الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(686) باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة، وغيرها، وفضل بر الوالدين
5561 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان جريج يتعبد في صومعة. فجاءت أمه. قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته. كيف جعلت كفها فوق حاجبها. ثم رفعت رأسها إليه تدعوه. فقالت: يا جريج! أنا أمك. كلمني. فصادفته يصلي. فقال: اللهم! أمي وصلاتي. فاختار صلاته. فرجعت ثم عادت في الثانية. فقالت: يا جريج! أنا أمك. فكلمني. قال: اللهم! أمي وصلاتي. فاختار صلاته. فقالت: اللهم! إن هذا جريج. وهو ابني. وإني كلمته فأبى أن يكلمني. اللهم! فلا تمته حتى تريه المومسات. قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن. قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره. قال: فخرجت امرأة من القرية. فوقع عليها الراعي. فحملت فولدت غلاما. فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير. قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم. فنادوه فصادفوه يصلي. فلم يكلمهم. قال: فأخذوا يهدمون ديره. فلما رأى ذلك نزل إليهم. فقالوا له: سل هذه. قال: فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن. فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة. قال: لا، ولكن أعيدوه ترابا كما كان. ثم علاه.
5662 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم. وصاحب جريج. وكان جريج رجلا عابدا. فاتخذ صومعة. فكان فيها. فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي. فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي. قالت: يا جريج! فقال: أي رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فقالت: اللهم! لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته. وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها. فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها. فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها. فوقع عليها. فحملت. فلما ولدت. قالت: هو من جريج. فأتوه
فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه. فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي. فولدت منك. فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به. فقال: دعوني حتى أصلي فصلى. فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه. وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي. قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به. وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا. أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه. فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة. فقالت أمه: اللهم! اجعل ابني مثل هذا. فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه. فقال: اللهم! لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع. قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه. فجعل يمصها. قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت. وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمه: اللهم! لا تجعل ابني مثلها. فترك الرضاع ونظر إليها. فقال: اللهم! اجعلني مثلها. فهناك تراجعا الحديث.
فقالت: حلقى! مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم! اجعل ابني مثله فقلت: اللهم! لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت. فقلت: اللهم! لا تجعل ابني مثلها فقلت: اللهم! اجعلني مثلها. قال: إن ذاك الرجل كان جبارا. فقلت: اللهم! لا تجعلني مثله. وإن هذه يقولون لها: زنيت. ولم تزن. وسرقت. ولم تسرق. فقلت: اللهم! اجعلني مثلها.
5663 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، قيل: من؟ يا رسول الله! قال: "من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة".
5664 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من؟ يا رسول الله! قال: "من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة".
5665 -
وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنفه" ثلاثا. ثم ذكر مثله.
-[المعنى العام]-
نعم. حقوق الله تعالى مبنية على تفضله وعفوه ومسامحته، وقد أراد - جل شأنه - أن يقدم حقوق عباده بعضهم مع بعض، وأن يجعل طابعها المشاحة، وأول حقوق العباد حقوق الوالدين على الولد، وإذا تعارض حق الله مع حق الوالدين، قدمت الشريعة حق الوالدين، وجعلته أهم، لأن في حقهما حق الله تعالى، فهو الذي شرع لهما حقهما، فأداؤه أداء لحق الله وأمره وقضائه.
أمام هذا نجدنا إذا تعارضت الصلاة مع بر الوالدين قدم بر الوالدين. أمام هذا ومع أن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، إذا دعت الأم ابنها الذي يصلي، كان عليه أن يقدم إجابتها على الاستمرار في الصلاة، وهذا ما لم يفعله جريج الراهب، صاحب قصة الحديث، مما دفع أمه إلى الدعاء عليه، وأجاب الله دعاءها، ولما كان مجتهدا، كان خطؤه مأجورا، فتداركته نعمة من ربه، ولحقته رحمة الله وفضله، فأنقذه بعد غرقه، وخرق له العادة، وكرمه بأن أنطق الطفل في المهد يشهد له، كما شهد صاحب يوسف ليوسف، وكما تكلم عيسى عليه السلام في المهد، يبرئ أمه ويشهد لها، وكما تكلم الطفل يرد دعاء أمه.
كرامات ومعجزات، إن دلت على شيء فإنما تدل على قدرة الله تعالى التي لا تحدها عادة، ولا يحول بينها وبين الإنجاز حائل.
