المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(633) باب من فضائل عمر رضي الله عنه - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ٩

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌(599) باب قتل الحيات والأبتر والوزغ والهرة وسقي البهائم

- ‌كتاب الأدب من الألفاظ وغيرها

- ‌(600) باب سب الدهر - تسمية العنب كرما - قول: عبدي وأمتي - استعمال المسك

- ‌كتاب الشعر

- ‌(601) باب الشعر واللعب بالنرد

- ‌كتاب الرؤيا

- ‌(602) باب الرؤية والحلم، وتأويل الرؤيا

- ‌كتاب الفضائل

- ‌(603) باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة وتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق

- ‌(604) باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(605) باب توكله صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس

- ‌(606) باب بيان مثل ما بعث به صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم

- ‌(607) باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم وإذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها

- ‌(608) باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته

- ‌(609) باب إكرامه صلى الله عليه وسلم بقتال الملائكة معه

- ‌(610) باب من شجاعته صلى الله عليه وسلم

- ‌(611) باب جوده صلى الله عليه وسلم

- ‌(612) باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم

- ‌(613) باب في سخائه صلى الله عليه وسلم

- ‌(614) باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك

- ‌(615) باب حيائه صلى الله عليه وسلم

- ‌(616) باب تبسمه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته

- ‌(617) باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء، والرفق بهن

- ‌(618) باب قربه صلى الله عليه وسلم من الناس، وتبركهم به، وتواضعه لهم

- ‌(619) باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله تعالى عند انتهاك حرماته

- ‌(620) باب طيب رائحته صلى الله عليه وسلم، ولين مسه وطيب عرقه، والتبرك به

- ‌(621) باب في صفاته الخلقية، وصفة شعره وشيبته

- ‌(622) باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم

- ‌(623) باب قدر عمره صلى الله عليه وسلم، وإقامته بمكة والمدينة

- ‌(624) باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم

- ‌(625) باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله، وشدة خشيته له

- ‌(626) باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه

- ‌(627) باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي

- ‌(628) باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم

- ‌(629) باب فضائل عيسى عليه السلام

- ‌(630) باب من فضائل إبراهيم الخليل، ولوط، عليهما السلام

- ‌(631) باب من فضائل موسى عليه السلام، ويونس، ويوسف، وزكريا، والخضر، عليهم السلام

- ‌كتاب فضائل الصحابة

- ‌(632) باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌(633) باب من فضائل عمر رضي الله عنه

- ‌(634) باب من فضائل عثمان رضي الله عنه

- ‌(635) باب فضائل علي رضي الله عنه

- ‌(636) باب من فضائل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

- ‌(637) باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما

- ‌(638) باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

- ‌(639) باب من فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما

- ‌(640) باب من فضائل زيد بن حارثة، وابنه أسامة، رضي الله عنهما

- ‌(641) باب من فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه

- ‌(642) باب من فضائل خديجة رضي الله عنها

- ‌(643) باب فضائل عائشة رضي الله عنها

- ‌(644) تابع باب فضائل عائشة رضي الله عنها حديث أم زرع

- ‌(645) باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها

- ‌(646) باب من فضائل أم سلمة رضي الله عنها

- ‌(647) باب من فضائل زينب أم المؤمنين رضي الله عنها

- ‌(648) باب من فضائل أم أيمن رضي الله عنها

- ‌(649) باب من فضائل أم سليم وبلال رضي الله عنهما

- ‌(650) باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنهما

- ‌(651) باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار رضي الله عنهم

- ‌(652) باب من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه

- ‌(653) باب من فضائل أبي دجانة: سماك بن خرشة رضي الله عنه

- ‌(654) باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله عنهما

- ‌(655) باب من فضائل جليبيب رضي الله عنه

- ‌(656) باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه

- ‌(657) باب من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله عنه

- ‌(658) باب من فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

- ‌(659) باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

- ‌(660) باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه

- ‌(661) باب من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه

- ‌(662) باب من فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه

- ‌(663) باب من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه

- ‌(664) باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

- ‌(665) باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان، رضي الله عنهم

- ‌(666) باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما

- ‌(667) باب من فضائل أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه

- ‌(668) باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما

- ‌(669) باب من فضائل سلمان وبلال وصهيب رضي الله عنهم

- ‌(670) باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم

- ‌(671) باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيئ

- ‌(672) باب خيار الناس

- ‌(673) باب من فضائل نساء قريش

- ‌(674) باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، رضي الله عنهم

- ‌(675) باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة

- ‌(676) باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم

- ‌(677) باب معنى قوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌(678) باب تحريم سب الصحابة

- ‌(679) باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه

- ‌(680) باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر

- ‌(681) باب فضل أهل عمان

- ‌(682) باب ذكر كذاب ثقيف

- ‌(683) باب فضل فارس

- ‌(684) باب بيان قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة

- ‌كتاب البر والصلة والآداب

- ‌(685) باب بر الوالدين

- ‌(686) باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة، وغيرها، وفضل بر الوالدين

- ‌(687) باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما

- ‌(688) باب تفسير البر والإثم

الفصل: ‌(633) باب من فضائل عمر رضي الله عنه

(633) باب من فضائل عمر رضي الله عنه

5388 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه. قبل أن يرفع، وأنا فيهم. قال فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي. فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك. وايم الله! إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك. وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر. ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو، أو لأظن أن يجعلك الله معهما.

5389 -

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص. منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" قالوا: ماذا أولت ذلك؟ يا رسول الله! قال: "الدين".

5390 -

عن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولت ذلك؟ يا رسول الله! قال: "العلم".

5391 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو

ص: 296

ذنوبين وفي نزعه والله يغفر له ضعف. ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن".

5392 -

وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ابن أبي قحافة ينزع" بنحو حديث الزهري.

5393 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس. فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني. فنزع دلوين. وفي نزعه ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر".

5394 -

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أريت كأني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين. فنزع نزعا ضعيفا والله تبارك وتعالى يغفر له. ثم جاء عمر فاستقى فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه. حتى روي الناس وضربوا العطن".

