفيس لا يجري وراء الإمارة لئلا يقع في مسئولياتها التي لا يقدر عليها، ولا يكون أبدا ذا وجهين ولا من المنافقين.
-[المباحث العربية]-
(تجدون) الخطاب لسامعي الكلام من الصحابة، وغيرهم من غير الحاضرين مخاطبون بما خوطبوا به على طريق القياس، ويحتمل أن يكون خطابا لكل من يتأتى خطابه بذلك، في كل زمان ومكان.
(الناس معادن) أل في "الناس" وإن صلحت للجنس، لكن الأولى هنا أن تكون للعهد الذهني، والمقصودون الناس الذين جمعوا بين الجاهلية والإسلام، وفي الجملة تشبيه بليغ، حذف منه الوجه والأداة، أي أصول الناس وأحسابها كالمعادن في اختلافها من نفيس إلى خسيس، والمعادن جمع معدن، وهو الشيء المعروف المستقر في الأرض.
(فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام) هذا التفريع تشبيه آخر، حذف منه الوجه والأداة والمشبه به، لأن المعدن النفيس، في باطن الأرض نفيس، فإذا استخرج بقيت نفاسته وظهرت، وكذلك الأصول الشريفة في الجاهلية، هي رءوس بالنسبة إلى أهل الجاهلية، فإن أسلم الشريف استمر شرفه، وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية، فالذهب إذا استخرج وصنع سيفا، أشرف وأعظم قيمة من الحديد إذا استخرج وصنع سيفا.
(إذا فقهوا) بضم القاف، ويجوز كسرها، وفيه إشارة إلى أن الشرف الإسلامي لا يتم إلا بالتفقه في الدين، فالتفقه في الدين في جانب المشبه يعدل الصنعة في جانب المشبه به.
قال الحافظ ابن حجر: وعلى هذا فتنقسم الناس إلى أربعة أقسام، مع ما يقابلها:
الأول: شريف في الجاهلية أسلم وتفقه (فهو كالذهب استخرج، وصنع حلية جميلة) ويقابله على النقيض منه مشروف في الجاهلية، لم يسلم، ولم يتفقه (فهو كالحديد الذي لم يستخرج).
الثاني: شريف في الجاهلية، أسلم ولم يتفقه (فهو كالذهب استخرج، ولم يصنع) ويقابله على النقيض مشروف في الجاهلية، لم يسلم، وتفقه.
الثالث: شريف في الجاهلية لم يسلم، ولم يتفقه (فهو كالذهب لم يستخرج) ويقابله مشروف في الجاهلية، أسلم، ثم تفقه (فهو كالحديد، استخرج وصنع صنعة جميلة).
الرابع: شريف في الجاهلية، لم يسلم، وتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية، أسلم، ولم يتفقه (فهو كالحديد، استخرج، ولم يصنع).
قال: فأرفع الأقسام من شرف في الجاهلية، ثم أسلم وتفقه.
ويليه من كان مشروفا، ثم أسلم وتفقه.
ويليه من كان شريفا في الجاهلية، ثم أسلم، ولم يتفقه.
ويليه من كان مشروفا في الجاهلية، ثم أسلم، ولم يتفقه.
أما من لم يسلم فلا اعتبار به، سواء كان شريفا، أو مشرفا، وسواء تفقه، أو لم يتفقه.
قال: والمراد بالخيار، في قوله "خيارهم" وبقولنا "شريف" من كان متصفا بمحاسن الأخلاق، من جهة ملاءمة الطبع ومنافرته خصوصا بالانتساب إلى الآباء المتصفين بذلك، كالكرم والعفة والحلم والنجدة، متوقيا لمساويها كالبخل والفجور والظلم والخذلان وغيرها، ثم الشرف في الإسلام بالخصال المحمودة شرعا.
ولفظ "الخيار" جمع "خير" و"خير" تصلح صفة مطلقة، وتصلح أفعل تفضيل، تقول خير فيحتمل أن المعنى من كان فيه خير في الجاهلية ففيه خير في الإسلام، ويحتمل أن المعنى من اتصف بالأخيرية في الجاهلية، اتصف بها في الإسلام.
(وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه) وفي ملحق الرواية "تجدون من خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية، حتى يقع فيه" وعند البخاري "وتجدون خير الناس" وتقدير "من" في روايته هنا ضرورية، لأن من اتصف بذلك لا يكون خير الناس على الإطلاق.
واختلف في المراد من الأمر أو الشأن، فقال الحافظ ابن حجر: المراد به الولاية والإمرة، لأن الدخول في عهدة الإمرة مكروه، من جهة تحمل المشقة فيه، وإنما تشتد الكراهة له ممن يتصف بالعقل والدين، لما فيه من صعوبة العمل بالعدل، وحمل الناس على رفع الظلم، ولما يترتب عليه من مطالبة الله تعالى للقائم به من حقوقه وحقوق عباده، ولا يخفى خيرية من خاف مقام ربه.
ثم قال: وأما قوله "حتى يقع فيه" فاختلف في مفهومه، فقيل: معناه أن من لم يكن حريصا على الإمرة، غير راغب فيها، إذا حصلت له بغير سؤال، تزول عنه الكراهة فيها، لما يرى من إعانة الله له عليها، فيأمن على دينه مما كان يخاف عليه منها، قبل أن يقع فيها، ومن هنا أحب من أحب استمرار الولاية، من السلف الصالح، حتى قاتل عليها، وصرح بعض من عزل منهم بأنه لم تسره الولاية، بل ساءه العزل.
وقيل: المراد بقوله "حتى يقع فيه" أي فإذا وقع فيه لا يجوز له أن يكرهه، وقيل: معناه أن العادة جرت بذلك، وأن من حرص على الشيء، ورغب في طلبه قل أن يحصل له، ومن أعرض عن الشيء، وقلت رغبته فيه يحصل غالبا. اهـ.
وللقاضي عياض رأي آخر في المراد من الأمر والشأن، فيقول: يحتمل أن المراد به الإسلام، كما كان من عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وغيرهم من مسلمة الفتح، وغيرهم ممن كان يكره الإسلام، كراهية شديدة، فلما دخل فيه أخلص وأحبه، وجاهد فيه حق جهاده. اهـ. وما قاله الحافظ ابن حجر أولى بالقبول، وإن كان الترابط بين ما قاله القاضي عياض وبين صدر الحديث قويا، والمناسبة ظاهرة، لكن لا يقال: إن عمرا وعكرمة وسهيلا كانوا في الإسلام خيرا من أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
(وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه) وفي رواية للبخاري "تجدون شر الناس" و"من" فيها مقدرة، كما سبق، و"أل" في "الناس" هنا للجنس، فذو الوجهين من أفحش الناس شرا، ويؤيده رواية "من شر خلق الله ذو الوجهين". قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس، لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس، ويحتمل أن تكون "أل" في "الناس" للعهد، والمراد بهم أهل الطائفتين المتضادتين، فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرا، فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين، ليطلع على أسرارهم، فهو شرهم كلهم. قال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها، ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع، وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين. اهـ. وجاء في رواية الإسماعيلي "الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء". وقال ابن عبد البر: حمله على ظاهره جماعة، وهو أولى، وتأويله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله، فيري الناس خشوعا، واستكانة، ويوهمهم أنه يخشى الله، حتى يكرموه، وهو في الباطن بخلاف ذلك، قال: وهذا محتمل لو اقتصر الحديث على صدره "وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين" فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين، لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل، وهي قوله "يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه".
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من الحديث]-
1 -
أن الحسب له قيمته في الإسلام.
2 -
أن الفقه والعلم بأمور الشريعة ركن متمم للإسلام.
3 -
ذم السعي وراء الإمارة، ومدح من يعف عنها، ويزهد فيها.
4 -
ذم النفاق والسعي بين الناس بالفساد، ونقل الحديث والأخبار، قال النووي: أما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. وقال بعضهم: الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها، ويقبحه عند الأخرى، ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل ما يمكنه من الجميل، ويستر القبيح.
والله أعلم