الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(626) باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه
5323 -
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه حدثه؛ أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شراج الحرة التي يسقون بها النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليهم. فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري. فقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك! فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: "يا زبير، اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فقال الزبير: والله! إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا}
5324 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه. وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم. فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم".
5325 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه. كلهم قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ذروني ما تركتكم" وفي حديث همام "ما تركتم. فإنما هلك من كان قبلكم".
5326 -
عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم
المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته".
5327 -
عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن أمر لم يحرم، فحرم على الناس من أجل مسألته".
- وزاد في حديث معمر: "رجل سأل عن شيء ونقر عنه" وقال: في حديث يونس عامر بن سعد، أنه سمع سعدا.
5328 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: "عرضت علي الجنة والنار. فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" قال: فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه. قال: غطوا رءوسهم ولهم خنين. قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان" فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}
5329 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! من أبي؟ قال: "أبوك فلان" ونزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} تمام الآية.
5330 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس. فصلى لهم صلاة الظهر. فلما سلم قام على المنبر. فذكر الساعة. وذكر أن قبلها أمورا
عظاما. ثم قال: "من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه. فوالله! لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا" قال أنس بن مالك: فأكثر الناس البكاء حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول "سلوني" فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: "أبوك حذافة" فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول "سلوني" برك عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولى. والذي نفس محمد بيده! لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط. فلم أر كاليوم في الخير والشر" قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أعق منك؟ أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة: والله! لو ألحقني بعبد أسود، للحقته.
بمثل حديث يونس.
5331 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة. فخرج ذات يوم فصعد المنبر، فقال:"سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم" فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجل من المسجد، كان يلاحى فيدعى لغير أبيه. فقال: يا نبي الله! من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي اللهم عنهم فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، عائذا بالله من سوء الفتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم أر كاليوم قط في الخير والشر. إني صورت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط".
عن أنس بهذه القصة.
5332 -
عن أبي موسى قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها. فلما أكثر عليه. غضب. ثم قال للناس: "سلوني عم شئتم" فقال رجل: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" فقام آخر فقال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: "أبوك سالم مولى شيبة" فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله. وفي رواية أبي كريب: قال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: "أبوك سالم، مولى شيبة".
-[المعنى العام]-
إن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، يستلزم الإجابة لما جاء به، وقبول أوامره ونواهيه، وامتثال قراراته وأحكامه، وفي ذلك يقول جل شأنه {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65].
لقد طبع العرب على العصبية القبلية، ونصر القريب والدفاع عنه، والحكم له، وإن كان ظالما، ومن الصعب انتزاع العادات والطبائع في زمن يسير، وقد لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الطبيعة ما لاقى، وتحمل في سبيل تقويمها ما تحمل.
فهذا رجل من الأنصار، تجاور أرضه ونخيله أرض ونخيل الزبير بن العوام، ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومياه سقيه لا بد لها أن تمر في أرض الزبير، والمياه، كما يقول العامة: لا تمر على العطشان، فلا يشرب، لكن قانون القوة، وقانون العصبية لا يلتزم الحقوق، لقد حاول الأنصاري أن تمر المياه في أرض الزبير، دون أن يسقى نخيله، فمنعه من فتح القناة في أرضه، وطلب منه أن يترك القناة مغلقة الجوانب حتى يصل الماء أرضه فيروي أولا، ورفعا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان حكم الله أن يسقى الأعلى الأقرب إلى مصدر المياه أولا حتى يكتفي، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في أن يتنازل الزبير عن بعض حقه، وأن يسقى الضروري فقط، وأن يسمح للماء بالمرور إلى أرض الأنصاري قبل أن يشبع الزبير أرضه، فقال: اسق يا زبير قدر الضرورة وأرسل الماء لجارك، وكان الأنصاري مشبعا بالعادة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألأنه ابن عمتك حكمت لمصلحته؟ وغضب صلى الله عليه وسلم، وبان الغضب في وجهه، فأعطى الزبير حقه، وقال: اسق يا زبير حتى يشبع بالماء نخلك، ثم اترك الماء، ونزلت الآية الكريمة، تدعو الأمة إلى قبول حكمه صلى الله عليه وسلم، والتسليم به.