5395 -

عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فرأيت فيها دارا أو قصرا فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك" فبكى عمر وقال: أي رسول الله! أوعليك يغار؟

5396 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا نائم إذ رأيتني

ص: 297

في الجنة فإذا امرأة توضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرة عمر. فوليت مدبرا" قال أبو هريرة: فبكى عمر ونحن جميعا في ذلك المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال عمر. بأبي أنت: يا رسول الله! أعليك أغار؟ .

5397 -

عن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن أباه سعدا قال: "استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه. عالية أصواتهن. فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي؟ فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" قال عمر: فأنت يا رسول الله! أحق أن يهبن. ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم. أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك".

5398 -

وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة قد رفعن أصواتهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استأذن عمر ابتدرن الحجاب. فذكر نحو حديث الزهري.

5399 -

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون.

5400 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر.

ص: 298

5401 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله ابن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله ابن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه. فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه. فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة/ 80] وسأزيد على سبعين" قال: إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84].

5402 -

وفي رواية عن عبيد الله بهذا الإسناد في معنى حديث أبي أسامة وزاد: قال: فترك الصلاة عليهم.

-[المعنى العام]-

عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، مناقبه كثيرة وفضائله جمة فهو مؤسس دولة الإسلام كدولة ذات أجهزة إدارية وفنية.

وتعداد المناقب لا يستلزم الحصر ولا يستلزم أن المذكور أفضلها فقد تثيرك الفضيلة الكبرى اعتمادا على شهرتها ولقد كان له فضل حسم موضوع الخلافة لأبي بكر رضي الله عنهما يوم أن مد يده إليه في سقيفة بني ساعدة وقال له: امدد يدك نبايعك بالخلافة فتتابع الصحابة يبايعون، وكان من أزهد زهاد الدنيا في خلافته وأعدل الخلفاء والحكام على الإطلاق.

إن ذكر بعض فضائله في كتب الحديث كشاهد على غيرها وكمصباح ينير جوانب الحياة ومن يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج شهيدا آخر فكيف إذا كانت الشهادة عن قرب وعن طول صحبة لقد كان عمر من السابقين إلى الإسلام كان إسلامه مكملا الأربعين من المسلمين ولم يكن إسلامه إسلام فرد بل كان إسلام أمة كان الإسلام يتمناه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يدعو ربه: اللهم أعز الإسلام بعمر وأعز الله به الإسلام حقا لقد كان المسلمون قبل إسلام عمر يعبدون الله خفية ويسلم المسلم منهم سرا عن صناديد قريش فلما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أنحن على الحق أم على الباطل؟ قال: نحن على الحق. قال: فعلام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ والذي بعثك بالحق. لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه معلنا الإيمان وخرج بالصحابة المسلمين صفين من دار أخته إلى المسجد الحرام، والكفار ينظرون لا يجرءون على الاعتراض ومن هنا لقب الفاروق لأنه بإسلامه فرق بين الإسرار بالدعوة والإيمان وبين الجهر بهما.

ص: 299

ولقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا وأثنى عليه كثيرا، وكان من استمرار صحبته له يقول: ذهبت إلى كذا أنا وأبو بكر وعمر ودخلنا كذا أنا وأبو بكر وعمر ورجعنا من كذا أنا وأبو بكر وعمر وآمنت بكذا أنا وأبو بكر وعمر حتى استقر في نفوس الصحابة اتصالا فريدا بين الثلاثة يوحي بصحبتهم بعد الموت وقد كان حيث دفنوا في مقابر ثلاث في حجرة واحدة.

كما أشار صلى الله عليه وسلم إلى علم عمر وإيمان عمر وغيرة عمر بما رآه في منامه صلى الله عليه وسلم وموافقات عمر لأحكام شرعية قبل تشريعها كثيرة منها قول عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو اتخذنا مقام إبراهيم مصلى فنزل قوله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125] وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك حيث يدخل عليك البر والفاجر فنزلت آية حجاب أمهات المؤمنين وحاول منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق لكن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه فنزل قوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} [التوبة: 84].

وهكذا كان عمر رضي الله عنه ينطق بالحق وهكذا جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه رضي الله عنه وأرضاه ورضي عن الصحابة أجمعين.

-[المباحث العربية]-

(وضع عمر بن الخطاب على سريره) أي على نعشه لما مات وعمر بن الخطاب بن نفيل بضم النون مصغرا ابن عبد العزى بن رياح - بكسر الراء وبالياء ابن عبد الله بن قرط بن رزاح - بفتح الراء، ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد بخلاف أبي بكر فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة كنيته أبو حفص كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت حفصة أكبر أولاده ولقبه الفاروق، قيل: لقبه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: أهل الكتاب، وقيل: جبريل.

(فتكنفه الناس) أي أحاطوا به، وأصله جعلوه في كنفهم، وكنف الإنسان جانبه، وكنفا الرجل حضناه وكنفا الطائر جناحاه والمراد من الناس بعض الصحابة وكبارهم.

(يدعون، ويثنون، ويصلون عليه) أي يدعون له بخير، ويثنون عليه ثناء جميلا، ويصلون عليه أي يدعون له بلفظ الصلاة والصلاة من الله الرحمة.

(قبل أن يرفع) في نعشه إلى قبره.

(وأنا فيهم) من كلام ابن عباس، أي وأنا محيط به معهم.

(فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي) أي لم يفزعني إلا رجل فالباء زائدة وفي رواية البخاري "فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي" أي واضع يده على كتفي، والمراد أنه رآه بغتة، وهو منشغل بالمنظر، ففزع.

ص: 300

قال النووي: "يرعني" بفتح الياء وضم الراء، ومعناه لم يفجأني إلا ذلك، قال "برجل" هكذا هو في جميع النسخ، بالباء، أي لم يفجأني الأمر في الحال إلا برجل اهـ.

وجملة "قد أخذ بمنكبي" صفة "رجل"

(فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر) أي دعا له بالرحمة وفي رواية للبخاري "فقال: يرحمك الله".

(وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك)"ما خلفت" بفتح الخاء وتشديد اللام المفتوحة والتاء للخطاب والمعنى لا أحد أحب أن ألقى الله بمثل عمله إلا أنت، أي أتمنى أن ألقى الله بمثل عملك.

(وأيم الله)"أيم" اسم، خبر لمبتدأ محذوف أي يمين الله قسمي وجوز بعضهم جره بحرف القسم.

(إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وفي آخر رواية "فإن كنت لأرجو - أو لأظن - أن يجعلك الله معهما" وإعادة الجملة السابقة للتأكيد، و"إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي إن الحال والشأن أنني كنت أظن وأعتقد أن الله سيجعلك في صحبة صاحبيك في الجنة وفي الفضل، بل وفي مكان الدفن، فقد استأذن - قبل أن يموت - عائشة في أن يدفن في بيتها مع صاحبيه فأذنت له.

ثم علل هذا الظن أنه فهمه من كثرة الملازمة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر وعمر

(بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص) بضم القاف والميم، جمع قميص، والرؤيا رؤيا منام "ويعرضون" بضم الياء من العرض يوم القيامة، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، أي على كل واحد قميص.

(منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك)"الثدي" بضم الثاء وكسر الدال وتشديد الياء، ومن المعروف أن القميص يلبس على الصدر إلى الركبة غالبا، فكونه إلى الثدي كناية عن القصر والصغر، وكونه دون ذلك أي أعلى من الثدي أو تحت الثدي كناية عن القصر أيضا.

(ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره) أي يلبسه، فيسبغ جسمه كله، حتى يجره على الأرض لطوله.

(قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ ) جاء في بعض الروايات أن السائل عن ذلك أبو بكر

(قال: الدين) قال أهل تعبير المنام: القميص في المنام معناه الدين، وجره يدل على بقاء آثاره الجميلة، وسنته الحسنة في المسلمين بعد وفاته، ليقتدي به.

(بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا، أتيت به، فيه لبن فشربت منه) أي من القدح أو من اللبن.

ص: 301

(حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري)"إني" يجوز فتح الهمزة وكسرها، ورؤية الري على سبيل الاستعارة، كأنه لما جعل الري جسما أضاف إليه ما هو من خواص الجسم، وهو كونه مرئيا، وكان الأصل أن يقول: حتى رأيت الري بالفعل الماضي لكنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة والرؤية بصرية والري بكسر الراء، ويجوز فتحها.

(ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب) في رواية البخاري "ثم ناولت عمر" وفي رواية "ثم ناولت فضلي" والفضل والفضيلة ما فضل.

(قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم)"العلم" بالنصب، أي أولته العلم، وبالرفع، أي المؤول به هو العلم، وفي رواية "فقالوا: هذا العلم الذي آتاكه الله، حتى إذا امتلأت فضلت منه فضلة، فأخذها عمر، قال: أصبتم" فإن صحت هذه الرواية احتمل أن يكون بعضهم أول، وبعضهم سأل، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونها سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي.

(بينما أنا نائم رأيتني على قليب)"القليب" البئر غير المطوية، أي غير المبينة، وغير السقوفة.

(عليها دلو)"الدلو" يذكر ويؤنث، وفي الرواية الخامسة "أريت أني أنزع على حوضي، أسقي الناس" وفي الرواية السادسة "أريت كأني أنزع بدلو بكرة على قليب""بكرة" بفتح الباء وسكون الكاف على المشهور، وحكى بعضهم تثليث أوله والمراد الخشبة المستديرة التي يعلق فيها الدلو، فتلف به، قيل: ويجوز إسكان الكاف على أن المراد بها الأنثى الشابة من الإبل نسبت الدلو إليها، لأنها التي يستقى بها.

(فنزعت منها ما شاء الله) استقيت بالدلو، وأخرجت من البئر ماء، ما شاء الله في كثرته.

(ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين)"الذنوب" بفتح الذال الدلو المملوءة.

(وفي نزعه - والله يغفر له - ضعف) بسكون العين، مع فتح الضاد وضمها، لغتان مشهورتان.

وفي الرواية الخامسة "فجاءني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليروحني" بضم الياء وفتح الراء وتشديد الواو المكسورة أي ليريحني من النصب والتعب "فنزع دلوين، وفي نزعه ضعف" وفي الرواية السادسة "فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين فنزع نزعا ضعيفا"

(ثم استحالت غربا)"الغرب" بفتح الغين وسكون الراء، الدلو الكبيرة العظيمة، أي ثم تحولت الدلو الصغيرة إلى كبيرة.

(فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس، ينزع نزع عمر بن الخطاب)"العبقري" بكسر الراء وتشديد الياء، قيل: السيد، وقيل: الذي ليس فوقه شيء، وقيل: النافذ الماضي الذي لا شيء يفوقه، قال أبو عمر: عبقري القوم سيدهم وقيمهم وكبيرهم، والمعنى: فلم أر عظيما من

ص: 302

عظماء الرجال يسقي بدلو ويخرج ماء من البئر، مثل عمر، وفي الرواية السادسة ورواية البخاري "فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه""يفري" بفتح الياء وكسر الراء بينهما فاء ساكنة، و"فريه" قال النووي: روي بوجهين، أحدهما بإسكان الراء وتخفيف الياء، والثانية كسر الراء وتشديد الياء، وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد، وقال: هو غلط، واتفقوا على أن معناه: لم أر سيدا يعمل عمله، ويقطع قطعه، وأصل الفري بالإسكان القطع يقال: فريت الشيء أفريه فريا قطعته للإصلاح فهو مفري وفري وأفريته إذا شققته على جهة الإفساد. اهـ.

وفي الرواية الخامسة "فلم أر نزع رجل قط أقوى منه".

(حتى ضرب الناس بعطن) بفتح العين والطاء، وهو الموضع الذي تساق إليه الإبل بعد السقي لتسريح، والمعنى: حتى سقى الناس إبلهم وذهبوا بها إلى مباركها وزووها، وفي الرواية الخامسة "حتى تولى الناس" أي حتى انصرفوا بإبلهم "والحوض ملآن، يتفجر" وكانوا يخرجون الماء من البئر ويصبونه في حوض على حافته، لتشرب الإبل من الحوض، والمراد من تفجر الحوض سيلان الماء من حافته بعد امتلائه.