ونعود إلى بر الوالدين وحقوقهما، وقد ذكرنا وذكرت الأحاديث بعضا منها في البابين السابقين، وهي هنا تربط دخول الجنة برضاهما وبرهما، وتتوعد من يعقهما بالحرمان من الجنة، وتحث من تهيأ له فرصة البر بهما، والإحسان إليهما أن ينتهز هذه الفرصة ولا يضيعها، والفرصة الحقيقية لذلك عند كبرهما وضعفهما وحاجتهما، فيا فوز من انتهزها، فأضحكهما، وسرهما، ولم يقل لهما أف، ولم ينهرهما، وقال لهما قولا كريما، وخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقال رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
-[المباحث العربية]-
(كان جريج يتعبد في صومعة) بفتح الصاد وسكون الواو، وهي البناء المرتفع المحدد أعلاه، يقال: صمع الشيء دققه وحدده، والصومع والصومعة بيت العبادة عند رهبان النصارى، وهي تشبه الصومعة التي تبنى لخزن الحبوب، يبنيها الرهبان عادة على رأس جبل، لينقطعوا فيها للعبادة، ويصعب وصول الناس إليها، وقد يطلق عليها الدير بفتح الدال، إذا كانت متسعة.
ويبدو أنها كانت هنا كذلك، إذ في الرواية "وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره" أي يأوي إلى دير جريج "قالت: من صاحب هذا الدير" "فأخذوا يهدمون ديره" والظاهر أنه كان بعد عيسى ابن مريم، وأنه كان من أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهب وحبس النفس في الصوامع، وعند أحمد "كان رجل في بني إسرائيل تاجرا، وكان ينقص مرة، ويزيد مرة، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة، هي خير من هذه، فبنى صومعة، وترهب فيها، وكان يقال له جريج
…
". الحديث، ومعنى "يتعبد"
يصلي، بدلالة ما بعده وفي الرواية الثانية "كان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة، فكان فيها" أي يتعبد ويصلي. وعند البخاري "كان في بني إسرائيل رجل، يقال له: جريج، كان يصلي .... ".
(فجاءت أمه تدعوه) أي تناديه لمصلحة لها أو له، تناديه لينزل إليها، أو يكلمها من أعلى.
(قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته، كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه، تدعوه) كان من دقة الرواة وتوثيقهم لروايتهم أن ينقلوا الحركات مع الأقوال، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أم جريج عند ندائها ابنها، بأنها وضعت كفها فوق حاجبها وعينيها، كي تظلها من الشمس، حين رفعت رأسها من أسفل إلى أعلى، وصف هذه الحالة بالفعل، لا بالقول، فوصف أبو هريرة هذه الحالة لتلميذه أبي رافع، حين تحديثه له بهذا الحديث بالفعل أيضا، فوصف أبو رافع هذه الحالة بالفعل أيضا حين حدث أبا حميد بهذا الحديث.
(فقالت: يا جريج، أنا أمك. كلمني، فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته) واستمر فيها، فلم يجب أمه، وقوله: اللهم أمي وصلاتي. قول في نفسه على الأرجح، أي أيهما أقدم؟ . ويحتمل أنه تكلم بذلك، ولم يكن الكلام ممنوعا في صلاتهم، كما كان الحال في صدر الإسلام.
(فرجعت، ثم عادت) مرتين غير الأولى، وفي الرواية الثانية أن العودة كانت من الغد، لا في اليوم نفسه، ثم اليوم الذي بعد الغد، ثم إن الدعاء عليه كان في اليوم الثالث.
(اللهم. إن هذا جريج، وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني) ذكرت في هذه الرواية أسباب الدعاء عليه، وهي هنا ثلاثة. إنه موجود يسمعها ويعرفها، وأنه ابنها ولها عليه حقوق، وأنه لم يرد عليها نداءها، ولم تذكر هذه الحيثيات في الرواية الثانية.
(فلا تمته حتى تريه المومسات) بضم الميم الأولى وكسر الثانية، جمع مومسة، وتجمع على ميامس أيضا، وهي الزواني البغايا، المتجاهرات بذلك، وفي الرواية الثانية "لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات" وفي رواية للبخاري "حتى تريه وجوه المومسات" وفي رواية "حتى تريه المومسة" بالإفراد، وفي رواية فغضبت، فقالت: اللهم. لا يموتن جريج، حتى ينظر في وجوه المومسات" وفي رواية "أبيت أن تطلع إلى وجهي، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة" والمراد من الرؤية والنظر الابتلاء والادعاء والمواجهة.
(قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن) أي لو دعت عليه أن يقع في المعصية لوقع فيها.
(وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره) ليستظل به، ويأنس إلى جواره.
(فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي) بجوار الصومعة، والمراد امرأة زانية معلنة، خرجت من القرية قاصدة فتنة جريج، وإغراءه، وإيقاعه، ففي الرواية الثانية "فتذاكر بنو إسرائيل جريجا، وعبادته" يمدحونه، ويثنون عليه "وكانت امرأة بغي، يتمثل بحسنها""يتمثل" بضم الياء، وفتح التاء والميم وتشديد الثاء، أي يضرب المثل بها في الحسن والجمال، لانفرادها بذلك،
أي لا مثيل لها. كانت تسمع كلامهم "فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم" وأغوينه، وأوقعنه في الزنا، وأبطلن ثناءكم عليه، وعلى عبادته، فوافقوها، وحرضوها، وشجعوها، وفي رواية "قالوا: قد شئنا" فذهبت إلى صومعته "فتعرضت له" تمر بفتحات الصومعة، وتناديه، وتغني، وتتكسر، وتبدي زينتها ومفاتنها "فلم يلتفت إليها" فوجدت الراعي يأوي إلى ظل الصومعة "فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها" وهي تبيت النية باتهام الراهب، لتحقق لبني إسرائيل ما توعدته به، وفي رواية أن هذه المرأة كانت بنت ملك القرية، وفي رواية "وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم" قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها، بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد، فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية، ليمكنها أن تأوي إلى ظل الصومعة، لتتوصل إلى فتنته.
(فحملت، فولدت غلاما، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير) في الرواية الثانية "فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج" وفي رواية "فقيل لها: ممن هذا؟ قالت: من جريج" وفي رواية "فقيل لها: من صاحبك؟ قالت: جريج الراهب، نزل إلي فأصابني" زاد في رواية "فذهبوا إلى الملك، فأخبروه، قال: أدركوه، فأتوني به".
(فجاءوا بفئوسهم ومساحيهم، فنادوه، فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون ديره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه) وفي الرواية الثانية "فأتوه، فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، قال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك".
وعن البخاري "فأتوه، فكسروا صومعته، وأنزلوه" وفي رواية "فما شعر حتى سمع بالفئوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم: ويلكم ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى" وفي رواية "فجعلوا يضربونه، ويقولون: مراء، تخادع الناس بعملك" وفي رواية "فقال له الملك: ويحك يا جريج، كنا نراك خير الناس، فأحبلت هذه. اذهبوا به، فاصلبوه" وفي رواية "فجعلوا في عنقه وعنقها حبلا، وجعلوا يطوفون بهما في الناس" وفي رواية "فلما مروا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن فتبسم، فقالوا: لم تضحك؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها علي أمي".
(قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ ) في الرواية الثانية "فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني: حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك" وفي رواية "فطعنه بإصبعه، فقال: بالله يا غلام من أبوك"؟ وفي رواية أنه سألهم أن ينظروه، فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول أيتها السخلة. من أبوك؟ ففعل" وفي رواية عند أحمد "فوضع إصبعه على بطنها" وفي رواية "ثم انتهى إلى شجرة، أخذ منها غصنا ثم أتى الغلام وهو في مهده فضربه بذلك الغصن، فقال: من أبوك"؟ وفي رواية "أنه قال للمرأة أين أصبتك؟ قالت: تحت تلك الشجرة، فأتى الشجرة فقال: يا شجرة. أسألك بالذي خلقك. من زنى بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها راعي الغنم" وفي رواية "فأتى بالمرأة والصبي، وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام. من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي" ولما كان الصبي على
صدرها، أمكن الجمع بين الروايات بأنه طعن الصبي، وطعنها في بطنها، ومسح رأس الغلام، وذهب إلى الشجرة، وحصل كل ذلك ولا تعارض، والمستبعد القول بتعدد القصة، أو أنه استنطق الغلام في بطنها مرة، وبعد أن ولد مرة أخرى.
(قال: أبي راعي الضأن) في الرواية الثانية "قال: فلان الراعي" وفي رواية "قال: الراعي" وفي رواية "أنا ابن الراعي" وفي رواية "قال: راعي الغنم".
وفي رواية "قال: يا بابوس. من أبوك؟ قال: راعي الغنم". وقوله: "يا بابوس" بباءين بينهما ألف ساكنة قيل: معناه الصغير، وقيل: معناه الرضيع، وأغرب الأقوال أنه اسم ذلك الولد.