وكان لا بد من توقيره صلى الله عليه وسلم، وتهيب الأمة لمقامه، وإن تواضع، لكن الطبيعة العربية
الخشنة جعلتهم يعاملونه بما لا يليق بمقامه، ينادونه باسمه، ويطلبون منه ما يطلبون من سوقة الناس، فيقولون: يا محمد، اخرج إلينا، فينزل الله تعالى {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور: 63].
يكثرون أسئلته بما لا ينفع، وبما لا يعنى، وبتوافه الأمور، حتى من ضاعت ناقته يسأل: أين ناقتي؟ وحتى يسأل من يشك في نسب نفسه: من أبي؟ فيتأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وينزل قوله تعالى {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101].
إن الرسالة تكريم وتشريف وتفضيل للرسل، وطاعتهم طاعة الله، من يطع الرسول فقد أطاع الله، وتكريمهم والتسلم لهم تكريم لأوامر الله، وتسليم لأحكام الله.
-[المباحث العربية]-
(أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية "خاصم الزبير رجلا" والمخاصمة مفاعلة من الجانبين، فكل منهما مخاصم للآخر، كذا قال الحافظ ابن حجر: قلت: لكن جعل أحدهما فاعلا، والآخر مفعولا يشير إلى أن الفاعل هو الشاكي والمدعي، وهو هنا كذلك وأن الأنصاري هو الشاكي.
وفي رواية "أن رجلا من الأنصار قد شهد بدرا" وفي رواية "أنه كان من بني أمية بن زيد، وهم بطن من الأوس، وحكى ابن بشكوال عن شيخه أبي الحسن بن مغيث أنه ثابت بن قيس بن شماس، ولم يأت على ذلك بشاهد، قال الحافظ ابن حجر: وليس ثابت بدريا، وحكى الواحدي أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، الذي نزل فيه قوله تعالى {ومنهم من عاهد الله} [التوبة: 75] ولم يذكر مستنده، ولم يكن بدريا أيضا، وحكى الواحدي أيضا أنه حاطب بن أبي بلتعة، وتعقب بأن حاطبا وإن كان بدريا لكنه من المهاجرين، ومال الحافظ ابن حجر إلى ترجيح هذا الرأي، فقال: لكن يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: 65] قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء" الحديث. وإسناده قوي مع إرساله. وعلى هذا فيئول قوله "من الأنصار" على إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك في حق غير واحد، كعبد الله بن حذافة، وأما قول الكرماني بأن حاطبا كان حليفا للأنصار ففيه نظر، وأما قوله من "بني أمية بن زيد، فلعله كان مسكنه هناك، كعمر، قال: وذكر الثعلبي بغير سند أن الزبير وحاطبا لما خرجا، مرا بالمقداد، قال: لمن القضاء؟ فقال: حاطب: قضى لابن عمته، ولوى شدقه، ففطن له يهودي، فقال: قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه. قال الحافظ: وفي صحة هذا نظر، قال: ويترشح بأن حاطبا كان حليفا لآل الزبير بن العوام، من بني أسد، وكأنه كان مجاورا للزبير، أي في الحائط والزراعة.
وأما قول الداودي وغيره: إن خصم الزبير كان منافقا - للكلمة التي قالها - فقد وجهه القرطبي بأن قول من قال إنه كان من الأنصار، يعني نسبا، لا دينا، قال: وهذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل أنه لم يكن منافقا، ولكن صدر منه ذلك ببادرة النفس، كما وقع لغيره ممن صحت توبته، وقوى هذا
شارح المصابيح التوربشتي، ووهى ما عداه، وقال: لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصر - قولهم: من الأنصار - التي هي المدح، ولو شاركهم في النسب، قال: بل هي زلة من الشيطان، تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة. اهـ.
وقال الداودي - بعد جزمه بأنه كان منافقا - وقيل: كان بدريا، فإن صح فقد وقع ذلك منه قبل شهودها، لانتفاء النفاق عمن شهدها.
وقال ابن التين: إن كان بدريا فمعنى قوله {فلا وربك لا يؤمنون} لا يستكملون الإيمان.