يقال: ضرب الرجل في الأرض إذا ذهب وأبعد، وضرب الشيء عليه ألزمه إياه، وضرب الشيء بالشيء خلطه به، وفي الرواية السادسة "حتى روي الناس وضربوا العطن" قال النووي قال القاضي: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة، وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعا، لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر، وضرب الناس بعطن لأن أبا بكر قمع أهل الردة، وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك، وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

(دخلت الجنة، فرأيت فيها دارا أو قصرا، فقلت: لمن هذا؟ ) القصر وفي الرواية الثامنة "بينا أنا نائم، إذ رأيتني في الجنة فإذا امرأة توضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا"؟ وفي رواية للبخاري "ورأيت قصرا، بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ " وفي رواية "لمن هذا القصر"؟ وفي رواية للبخاري "فإذا أنا بالرميضاء امرأة أبي طلحة" وهي أم سليم، والرميضاء صفة لها، لرمض كان بعينها، وقيل: هو اسم أختها، أم حرام، وقيل: اسم أخت أم سليم من الرضاعة، وجوز ابن التين أن يكون المراد امرأة أخرى لأبي طلحة وفي رواية للبخاري "وسمعت خشفة" بفتح الخاء والشين والفاء، أي حركة أو صوتا خفيفا "فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال" قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن المخاطب بقوله "لمن هذا؟ " جبريل أو غيره من الملائكة.

وقوله "تتوضأ" يحتمل أن يكون على ظاهره، ولا ينكر كونها تتوضأ حقيقة، لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها، فذاك في زمن الاستقرار، بل ظاهر قوله "تتوضأ إلى جانب قصر" أنها تتوضأ خارجة منه، أو هو على غير الحقيقة، ورؤيا المنام لا تحمل دائما على الحقيقة، بل تحتمل التأويل، فيكون معنى قوله "تتوضأ" أنها تحافظ في الدنيا على العبادة أو المراد بقوله "تتوضأ" أي تستعمل الماء، لأجل الوضاءة، على مدلوله اللغوي قال الحافظ ابن حجر: وزعم ابن قتيبة والخطابي أن قوله "تتوضأ" تصحيف وتغيير من الناسخ وإنما الصواب "امرأة شوهاء"

ص: 303

ولم يستند في هذه الدعوى إلا إلى استبعاد أن يقع في الجنة وضوء، لأنه لا عمل فيها وعدم الاطلاع على المراد من الخبر لا يقتضي تغليط الحفاظ، ثم فسر الخطابي "شوهاء" بمعنى حسناء، والكلمة تستعمل في النقيضين.

(فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل، فذكرت غيرتك) والخطاب لعمر فقد كان حاضرا قص الرؤيا، وفي الرواية الثامنة "فذكرت غيرة عمر، فوليت مدبرا" وفي رواية للبخاري "فأردت أن أدخله فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك"

(فبكى عمر، وقال: أي رسول الله، أوعليك أغار؟ )"أي" حرف نداء، و"أو" بفتح الواو حرف عطف، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والعطف على محذوف، أي أأشك فيك وأغار منك؟ لا يحصل شيء من ذلك، أي لا أشك فيك ولا أغار منك، فأنت عندي ثقة مأمون. وأصل التعبير: أعليها أغار منك فحصل قلب وفي الرواية الثامنة "قال أبو هريرة: فبكى عمر، ونحن جميعا في ذلك المجلس، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال عمر: بأبي أنت يا رسول الله! أعليك أغار"؟ قال ابن بطال: وبكاء عمر يحتمل أن يكون سرورا ويحتمل أن يكون تشوقا أو خشوعا وزاد في رواية "قال عمر: وهل رفعني الله إلا بك؟ وهل هداني الله إلا بك"؟

(استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش، يكلمنه، ويستكثرنه، عالية أصواتهن) قال الحافظ ابن حجر: هن من أزواجه ويحتمل أن يكون معهن من غيرهن، لكن قرينة قوله "يستكثرنه" أي يطلبن منه أكثر مما يعطيهن، يؤيد أنهن من أزواجه صلى الله عليه وسلم، وزعم الداودي أن المراد أنهن يكثرن الكلام عنده، وهو مردود بما وقع التصريح به "أنهن يطلبن النفقة" كذا قال الحافظ ابن حجر، قلت: ومراد الداودي يكثرن الكلام في طلب زيادة النفقة، فقوله ليس مردودا، بدليل قوله "عالية أصواتهن" زاد البخاري "على صوته" و"عالية" يجوز فيه الرفع على الصفة، والنصب على الحال "وأصواتهن" بالرفع فاعل "عالية".

(فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب) يقال: ابتدر فلانا بكذا عاجله به، وابتدر القوم الشيء تسارعوا إليه، والظاهر أن المراد من القيام البدء والإنشاء، لكن قوله "عجبت من هؤلاء اللائي كن عندي" يشعر أنهن قمن من مجلسهن، لحجب شخوصهن، لكن خطاب عمر لهن بعد، يوحي بأنهن رجعن إلى جلستهن.

(أضحك الله سنك) قال الحافظ ابن حجر: لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازمه، وهو السرور، أو نفي ضد لازمه، وهو الحزن.

(قال عمر: فأنت يا رسول الله، أحق أن يهبن) أي أنت أحق مني بالهيبة والاحترام والتوقير.

(ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن)"أي" بسكون الياء، حرف نداء، ووصفهن بهذا الوصف لأن الذي يفعل الخطأ عدو نفسه، فهو يوقعها في الضرر.

ص: 304

(أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ) الاستفهام إنكاري توبيخي أي ما كان ينبغي لكن أن تفعلن ذلك والإنكار ليس لابتدارهن الحجاب، وإنما لرفع الصوت والمطالبة والإلحاح.

(أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي: الفظ والغليظ بمعنى، وهو عبارة عن شدة الخلق وخشونة الجانب، قال العلماء: وليست لفظة "أفعل" هنا للمفاضلة، بل هي بمعنى "فظ" و"غليظ" أي فليست الصيغة هنا على أصلها، الذي هو مشاركة اثنين في صفة وزيادة أحدهما عن الآخر في هذه الصفة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه أصل هذه الصفة، لقوله تعالى {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] فهذه الصيغة هنا من قبيل قوله تعالى {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} [الفرقان: 24]- قال القاضي: وقد يصح حملها على المفاضلة، وأن القدر الذي منها في الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما كان من إغلاظه على الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 73] وكان يغضب ويغلظ عند انتهاك حرمات الله. اهـ.