(فلما سمعوا ذلك منه) أي من الطفل.
(قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا) في الرواية الثانية "فأقبلوا على جريج يقبلونه، ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال: لا" وفي رواية "فقال له الملك: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا. قال: من فضة؟ قال: لا" وفي رواية "فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه" وفي رواية "فسبح الناس وعجبوا" وفي رواية "فأبرأ الله جريجا، وأعظم الناس أمر جريج".
(ولكن أعيدوه ترابا، كما كان) أي بالطين، وفي الرواية الثانية "أعيدوها من طين كما كانت" وعند البخاري "لا. إلا من طين". قال ابن مالك: في هذا شاهد على حذف المجزوم بلا، فإن التقدير لا تبنوها إلا من طين.
(لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) ذكر مسلم في هذا الحديث عيسى ابن مريم، وصبي جريج، وصبي المرأة، لكن عند أحمد والبزار وابن حبان والحاكم "لم يتكلم في المهد إلا أربعة، فلم يذكر الثالث الذي هنا، وذكر شاهد يوسف، والصبي الرضيع الذي قال لأمه - وهي ماشطة فرعون، لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار - "اصبري يا أمه، فإنا على الحق". قال الحافظ ابن حجر: فيجتمع من هذا خمسة، وعند مسلم في قصة أصحاب الأخدود "أن امرأة جيء بها لتلقى في النار، أو لتكفر، ومعها صبي يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمه. اصبري، فإنك على الحق". وزعم الضحاك في تفسيره أن يحيى تكلم في المهد، أخرجه الثعلبي، فإن ثبت صاروا سبعة، ذكر البغوي في تفسيره أن إبراهيم الخليل عليه السلام تكلم في المهد، وفي سير الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما ولد.
قال القرطبي: في هذا الحصر "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة" نظر، إلا أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم الزيادة على ذلك. وفيه بعد، قال: ويحتمل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيدا بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد اهـ. والمراد من المهد السرير أو الفراش الذي يهيأ للطفل لينام، ويلحق به هنا صدر الأم وحضنها.
(وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب)"بين" ظرف زمان زيدت عليه الألف، خافض لشرطه بالإضافة، منصوب بجوابه، والتقدير: مر رجل راكب على دابة وقت رضاعة صبي من أمه.
وفي رواية للبخاري "وكانت امرأة ترضع ابنا لها، من بني إسرائيل فمر رجل راكب".
(على دابة فارهة) أي نشطة حادة قوية، يقال: فره بضم الراء يفره، فراهة وفروهة جمل وحسن وخف ونشط، وحذق ومهر، فهو فاره، وفي القرآن الكريم {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين} [الشعراء: 149]
(وشارة حسنة) أي هيئة حسنة، ولباس حسن، وفي رواية للبخاري "فمر بها راكب ذو شارة" أي صاحب هيئة ومنظر وملبس حسن، يتعجب منه، ويشار إليه.
(فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا) وفي رواية للبخاري "اللهم اجعل ابني مثله" وفي رواية أخرى له "فقالت: اللهم لا تمت ابني حتى يكون مثل هذا".
(فترك الثدي، وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله) وفي رواية للبخاري "فترك ثديها، وأقبل على الراكب، فقال: "اللهم لا تجعلني مثل هذا".
(ثم أقبل على ثديه، فجعل يرتضع - قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحكي ارتضاعه، بأصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها) وفي رواية للبخاري "قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه" يحكي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عودة الصبي إلى ثدي أمه يمص، حكى ذلك بأن وضع إصبعه في فمه يمصها.
(قال: ومروا بجارية) فاعل "مروا" للصبي وللأم، ومن معهما، وفي رواية للبخاري "ثم مر بأمة" بضم الميم، مبني للمجهول.
(وهم يضربونها، ويقولون: زنيت، سرقت) بكسر التاء فيهما على الخطاب، أي أنت زنيت. أنت سرقت. وفي راية للبخاري "يقولون: سرقت".
فيحتمل أن يكون بسكون التاء وفتح القاف على الغيبة. قال الحافظ ابن حجر: وهو مستبعد، لعدم تناسقه مع "زنيت" وفي رواية لأحمد "يقولون: سرقت، ولم تسرق، زنيت، ولم تزن".
(وهي تقول: حسبي الله، ونعم الوكيل) وفي رواية للبخاري "ولم تفعل" وفي رواية "يقولون لها: تزني؟ وتقول: حسبي الله، ويقولون لها: تسرق، تقول: حسبي الله" وفي رواية أنها كانت حبشية أو زنجية، وأنها ماتت من الضرب فجروها، حتى ألقوها.
(فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها) تظنها جانية، سارقة، زانية حقيقة.
(فترك الرضاع، ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها) أي ترك الرضاع، ونظر إلى الجارية. وقال: اللهم اجعلني مثلها أي في طهرها، وعفتها، ونقائها، لا مثلها في الاتهام بالباطل والضرب.
(فهناك تراجعا الحديث) أي راجعت الأم وابنها الحديث، وأقبلت على الطفل تحدثه، وتسأله وكانت أولا، لا تراه أهلا للكلام، فلما تكرر منه الكلام علمت أنه أهل له، فسألته وراجعته.
(فقالت: حلقى) بفتح الحاء وسكون اللام وفتح القاف، قال النووي: يرويه المحدثون بالألف،
التي هي ألف التأنيث، ويكتبونه بالياء، ولا ينونونه، وهو صحيح فصيح، وقال أبو عبيد: أصحاب الحديث يروونه "حلقى" وإنما هو "حلقا" قال شمر: قلت لأبي عبيد: لم لا تجيز "حلقى"؟ فقال: لأن فعلي تجيء نعتا، ولم تجيء في الدعاء. اهـ. ومعنى "حلقى" هنا أي حلق الله شعري، وقيل: معناه جعلني الله شؤما على أهلي، هذا أصلها، ثم اتسعت العرب في استعمالها، فصارت تطلقها، ولا تريد حقيقة الدعاء، ولا حقيقة ما وضعت له أولا، كقولهم: تربت يمينه، اهـ.
كأنها تتأسف على دعائها السابق لابنها، حيث أصبح أعلم منها بالنتائج، فقالت تسأله:
(مر رجل حسن الهيئة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله. فقلت: اللهم لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأمة، وهم يضربونها، ويقولون: زنيت. سرقت. فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها. فقلت: اللهم اجعلني مثلها) فما السر؟ وماذا تعلم؟ ولا أعلم؟ .
(قال: إن ذاك الرجل كان جبارا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت، ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق. فقلت: اللهم اجعلني مثلها) في السلامة من المعاصي.
(رغم أنف. ثم رغم أنف، ثم رغم أنف) الرغم بضم الراء وفتحها وكسرها مع سكون الغين، وأصله لصق أنفه بالرغام، وهو تراب مختلط برمل، وقيل: الرغم كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه، والمراد من "رغم أنفه" أي ذل وخزي. و"أنف" فاعل "رغم" ولم ينون على نية الإضافة، والأصل: رغم أنف من أدرك، والجملة خبرية لفظا ومعنى، أو خبرية لفظا دعائية معنى.
(من أدرك أبوه عند الكبر - أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة) معناه أن برهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة، أو النفقة، أو غير ذلك، سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك فاته دخول الجنة، وذل في الآخرة، والمراد من إدراكهما إدراكهما أحياء، و"أحدهما أو كليهما" بالنصب بدل من "أبويه" وفي الرواية الرابعة وملحقها "رغم أنفه".
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من الحديث]-
1 -
من الرواية الأولى والثانية قال النووي: هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع، لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة، ويجيبها، ثم يعود لصلاته، فلعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه، وعاهد عليه. اهـ. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: فيه نظر، لأنها كانت تأتيه، فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه، فتزوره، وتقتنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف، ثم يجيبها، لأنه خشي أن ينقطع خشوعه. اهـ. أقول: إن الحديث صريح في أنه آثر الاستمرار في الصلاة دون قطعها، ودون تخفيفها على إجابة أمه، وليست هناك إشارة إلى أنه خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها،
وهذا سر خطئه، وإجابة دعاء أمه، وكان الأولى به أن يقطع صلاته، ويبرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لو كان جريج عالما لعلم أن إجابته أمه، أولى من عبادته ربه".
وقد استنبط منه بعض العلماء جواز قطع الصلاة لإجابة نداء الأم مطلقا، نفلا أو فرضا، لأنه لم تحدد صلاة جريج، وهو وجه في مذهب الشافعية، ومنعه بعضهم نفلا وفرضا، وحملوا هذا الحديث على أن قطع الصلاة كان مباحا عندهم في شرعهم، والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلا، وعلم تأذي الوالد بالترك، وجبت الإجابة، وإلا فلا، وإن كانت فرضا، وضاق الوقت لم تجب الإجابة، وإن لم يضق وجبت، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها، وحكى بعضهم أن ذلك يختص بالأم، دون الأب، ورد بأنه لم يقل به أحد من السلف.