(في شراج الحرة التي يسقون بها النخل)"شراج" بكسر الشين وفتح الراء مع المد، بعدها جيم، جمع شرج، بسكون الراء، مثل بحر وبحار، ويجمع أيضا على شروج، وحكى ابن دريد "شرج" بفتح الراء، وحكى القرطبي "شرجة" والمراد بها هنا مسيل الماء، أي مجراه، والحرة بفتح الحاء وتشديد الراء موضع معروف في المدينة، وهو في الأصل الأرض الملساء، فيها حجارة سود، قال أبو عبيد: كان بالمدينة واديان يسيلان بماء المطر فيتنافس الناس فيه.
وأضيف "شراج" إلى الحرة لأنه فيها، والمعنى اختصما بشأن الماء الجاري في مسيل الحرة.
وقوله "التي يسقون بها النخل" أي توصل الماء إلى نخيلهم، وفي رواية "كانا يسقيان بها كلاهما" أي كان هذا المجرى يسقي لهما، لكن أرض الزبير أعلى من أرض الرجل، أي أقرب إلى مصدر الماء، ولا يصل الماء للرجل إلا بعد أن يمر في أرض الزبير.
(فقال الأنصاري: سرح الماء يمر)"سرح" فعل أمر من التسريح، أي قال الرجل للزبير: أطلق الماء يمر، وفي الكلام طي، أي فحبس الزبير الماء في أرضه، حتى يسقي، فقال الأنصاري لا تحبس الماء عني، وأطلقه يمر من أرضك إلى أرضي، لنسقي سويا، وفي رواية في آخرها "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري" والحقيقة أن الرأي كان فيه سعة للرجل.
(فأبى عليهم) أي امتنع الزبير من إجابة مطلب الرجل، والجمع باعتبار أهله معه.
(فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعاد الجملة لطول الفصل عن الأولى، والجمع في "اختصموا" باعتبار أفراد وأهل كل منهما، كقوله تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19].
(اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك) أي اسق شيئا يسيرا، دون قدر حقك، ثم أرسله إلى جارك.
(أن كان ابن عمتك؟ ) الزبير بن العوام، أمه صفية بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصل الكلام: ألأنه كان ابن عمتك حكمت له؟ فحذف الاستفهام وحرف الجر لام التعليل قبل "أن" وهو كثير، وحذف الضمير، اسم "أن" و"ابن" بالنصب، خبر "كان" كما في قوله تعالى {أن كان ذا مال وبنين} [القلم: 14] أي ألأنه كان ذا مال وبنين كذب؟ وحكى القرطبي تبعا لعياض أن همزة "أن" ممدودة، قال: لأنه استفهام على جهة الإنكار، قال الحافظ ابن حجر: ولم يقع لنا في الرواية مد، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام، وحكى الكرماني "إن كان" بكسر الهمزة على أنها شرطية، والجواب
محذوف، أي وإن كان ابن عمتك فاعدل، وقريب من هذا رواية "فقال: يا رسول الله، اعدل وإن كان ابن عمتك" وفي رواية للبخاري "إنه ابن عمتك" قال ابن مالك: يجوز في "إنه" فتح الهمزة وكسرها، لأنها وقعت بعد كلام تام، معلل بمضمون ما صدر بها، فإذا كسرت قدر ما قبلها بالفاء، وإذا فتحت قدر قبلها اللام.
(فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم أي تغير، وهو كناية عن الغضب، وفي رواية "حتى عرفنا أن قد ساءه ما قال".
(ثم قال: يا زبير، اسق، ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدر) أي حتى يصير إلى الجدر، و"الجدر" ضبط في أكثر الروايات بفتح الدال، وفي بعضها بالسكون، وهو الذي في اللغة، وهو أصل الحائط، اهـ.
وهو بفتح الجيم فيهما، ويروى بضم الدال والجيم، جمع جدار، ويروى بكسر الجيم، وهو الجدار، والمراد حتى يرتفع الماء في أصول النخيل، إلى أن يصير إلى حافة الجدار الترابي، الذي يحيطون به النخلة، ليحجز الماء لها، حتى تشرب كثيرا، فتصير به النخلة في مثل حفرة، وفي رواية للبخاري "اسق يا زبير، حتى يبلغ الماء الجدر، ثم أمسك" أي أمسك نفسك عن السقي، وأرسل الماء لجارك.