وقوله تعالى {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} نفي تلك الصفة كصفة لازمة، فلا ينافي مجرد وجودها في بعض الأحوال، فكان صلى الله عليه وسلم يغضب للحق أحيانا، ولا يواجه بالعتاب أو المؤاخذة أحيانا، أما عمر فكان يواجه بالمؤاخذة، ويبالغ في الزجر، حتى كان يضرب بالعصا.

(والذي نفسي بيده. ما لقيك الشيطان قط، سالكا فجا، إلا سلك فجا غير فجك) الفج الطريق الواسعة قال النووي: هذا محمول على ظاهره، وأن الشيطان يهرب إذا رآه، وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل، وأن عمر فارق سبيل الشيطان، وسلك طريق السداد، فخالف كل ما يحبه الشيطان. قال النووي: والصحيح الأول.

(قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون) قال العلماء: اختلف في المراد من "محدثون" بفتح الدال المشددة، اسم مفعول، أي يحدثهم الله، أو الملائكة، فقيل: ملهمون، قاله الأكثرون، قالوا: المحدث هو الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيره به وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلمون - بفتح اللام المشددة، تتكلم الملائكة على لسانهم وهو قريب من المعنى الأول، فهم مكلمون، لا يرون مكلما في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام وفسره ابن التين بالتفرس وفي مسند الحميدي: المحدث الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه، وقيل: المصيب بغير نبوة وقيل: مفهمون، بفتح الهاء المشددة فعند أحمد والترمذي "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه".

(فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم) في رواية للبخاري "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون - بفتح الياء، أي يتكلمون - من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر".

وكان الظاهر أن يقول: إن عمر منهم، بدون شك أو ترديد أو تعليق، لأن أمته صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم، فإمكان وجوده فيهم أولى، وإنما أورده بهذا المورد

ص: 305

للتأكيد، كما يقول الرجل: إن يكن لي صديق فإنه فلان يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء قال الحافظ ابن حجر: وهذا وإن جاز أن يقع، لكنه نادر ممن يكون أمره منهم مبينا على اتباع الكتاب والسنة قال: وتمحضت الحكمة في وجودهم وكثرتهم بعد العصر الأول، في زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها، لكون نبيها خاتم الأنبياء، عوضوا بكثرة الملهمين. اهـ. وهكذا ينحو الحافظ نحو الأولياء والكرامات والإلهامات، ولسنا معه في هذا النحو، بل نحن مع الطيبي إذ يقول: المراد بالمحدث الملهم، البالغ في ذلك مبلغ النبي في الصدق والمعنى لقد كان فيمن قبلكم من الأمم أنبياء ملهمون، فإن يكن في أمتي أحد هذا شأنه فهو عمر، فكأنه حكم بانقطاع قرينه في ذلك، ويؤيده حديث "لو كان بعدي نبي لكان عمر" فلو فيه بمنزلة "إن" أي على سبيل الفرض والتقدير وقد أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم والطبراني في الأوسط.

والسبب في تخصيص عمر بذلك كثرة ما وقع له زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقا لها، ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات.

(وافقت ربي في ثلاث) وقائع، قال الحافظ ابن حجر: والمعنى: وافقني ربي، فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار بذلك إلى حدوث رأيه وقدم الحكم، قال: وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها، لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، من مشهورها قصة أسارى بدر، وقصة الصلاة على المنافقين، قال: وأكثر ما وقفنا عليه منها بالتعيين خمس عشرة. اهـ.

(في مقام إبراهيم) بدل من "ثلاث" أي في طلب الصلاة في مقام إبراهيم، ومقام إبراهيم معروف الآن في المسجد الحرام، مواجه لباب الكعبة، على مسافة سبعة وعشرين ذراعا وقد أحيط بمقصورة من الزجاج، وعن أصله قيل: إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع به بناء الكعبة، فأثرت فيه أصابع إبراهيم وعلمت وغاصت، ولكن الناس تماسحوا فيه حتى انمحى الأثر أو كاد، قيل: وكان المقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ملتصقا بالكعبة، ثم أخره عمر إلى مكانه الآن، لما رأى أن بقاءه يضيق على الطائفين، أو على المصلى، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، قالوا: وتهيأ له ذلك، لأنه الذي كان قد أشار باتخاذه مصلى، وأول من عمل عليه المقصورة. و"المقام" مفعل من القيام، يراد به المكان، أي مكان قيامه، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من "مقام إبراهيم" في الآية الحرم كله، وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المراد به مواقف الحج كلها، وذهب الشعبي إلى أن المراد به عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى اتخاذها مصلى على هذه الآراء أن يدعى فيها، ويتقرب إلى الله تعالى عندها. والصواب الذي عليه الجمهور هو القول الأول.

وموافقة عمر رضي الله عنه في مقام إبراهيم أخرج صورتها أبو نعيم من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر، فقال: يا عمر، هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: أفلا تتخذه مصلى؟ فقال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} والأمر فيها للاستحباب، وقيل: الأمر بصلاة ركعتي الطواف عنده، لما أخرجه مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من

ص: 306

طوافه عمد إلى مقام إبراهيم، فصلى خلفه ركعتين وقرأ الآية {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: 125] والأمر للوجوب على بعض الأقوال.

(وفي الحجاب) أي حجاب أمهات المؤمنين، وقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:"قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله تعالى آية الحجاب {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما} [الأحزاب: 53]- وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن، وما ذاك إلا حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وعن عائشة "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل، إذا برزن إلى المناصع، وكان عمر رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة رضي الله عنها، ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر رضي الله عنه بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله تعالى الحجاب" وذلك إحدى موافقات عمر رضي الله عنه وأخرج نحوه مسلم وابن جرير.

وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل معهما بعض أصحابه، فأصابت يد رجل يدها، فكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال عمر: وكان الذي أصابت إصبعه إصبعها: أوه، لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، ونزل الحجاب، قال العلماء ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول، وعمر رضي الله عنه في جميعها سبب للنزول.

(وفي أسارى بدر) أسر المسلمون من كفار قريش يوم بدر سبعين رجلا، وقد روى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال:"جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خير أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلا مثلهم. قالوا: الفداء، ويقتل منا" وأخرج مسلم هذه القصة مطولة من حديث عمر، ذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: أرى أن تأخذ منهم فدية تكون قوة لنا، وعسى الله أن يهديهم، فقال عمر: أرى أن تمكنا منهم، فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر" فنزل قوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم* لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال: 67 - 68] فنزل القرآن برأي عمر.