2 -
واستدل به على إجابة دعاء الأم، ولو كان بالضرر للابن.
3 -
ولو كان الابن معذورا.
4 -
قال بعضهم: وفيه الرفق بالتابع، إذا جرى منه ما يقتضي التأديب، لأن أم جريج مع غضبها منه، لم تدع عليه إلا بما دعت به خاصة، ولولا طلبها الرفق به لدعت عليه بوقوع الفاحشة أو القتل. قاله الحافظ ابن حجر. وفيه نظر، إذ العقوبة التي دعت عليه بها أفظع بكثير من الجناية التي اقترفها، فلا رفق فيها، وتظهر فظاعتها فيما حصل له، وما كان يمكن أن يحصل لولا لطف الله به، وما كان لها أن تدعو عليه بوقوع الفاحشة، فذاك دعاء بالفحش، ولا بالقتل، لأنه يؤلمها هي بالدرجة الأولى، ولو قيل: فيه قسوة الأم على ابنها عند الغضب، لكان أولى.
5 -
وفيه أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن غالبا.
6 -
وفيه قوة يقين جريج وصحة رجائه، لأنه استنطق المولود، مع كون العادة أنه لا ينطق، ولولا صحة رجائه بنطقه ما استنطقه. قاله الحافظ ابن حجر. وأميل إلى أن الله تعالى ألهمه، مناما أو بغير منام أن ذلك سيقع، ففعل ما فعل مطمئنا للكرامة.
7 -
وفيه أن الله تعالى يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخرجا، وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات، تهذيبا وزيادة لهم في الثواب.
8 -
وفيه إثبات كرامات الأولياء.
9 -
ووقوع الكرامة لهم باختيارهم وطلبهم، وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون جريج كان نبيا، فتكون معجزة، لكن هذا المأخذ يمكن أخذه من المرأة التي كلمها ولدها المرضع.
10 -
وفيه جواز الأخذ بالأشد في العبادة، لمن علم من نفسه قوة على ذلك.
11 -
وفيه أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة، حتى في العصور السابقة على الإسلام.
12 -
واستدل به بعضهم على أن بني إسرائيل كان من شرعهم أن المرأة تصدق، ويقبل قولها فيما تدعيه على الرجال، من الوطء، ويلحق به الولد، وأنه لا ينفعه جحد ذلك، إلا بحجة تدفع قولها.
13 -
استدل به بعضهم على نسبة ابن الزاني للزاني، فمن زنى بامرأة فولدت بنتا، لا يجوز
له التزوج بتلك البنت، خلافا للشافعية، في أن ماء الزنا هدر، لا يثبت نسبا، ووجهة دلالة الحديث على المدعي، أن جريجا نسب ابن الزنا للزاني، في قوله: من أبوك؟ وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق المولود، بشهادته له بذلك، في قوله: أبي فلان الراعي، فكانت تلك النسبة صحيحة، فيلزم أن يجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة، وإنما خرج التوارث والولاء بدليل آخر، فبقي ما عدا ذلك على حكمه، ويرد المخالفون بأن هذا قد يكون شرع من قبلنا، ولم يرد في شرعنا ما يؤيده.
14 -
ومن روايتنا الثانية من أن جريجا طلب منهم أن يصلي قبل أن يسأل الطفل أن المفزع في الأمور المهمة إلى الله تعالى، يكون بالصلاة.
15 -
ومن الرواية التي توضأ فيها أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة، خلافا لمن زعم ذلك، وإنما الذي يختص بها الغرة والتحجيل في الآخرة.
16 -
وأن من هدم حائطا بنى مثله، وذهب مالك إلى وجوب القيمة الناجزة، أما البنيان فقد يتأخر.
17 -
ومن الرواية الثانية من قصة المرأة وطفلها أن نفوس أهل الدنيا، تقف مع الخيال الظاهر، فتخاف سوء الحال، بخلاف أهل التحقيق، فوقوفهم مع الحقيقة الباطنة، فلا يبالون بذلك مع حسن السريرة، كما قال تعالى، حكاية عن أصحاب قارون، حيث خرج عليهم {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} و {وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير} [القصص: 79، 80]
18 -
وفيها أن البشر طبعوا على إيثار الأولاد على الأنفس بالخير، لطلب المرأة الخير لابنها، ودفع الشر عنه ولم تذكر نفسها.
19 -
من الرواية الثالثة والرابعة الحث على بر الوالدين، وعظم ثوابه.
20 -
وأنه سبب في دخول الجنة.
والله أعلم