وحكى الخطابي "الجذر" بسكون الذال، والمراد حتى يبلغ الجذر تمام الشرب، وفي رواية للبخاري "اسق، ثم احبس، حتى يرجع الماء إلى الجدر - واستوعى له حقه" بفتح العين، أي استوعى الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، واستوفاه له.
(قال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (وفي رواية "والله إن هذه الآية أنزلت في ذلك" بالجزم بدل الظن، وفي رواية "ونزلت {فلا وربك} الآية" قال الحافظ ابن حجر: والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك.
وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} الآية، فروى إسحق بن راهويه في تفسيره بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم، لأنه علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، إلى قوله {ويسلموا تسليما} وروى الكلبي في تفسيره عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف، فذكر القصة وفيها أن عمر قتل المنافق، وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات. قال الطبري: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه، وقعت في أثناء ذلك، فيتناولها عموم الآية.
زاد البخاري "قال ابن جريج: فقال له ابن شهاب "فقدرت الأنصار والناس قول النبي صلى الله عليه وسلم" اسق، ثم احبس، حتى يرجع إلى الجدار "وكان ذلك إلى الكعبين" يعني أنهم لما رأوا أن الجدار
يختلف بالطول والقصر، قاسوا ما وقعت فيه القصة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارا لاستحقاق الأول فالأول، وسيأتي توضيح هذا الحكم في فقه الحديث.
(ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم) وفي الرواية الثالثة "ذروني ما تركتكم" وفي ملحقها "ما تركتم" بالبناء للمجهول، وفي رواية للبخاري "دعوني" والكلمتان أمات العرب ماضيهما، واسم الفاعل منهما، واسم مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع والأمر، فقالوا: يدع، دع، ويذر، ذر. و"ما" في "ما تركتكم" مصدرة ظرفية زمانية، أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء، قال: ولم يقل: اتركوني ما تركتكم، على سبيل التفنن في العبارة، وأطلق في النهي، ولم يقيده بالاستطاعة، كما قيد الأمر، لأن المقصود النهي العام عن جميع المناهي، قال الفاكهي: لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعض شرب الخمر أو بعض الزنا لم يعد متمثلا، بخلاف الأمر المطلق، فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان متمثلا.
وقد أخرج مسلم سبب هذا الحديث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم
…
" الحديث.
(فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) يريد بالذين من قبلهم بني إسرائيل، ويريد أن كثرة التنقيب قد تفضي إلى المشقة، فقد أمروا أن يذبحوا بقرة، فلو ذبحوا أي بقرة كانت، لامتثلوا، ولكنهم شددوا فشدد عليهم.
وسيأتي في فقه الحديث أقوال العلماء في المراد من المسائل المشار إليها.
(إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرم، فحرم على الناس)، قال القاضي عياض: والمراد بالجرم هنا الحرج على المسلمين، لا أنه الجرم الذي هو الإثم المعاقب عليه، لأن السؤال كان مباحا. اهـ.
ورده النووي، فقال: وهذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل باطل، والصواب ما قاله الخطابي وجماهير العلماء في شرح هذا الحديث، وأن المراد بالجرم الإثم والذنب، قال: ويقال منه جرم بالفتح واجترم وتجرم إذا أثم. اهـ.
وسيأتي في فقه الحديث تفصيل القول في نوعية السؤال.
(ورجل سأل عن شيء، ونقر عنه) أي بالغ في البحث والاستقصاء عنه.
(بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب، فقال) يحتمل أن يكون الشيء هو الرغبة في أسئلة لا حاجة إليها.
(عرضت علي الجنة والنار) أي وما فيهما من نعيم وعذاب، وفي الرواية الثامنة "إني صورت لي الجنة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط"
(فلم أر كاليوم في الخير والشر) أي لم أر خيرا أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولا شرا أكثر مما رأيته اليوم في النار.
(ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا) أي ولو رأيتم ما رأيت، وعلمتم ما علمت لأشفقتم على أنفسكم إشفاقا بليغا، ولقل ضحككم، وكثر بكاؤكم.
(فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه) أي من هذا اليوم الذي أنذرهم فيه بهذا الإنذار، والمراد ما حصل لهم ساعتها من الخوف.