ومن موافقات عمر رضي الله عنه أنه دخل على أمهات المؤمنين، حين تحزبن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذرهن العواقب، وقال لهن:"عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت الآية على وفق ما قال. ومن موافقاته أيضا تحريم الخمر.

ومن أبرز موافقاته رضي الله عنه محاولة منع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على المنافقين، وستأتي القصة في روايتنا الثانية عشرة.

ص: 307

(لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول)"أبي" بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء، قال النووي: هكذا صوابه، ويكتب "ابن سلول" بالألف، ويعرب بإعراب "عبد الله" فإنه وصف ثان له لأنه عبد الله بن أبي وهو عبد الله ابن سلول أيضا، فأبي أبوه، "وسلول" أمه فنسب إلى أبويه جميعا، ووصف بهما، وكانت وفاته - كما ذكر الواقدي - بعد منصرفهم من تبوك، في ذي القعدة سنة تسع، وكان قد تخلف هو ومن تبعه عن غزوة تبوك وفيهم نزل قوله تعالى {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} [التوبة: 47].

(جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عبد الله بن عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد يوم اليمامة، في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله فقال له:"بل أحسن صحبته" ولما بلغه قول أبيه "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" يعني ابن أبي بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عبد الله هذا على باب المدينة بسيفه، يمنع أباه من دخولها حتى يقول: إنه الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز فقالها.

(فسأله أن يعطيه قميصه، أن يكفن فيه أباه، فأعطاه) في رواية البخاري "أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه" وعند الطبري "لما احتضر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! إن أبي قد احتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه" وقد ورد أن عبد الله هذا فعل ذلك بعهد وطلب من أبيه، كما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليه ليشهده، فلما دخل عليه قال له: أهلكك حب يهود، فقال: يا رسول الله! إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه، فأجابه" وعند الطبراني "لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول فامنن علي، فكفني في قميصك، وصل علي، ففعل" ولم يكن ابن أبي مؤمنا، بل منافقا كافرا من أهل النار، لكنه - كما يقول الحافظ ابن حجر: أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت إجابته إلى سؤاله، بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك.

(فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله تعالى، فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] وسأزيد على سبعين. قال: إنه منافق) وعند البخاري عن عمر رضي الله عنه قال "لما مات عبد الله بن أبي دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله! أتصلي على ابن أبي وقد قال كذا يوم كذا وكذا وكذا؟ قال: أعدد عليه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه، قال: إني خيرت فاخترت ولو أني أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها".

والإشكال هنا قول عمر "وقد نهاك الله أن تصلي عليه" ولم تكن آية {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} لم تكن نزلت، فمن أين لعمر هذا القول؟ وعلام استند؟ لقد أقدم بعض المحدثين فرد هذه

ص: 308

الرواية وقال إنها وهم من بعض الرواة لكن القرطبي قال: لعل ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله تعالى {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} [التوبة: 113] ويؤيده رواية أخرى للبخاري، وفيها "تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" وعند ابن مردويه "فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال: قال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فكأن عمر رضي الله عنه فهم من الآية المذكورة أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية، أي إن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار لهم سواء وفهم عمر أيضا من قوله {سبعين مرة} أنها للمبالغة وأن العدد المذكور لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم، ولو كثر الاستغفار فيحصل من ذلك أن الاستغفار لهم عبث نهي عنه، وفهم أيضا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت الاستغفار له، والشفاعه له، فالنهي عن الاستغفار له يستلزم النهي عن الصلاة.

(فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} فترك الصلاة عليهم) وعند الواقدي "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف" وفي رواية أن عمر رضي الله عنه ترك رأيه وصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

-[فقه الحديث]-

وفاة عمر

قصة وفاة عمر رضي الله عنه أخرجها البخاري تحت باب: قصة البيعة والاتفاق على عثمان رضي الله عنه، قال البخاري: وفيه مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجها عن عمرو بن ميمون قال:"إني لقائم ما بيني وبينه - يقصد عمر - إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب" - كان ذلك بعد عودته من الحج، سنة ثلاث وعشرين - "وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني - أو أكلني - الكلب، حين طعنه، فطار العلج - بكسر العين وسكون اللام، الحمار "بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد، يمينا ولا شمالا، إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه" وعند ابن سعد بإسناد صحيح إلى الزهري قال: كان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم، في دخول المدينة، حتى كتب المغيرة بن شعبة - وهو على الكوفة - يذكر غلاما عنده صانعا ويستأذنه أن يدخله المدينة ويقول: إن عنده أعمالا تنفع الناس إنه حداد نقاش نجار، فأذن له، فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة فشكى إلى عمر شدة الخراج، فقال له: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل فانصرف ساخطا، فلبث عمر ليالي فمر به العبد فقال: ألم أحدث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح؟ فالتفت إليه عابسا فقال: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه وسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس" في الفجر وقبله "حتى خرج عمر يوقظ الناس: الصلاة. الصلاة.

وكان عمر يفعل ذلك فلما

ص: 309

دنا منه عمر وثب إليه، فطعنه ثلاث طعنات [رواية البخاري "أن الطعن كان بعد أن كبر" أصح من رواية ابن سعد التي فيها "أن القتل كان وهو يسوي الصفوف"] إحداهن تحت السرة، وهي التي قتلته، وفي رواية "كان أبو لؤلؤة عبدا للمغيرة، وكان يستغله أربعة دراهم - أي كل يوم - فلقي عمر، فقال: إن المغيرة أثقل علي، فقال: اتق الله، وأحسن إليه، ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه، فيخفف عنه، فقال العبد: وسع الناس عدله غيري؟ وأضمر على قتله، فاصطنع له خنجرا، له رأسان، وسمه، فتحرى صلاة الغداة، حتى قام عمر، فقال: أقيموا صفوفكم، فلما كبر طعنه، فسقط" وعند مسلم "أن عمر خطب فقال: رأيت ديكا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي" زاد في رواية "فما مر إلا تلك الجمعة، حتى طعن" وفي رواية "طعن أبو لؤلؤة نفرا، فأخذ أبا لؤلؤة رهط من قريش، منهم عبد الله بن عوف فطرح عليه خميصة كانت عليه" وعند ابن سعد "أن عبد الله بن عوف أحتز رأس أبي لؤلؤة، بعد أن نحر نفسه".

ونعود إلى عمر في حديث البخاري "وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه، قال عمرو بن ميمونة فمن كان يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما من في نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله. فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة" في رواية "بأقصر سورتين في القرآن: إنا أعطيناك الكوثر، وإذا جاء نصر الله والفتح" وزاد في رواية "ثم غلب عمر النزف حتى غشي عليه، فاحتملته في رهط حتى أدخلته بيته، فلم يزل في غشيته حتى أسفر" أي بدأ ضوء الصبح، فنظر في وجوهنا، فقال: أصلى الناس؟ فقلت: نعم. قال: لا إسلام لمن ترك الصلاة، ثم توضأ وصلى" وفي رواية ابن سعد "فتوضأ وصلى الصبح فقرأ في الأولى: والعصر وفي الثانية قل يا أيها الكافرون قال: وتساند إلي وجرحه يثغب دما، إني لأضع إصبعي الوسطى فما تسد الفتق".

في رواية البخاري: لما انتهى عبد الرحمن بن عوف من الصلاة، وقبل أن يغمى على عمر "قال يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة - أي وقتا قصيرا - ثم جاء، فقال: غلام المغيرة قال: الصنع؟ - أي الصنايعي؟ - قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام" وفي رواية "الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط" وفي رواية "يحاجني بلا إله إلا الله" وفي رواية "لا تعجلوا على الذي قتلني. فقيل: إنه قتل نفسه، فاسترجع عمر، فقيل له: إنه أبو لؤلؤة، فقال: الله أكبر" ثم قال لابن عباس: "قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة". وفي رواية "فقال عمر: هذا من عمل أصحابك كنت أريد أن لا يدخلها علج من السبي، فغلبتموني" وفي رواية "قال عمر: من أصابني؟ قالوا: أبو لؤلؤة، واسمه فيروز، قال: قد نهيتكم أن تجلبوا عليها من علوجهم أحدا، فعصيتموني" قيل: وكان العباس قد قال لعمر: إن عمل المدينة شديد لا يستقيم إلا بالعلوج، وكان العباس من أكثر الصحابة استخداما لهم، فقال عبد الله بن عباس: إن شئت فعلت؟ أي قتلت علوجنا - قال: كذبت. بعد ما تكلموا بلسانكم؟ وصلوا قبلتكم؟ وحجوا حجكم؟ "وكان عمر رضي الله عنه يخشى أن يكون وراء القاتل محرضون، وأن يكون قد ظلم في حكمه جماعة دون قصد فخططوا لهذا العمل، فقال لابن عباس - وكان يحبه ويدنيه - يا عبد الله بن عباس. اخرج فناد في الناس: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فقالوا: معاذ الله. ما

ص: 310

علمنا ولا اطلعنا، وفي رواية "فقال عمر لابن عباس. أحب أن تعلم. عن ملأ من الناس كان هذا؟ فخرج، لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون فكأنما فقدوا بكار أولادهم فأخبر عمر بذلك قال: فرأيت البشر في وجه.

-[(وقفة عند هذا الحديث)]-

من الصعب أن نقنع أنفسنا بأن دافع قتل عمر هو عدم إنصافه لهذا العبد من وجهة نظره، إذ كان الأولى بأن يقتل سيده، الظالم له حسب فهمه وكانت هناك وسائل أخرى يسلكها العبد لرفع هذا الظلم غير القتل، وأقلها رفض هذا التكسب والاكتفاء بالخدمة والعبودية كشأن الآلاف ولكننا نعتقد أن هناك ثأرا سابقا، من غزو المسلمين لبلاده، وقتلهم أباه أو عمه أو أخاه، أو أحب الناس إليه، وهو وأمثاله لم يسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم حتى يغسل أضغانهم فكان الحذر منهم واجبا، كما أشار عمر، ولكن لا يغني حذر من قدر ففي رواية ابن سعد "فلما طعن قال: وكان أمر الله قدرا مقدورا". ونعود إلى رواية البخاري وعمر الجريح في بيته "وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ" يتوافدون عليه، ويحيطون به، ويدعون له، ويثنون عليه، وجاءوا له بالطبيب، فأتي بنبيذ، فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي له بلبن، فشربه، فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت، "وقال الطبيب: اعهد يا أمير المؤمنين. فقال عمر: صدقني ولو قال غير ذلك لكذبته".

وكثر الثناء والدعاء والمواساة فمن قائل: لا بأس ومن قائل: نخاف عليك وعلى الإسلام ومن قائل يقول له: أبشر - يا أمير المؤمنين - ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال عمر: وددت أن ذلك كفاف، لا علي، ولا لي، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يرحمك الله يا عمر، ما تركت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثله منك، أي ليتني ألقى الله بمثل ما ستلقاه به، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بينك وبينه وبين أبي بكر في غالب المناسبات فيقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وفعلت كذا أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر، وها هي عائشة قد أذنت لك بأن تدفن مع صاحبيك وستكون معهما في الجنة إن شاء الله فهنيئا لك. وهنيئا لك.

قال عمر: "يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الدين، فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفا، أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر، فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال" وفي رواية "قال: يا عبد الله، أقسمت عليك بحق عمر إذا مت، فدفنتني أن لا تغسل رأسك، حتى تبيع من رباع آل عمر بثمانين ألفا، فتضعها في بيت مال المسلمين، فسأله عبد الرحمن بن عوف أي عن أسباب هذا الدين - فقال: أنفقتها في حجج حججتها، وفي نوائب كانت تنوبني" قال ابن التين: قد علم عمر أنه لا يلزمه غرامة ذلك، إلا أنه أراد أن لا يتعجل من عمله شيئا في الدنيا.

ثم قال عمر "يا عبد الله، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل لها: يقرأ عليك عمر السلام- ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا - وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب

ص: 311

السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني. فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين. أذنت. قال: الحمد لله. ما كان من شيء أهم إلي من ذلك "وخشي عمر أن تكون أذنت في حياته، حياء منه، وأن ترجع عن ذلك بعد موته، فأراد أن لا يكرهها على ذلك، فقال "فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر ابن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين".