(غطوا رءوسهم، ولهم خنين) قال النووي "خنين" بالخاء في معظم النسخ ولمعظم الرواة، ولبعضهم بالحاء، قالوا: ومعناه بالخاء صوت البكاء، وهو نوع من البكاء، دون الانتحاب. قالوا: وأصل الخنين خروج الصوت من الأنف، والحنين خروجه من الفم، وقال الخليل: الخنين بالخاء صوت فيه غنة، وقال الأصمعي: إذا تردد البكاء فصار فيه غنة فهو خنين، وقال أبو زيد: الخنين مثل الحنين، شدة البكاء.
(فقام عمر، فقال: رضينا بالله ربا) هذا معطوف على محذوف، مطوي، أبرزته الرواية السابعة وفيها "خرج حين زاغت الشمس، فصلى لهم صلاة الظهر، فلما سلم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن قبلها أمورا عظاما، ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء، إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا، فأكثر الناس البكاء، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني" فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يقول: سلوني، برك عمر، فقال:"رضينا بالله ربا" وفي الرواية الثامنة "أن الناس سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفوه بالمسألة" أي أكثروا في الإلحاح والمبالغة فيه، يقال: أحفى وألحف، وألح بمعنى "فخرج ذات يوم، فصعد المنبر، فقال: سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم" قال القاضي: وظاهر الحديث أن قوله "سلوني" إنما كان غضبا، كما قال في الرواية التاسعة "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس: سلوني عم شئتم" قال: وكان اختياره صلى الله عليه وسلم ترك تلك المسائل، لكن وافقهم في جوابها لأنه لا يمكن رد السؤال، ولما رآه من حرصهم عليها، قال: وأما بروك عمر رضي الله عنه، وقوله "رضينا
…
إلخ" فإنما فعله أدبا وإكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقة على المسلمين، لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيهلكوا.
وفي الرواية الثامنة "فلما سمع ذلك القوم أرموا" بفتح الهمزة والراء وتشديد الميم المضمومة، أي سكتوا، وأصله من المرمة، وهي الشفة، أي ضموا شفاههم، بعضها على بعض، فلم يتكلموا، "ورهبوا" أي خافوا "أن يكون بين يدي أمر قد حضر" أي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم عنده أمر خطير، كالساعة وبوادرها، قد آن أوانه، "قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا، فإذا كل رجل لاف رأسه" أي قد لف رأسه "في ثوبه يبكي".
(رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا) أي رضينا بما عندنا من كتاب الله تعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، واكتفينا به عن السؤال، ففيه أبلغ كفاية.
(قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال عمر ذلك) أي سكت عن قول "اسألوني".
(أولى) بفتح الهمزة وسكون الواو، وفتح اللام، وهي لفظة تهديد ووعيد، وقيل: كلمة تلهف، فعلى هذا يستعملها من نجا من أمر خطير، والصحيح المشهور أنها للتهديد، ومعناها قرب منكم ما تكرهونه، ومنه قول تعالى {أولى لك فأولى} [القيامة: 34] أي قاربك ما تكره، فاحذره، مأخوذ من الولي، وهو القرب.
(آنفا) أي قريبا، أي هذه المسألة، والمشهور فيها المد، ويقال بالقصر، وقرئ بهما في السبع، والأكثرون بالمد.
(في عرض هذا الحائط) عرض الحائط بضم العين جانبه.
(فقام ذاك الرجل، فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان) في الرواية السابعة "فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي؟ يا رسول الله، قال: أبوك حذافة" وفي الرواية الثامنة "فأنشأ رجل من المسجد" أي بدأ رجل الكلام من المسجد "كان يلاحى" بضم الياء، وفتح الحاء، أي كان يخاصم ويجادل "فيدعى لغير أبيه" بضم الياء وسكون الدال وفتح العين، أي ينسب لغير أبيه، زاد في الرواية التاسعة "فقام آخر، فقال: من أبي؟ يا رسول الله. قال: أبوك سالم، مولي شيبة" هذا الرجل هو سعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة، وزاد الطبري في رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان محمارا وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل، فقال أين أنا؟ قال: في النار" وعند أحمد "فقال رجل: يا رسول الله، في الجنة أنا أو في النار؟ قال: في النار".
(ما سمعت بابن قط أعق منك) أي أنت أكثر الأبناء عقوقا لأمك.
(أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية الزنا فتفضحها على أعين الناس؟ )"قارفت" أي ارتكبت، والمراد بما تقارف نساء أهل الجاهلية الزنا، والجاهلية من كانوا قبل النبوة، ومعنى "فتفضحها" أي لو كنت من زنا، فنفاك عن أبيك حذافة فضحتني.
(والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته) وآمنت بصدق كلامه، فإنه لا ينطق عن الهوى.
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من أحاديث الباب]-
1 -
من الرواية الأولى حق الأعلى في الشرب قبل الأسفل، قال العلماء: الشرب من نهر أو مسيل غير مملوك، يقدم الأعلى فالأعلى، ولا حق للأسفل حتى يستغني الأعلى، وحده أن يغطي الماء الأرض، حتى يظهر على سطحها، ويرجع إلى الجدار، ثم يطلق، وقد أمر صلى الله عليه وسلم الزبير أولا أن يسامح ببعض حقه، إيثارا لحسن الجوار، فلما جهل الخصم واعترض استوفى لصاحب الحق حقه.
والمراد بالأول هنا عند الجمهور من يكون مبدأ الماء من ناحيته، وقال بعض المتأخرين من الشافعية: المراد به من لم يتقدمه أحد في الغراس، بطريق الإحياء، والذي يليه من أحيا بعده، وهلم جرا. اهـ. ويمكن قبول هذا الترتيب إذا كانوا متساوين في القرب من مصدر الماء، أو كان مصدره في وسط أراضيهم، وقضيتنا في ماء يخترق أرضا، ليصل إلى أخرى.
قال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يمسك الأول الماء حتى يصل في الأرض إلى الكعبين، الحد الواجب في الوضوء، وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزروع فإلى الشراك - أي السير الذي فوق القدم من النعل - وقال الطبري: الأراضي مختلف، فيمسك لكل أرض ما يكفيها، لأن الذي في قصة الزبير واقعة عين.
واختلف أصحاب مالك: هل يرسل الأول جميع الماء بعد أن يبلغ الكعبين - فتصفى الأرض؟ أو يرسل ما زاد على الكعبين؟ والأول أظهر، إذا لم يبق له به حاجة.
2 -
وفي الحديث إشارة الإمام بالصلح بين المتخاصمين، قبل أن يحكم، فما أشار به صلى الله عليه وسلم أولا كان على سبيل الصلح، ولا يلزم الخصم به إلا إذا رضي.
3 -
وأن الحاكم يستوفي لصاحب الحق حقه، ولو لم يسأله صاحب الحق.
4 -
وحكى الخطابي أن فيه دليلا على جواز فسخ الحاكم حكمه، لأنه صلى الله عليه وسلم حكم أولا بالإحسان إلى الجار، فلما اعترض الخصم، رجع عن حكمه الأول إلى الحقوق، ليكون ذلك أبلغ في زجر الخصم، وتعقب بأن الحكم الأول لم يثبت، حتى يرجع عنه، فقد كان إشارة إلى المصالحة.
5 -
قيل: إن الحكم والحق هو الحكم الأول، أما الثاني فكان عقوبة على ما بدر منه، وكان ذلك لما كانت العقوبة بالأموال جائزة، حكاه ابن الصباغ من الشافعية، ووافق عليه، وهو بعيد، وسياق طرق الحديث يأباه، لا سيما قوله "واستوفى للزبير حقه" في صريح الحكم، فمجموع الطرق دال على أنه أمر الزبير أولا أن يترك بعض حقه، وثانيا أن يستوفي جميع حقه.
6 -
وفيه أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول التي لا تملك، فهو أحق به، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبسه عن الذي يليه.
7 -
وفيه توبيخ من جفا على الحاكم ومعاقبته.
8 -
ويمكن أن يستدل به على أن للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلق به، لكن محل ذلك ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع، وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم صاحب القصة، لما كان عليه من تأليف الناس، قال القرطبي: فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حق شريعته قتل قتلة زنديق، ونقل النووي نحوه عن العلماء.
9 -
وفيه صحة حكم الحاكم وهو غضبان، إذا أمن الخطأ والغلط، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمون، لعصمته من ذلك حال السخط.
10 -
وفيه ما تحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء، والحث على الصبر على الأذى.
11 -
وفيه وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، والرضا بحكمه، والتسليم لأمره.
12 -
وفيه إدلال الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه، فإن ما أشار به صلى الله عليه وسلم على الزبير كان إدلالا عليه، لعلمه بأنه يرضى بذلك، ويؤثر الإحسان.
13 -
ومن الرواية الثانية والثالثة النهي عن كثرة الاستفصال، وعن كثرة التنقيب الذي قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل.
14 -
استدل قوم بإطلاق النهي، وتقييد الأمر بالاستطاعة على عموم النهي، وقالوا: الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، قال الحافظ ابن حجر: والصحيح عدم المؤاخذة، إذا وجدت صورة الإكراه المعتبرة، واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال: لا يتصور الإكراه عليه، وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن ينتشر الرجل بغير سبب، فيكره على الإيلاج حينئذ، فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا كان زانيا، فتصور الإكراه على الزنا في الرجل، أما في المرأة فإكراهها على الزنا ممكن.
15 -
واستدل به من قال: لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش بالخمر ولا إساغة الغصة بالخمر، قال الحافظ ابن حجر: والصحيح عند الشافعية جواز الثالث، حفظا للنفس، فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي، فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم "إنه ليس بدواء، ولكنه داء" وعند أبي داود "ولا تداووا بحرام" و"إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" وأما العطش، فإنه لا ينقطع بشربها، ولأنه في معنى التداوي، والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه، ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي، كأكل الميتة للمضطر، وقال الفكهاني: لا يتصور امتثال اجتناب المنهي، حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لا يعد متمثلا، بخلاف الأمور.
وقال هنا ابن فرج إن النهي يقتضي الأمر، فلا يكون متمثلا لمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدا من آحاد ما يتناوله النهي، بخلاف الأمر، فإنه على عكسه، ومن ثم نشأ الخلاف، هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ وهل النهي عن الشيء أمر بضده؟ والتفاصيل في كتب الأصول.
16 -
وعن قوله "وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" قال النووي: هذا من جوامع الكلم، وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام، كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط، فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض الزكاة لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر، ثم قدر في أثناء النهار، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها، وقال غيره: إن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور.
17 -
قال الحافظ ابن حجر: واستدل به على أن من أمر بشيء، فعجز عن بعضه، ففعل المقدور، أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن "ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه" ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد.
18 -
واستدل بالحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات، ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة.
فإن قيل: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا، إذ يقول الله تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286] فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين. قال الحافظ ابن حجر: كذا قيل، والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على اعتناء الشرع بالنهي، بل هو من جهة أن النهي كف، وكل واحد قادر على الكف، لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف، بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن هنا قيد في الأمر بحسب الاستطاعة، دون النهي، قال: وعبر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود. وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم النهي عنه قد تتخلف، وقال الماوردي: أن الكف عن المعاصي ترك والترك سهل، وعمل الطاعة فعل، وهو يشق.
فالحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر، دون النهي، أن العجز يكثر تصوره في الأمر، بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار.
19 -
واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه، لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه، فشمل الواجب والمندوب، وأجيب بأن قوله "فاجتنبوه" يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين ويجيء مثل هذا الجواب في الجانب الآخر، وهو الأمر.
20 -
واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، وأجيب بأن من قال: المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب، وإنما أراد المعنى العام، هو الإذن.
21 -
واستدل بقوله "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم" النهي عن إكثار السؤال، والسؤال أنواع، ولكل نوع منه حكمة.
أ- فالسؤال عما لم يحدث تكلفا أو تعنتا، فيما لا حاجة إليه منهي عنه، فقد يؤدي إلى المشقة بالمسلمين، ويكون سببا لتحريم شيء عليهم، لم يكن ليحرم، لولا السؤال، كما أشير إليه في الرواية الرابعة والخامسة، وهذا النوع قد يكون مأمونا اليوم، بعد أن ثبت التحليل والتحريم، واستقرت الشريعة، وأكمل الله الدين، لكنه قد يتصور في المنقبين المشددين المتنطعين، الذين يسألون أمثالهم، فيجيبونهم بما يشق عليهم، وقد أخرج البزار "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئا، ثم تلا هذه الآية {وما كان ربك نسيا} [مريم: 64] وأخرج الدارقطني "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء، رحمة بكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" ومن أمثلة ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النوع قبل نزول الآية، سؤالهم عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أمروا بغير طاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، وسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، فكثير من هذه الأسئلة كانت سببا للتكليف بما يشق.
ب- وقد يؤدي إلى الإساءة إلى السائل، كالذي سأل: أين أنا؟ فقيل له: في النار.
ج- وقد يؤدي السؤال إلى فتح باب الإلحاح والإلحاف والكثرة التي تعني ولا تعني، وتضر أكثر مما تنفع، فتحرج المسئول وتؤذيه، كما تشير إلى ذلك الرواية السادسة وما بعدها، وكسؤال الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ .
د- وقد يكون السؤال من منطلق التقعر والتشدق والتظاهر بالعلم والتعمق فيه، مما يسيء إلى العلم والعلماء، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود عند مسلم، رفعه "هلك المتنطعون".
هـ- وقد يكون السؤال جريا وراء أمور غيبية، ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدة هذه الأمة، على أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث في تفصيله، وصرف الزمان في غيره مما ينفع أولى.
و- وقد يؤدي السؤال إلى الإضرار بالسائل، أو وقوعه في الشك والحيرة، ومثلوا له بسائل يسأل عن السلع المجهول مصدرها في الأسواق، فيجاب بجواز شرائها ممن هي في يده، من غيره بحث عن طريق مصيرها إليه، فيعود ويسأل: أخشى أن تكون هذه السلعة من نهب حصل قريبا، فيجاب بكراهة أو تحريم الشراء، من ذلك ما يحكى أن ماء سقط على عالم من نافذة بيت، فنادى العالم صاحبة النافذة، أهذا الماء طاهرا أم نجس؟ فقالت له: نجسته بسؤالك أيها الفقيه.
أما الممدوح من الأسئلة فهو ما كان في العلم للعلم، وبقدر الحاجة، وبدون إضرار أو إيذاء، أو مضايقة أو رياء، وبالجملة أن يجر نفعا، ولا يشوبه ضرر.
22 -
ومن الرواية السادسة من عرض الجنة والنار، أن الجنة والنار مخلوقتان. قاله النووي.
23 -
ومن قوله "لو تعلمون ما أعلم" عدم كراهة استعمال لفظة "لو" في مثل هذا.
24 -
وقد يؤخذ من قول عبد الله بن حذافة "لو ألحقني بعبد للحقته" أن الزنا يثبت به نسب، مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن ابن حذافة ما كان بلغه هذا الحكم، وكان يظن أن ولد الزنا يلحق بالزاني، قال النووي: وقد خفي هذا على أكبر منه، وهو سعد بن أبي وقاص، حين خاصم في ابن وليدة زمعة، فظن أنه يلحق أخاه بالزنا، والثاني أنه يتصور الإلحاق بعد الوطء بشبهة فيثبت النسب منه.
25 -
ومن بروك عمر رضي الله عنه جواز بروك الطالب، كمظهر من مظاهر الانزعاج والاهتمام، فقد فهم عمر أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنت أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك، فقال: رضينا بالله ربا: إلخ.
26 -
وفيه فضيلة لعمر وذكائه وإدلاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رضي النبي صلى الله عليه وسلم بقول عمر، فسكت.
27 -
وفيه جواز الغضب عند الموعظة والتعليم.
28 -
وفيه دقة ملاحظة الصحابة لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الرضا والغضب.
29 -
وحرصهم على رضاه، وخوفهم من غضبه.
30 -
وقد يتمسك القدرية بالرواية الرابعة والخامسة في أن الله تعالى يفعل شيئا من أجل شيء، قال المهلب: وليس كذلك، بل هو على كل شيء قدير، وهو فاعل السبب والمسبب، كل ذلك بتقديره، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر، فعظم جرم من فعل ذلك، لكثرة الكارهين لفعله، وقال غيره: أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل، وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون المقدر: الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه، فقد سبق القضاء بذلك، لا أن السؤال علة التحريم.
31 -
ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما، وإن كان العمل في أصله مباحا، فالسؤال عن تكرير الحج في أصله مباح، لكن لما كان سببا لمشقة الآخرين حرم ومنع.
والله أعلم