قال عبد الله بن عمر: وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها، قال: فلما رأيناها قمنا، فدخلت عليه، فبكت عنده ساعة، ثم دخلت داخلا، ودخل الرجال، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين. استخلف. قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر - وليس له من الأمر شيء، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.

وقال: "أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم".

قال عبد الله بن عمر: "فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب قالت: أدخلوه، فأدخل، فوضع هناك مع صاحبيه".

قال الحافظ بن حجر: اختلف في صفة القبور المكرمة الثلاثة فالأكثر على أن قبر أبي بكر وراء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر وراء قبر أبي بكر، وقيل: إن قبره صلى الله عليه وسلم مقدم إلى القبلة، وقبر أبي بكر حذاء منكبيه، وقبر عمر حذاء أبي بكر، وقيل قبر أبي بكر عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر عند رجليه، وقيل: قبر أبي بكر عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر، وقيل غير ذلك.

-[إسلام عمر رضي الله عنه]-

أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "مازلنا أعزة منذ أسلم عمر" وذلك لما كان فيه من الجلد والقوة في أمر الله، وروى ابن أبي شيبة والطبراني، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان إسلام عمر عزا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى، أسلم عمر.

وفي ملابسات إسلامه رضي الله عنه أخرج الدارقطني، عن أنس رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة - فذكر قصة دخول عمر على أخته، وإنكاره إسلامها، وإسلام زوجها سعيد بن زيد،

ص: 312

وقراءته سورة طه، ورغبته في الإسلام - فخرج خباب فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: اللهم أعز الإسلام بعمر، أو بعمرو بن هشام.

زاد ابن شيبة في تاريخه "فقلت: يا رسول الله! ففيم الاختفاء؟ فخرجنا في صفين، أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، فنظرت قريش إلينا، فأصابتهم كآبة، لم يصبهم مثلها" وأخرجه البزار مطولا، وأخرج أبو خيثمة من حديث عمر نفسه رضي الله عنه قال:"لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة وثلاثون رجلا، فكملتهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز الإسلام" وروى البزار نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال فيه "فنزل جبريل، فقال:{يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64].

وأخرج الترمذي حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك. بأبي جهل أو عمر، قال: فكان أحبهما إليه عمر" وروى ابن سعد من حديث صهيب قال: "لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منا" وروى البزار والطبراني نحوه.

-[من فضائل عمر رضي الله عنه]-

وزاد البخاري عن أحاديث بابنا

1 -

حديث الذئب والشاة السابق في فضائل أبي بكر رضي الله عنه.

2 -

وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يواسي به عمر رضي الله عنه عند موته، ويخفف من جزعه، فيقول:"يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك" أي الموت "لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر، فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت صحابتهما فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك من من الله تعالى، من به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من من الله تعالى، جل ذكره، من به علي، وأما ما ترى من جزعي، فهو من أجلك وأجل أصحابك أي فيمن أستخلف عليهم، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا، لافتديت به من عذاب الله عز وجل، قبل أن أراه".

3 -

وحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا عثمان فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان".

4 -

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال "صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله، وقال: اثبت أحد، فما عليك إلا نبي، وصديق وشهيدان".

5 -

وحديث زيد بن أسلم عن أبيه أسلم، مولى عمر قال: سألني ابن عمر عن بعض شأنه - أي عن

ص: 313

بعض أخبار أبيه عمر - قال: فأخبرته، فقال - أي ابن عمر - ما رأيت أحدا قط - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض - كان أجد وأجود - حتى انتهى - من عمر بن الخطاب".

-[ويؤخذ من أحاديث الباب، بعد ما تقدم]-

1 -

من الرواية الأولى تقدير علي رضي الله عنه لعمر ورضاؤه عنه، ودعاؤه له، خلافا لما يزعمه الرافضة من الطعن فيه.

2 -

ومن الرواية الثانية فضيلة لعمر، وشدة أمره في الدين.

3 -

من طول قميصه أخذ بعضهم أن عمر أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما وتعقب باحتمال تخصيص أبي بكر من عموم قوله "رأيت الناس يعرضون" فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر، وكون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبغ، والاقتصار في ذاك الوقت كان لإرادة بيان فضيلة عمر، على أن الخصوصية لا تقتضي الأفضلية.

4 -

ومن الرواية الثالثة أن رؤيا اللبن في المنام خير، ويئول شربه بالعلم.

5 -

ومن الرواية الرابعة صدق منامه صلى الله عليه وسلم قال النووي: قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما، وحسن سيرتها، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بركته وآثار صحبته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجا وأنزل الله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين وشهرا، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم "ذنوبا أو ذنوبين" وهذا شك من الراوي، والمراد ذنوبان، كما صرح به في الرواية الأخرى، وحصل في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم، واتساع الإسلام، ثم توفي فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبر بالقليب عن أمر المسلمين لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم وشبه أميرهم بالمستقي لهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم، قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر "وفي نزعه ضعف" فليس فيه حط من فضيلة أبي بكر، ولا إثبات فضيلة لعمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها، ولاتساع الإسلام وبلاده، والأموال وغيرها، من الغنائم والفتوحات وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين.

قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "والله يغفر له" فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذنب، وإنما هي كلمة المسلمون يدعمون بها كلامهم، ونعمت الدعامة.

6 -

قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر، وصحة ولايتهما، وبيان صفتهما.

7 -

وفي قوله "فأخذ الدلو من يدي ليروحني" فيه إشارة إلى نيابة أبي بكر عنه، وخلافته بعده، وراحته صلى الله عليه وسلم بوفاته، كما قال صلى الله عليه وسلم "مستريح ومستراح منه" و"الدنيا سجن المؤمن" و"لا كرب على أبيك بعد اليوم".

ص: 314

8 -

ومن الرواية السابعة، واعتماد غيرة عمر الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه.

9 -

ومن علو أصوات الزوجات في الرواية التاسعة أن مثل هذا يغتفر بين الأزواج، ولا يدخل في قوله تعالى {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} [الحجرات: 2] وقال القاضي عياض: يحتمل أن هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن علو أصواتهن إنما كان باجتماعها، لا أن كلام كل واحدة بانفرادها أعلى من صوته صلى الله عليه وسلم.

10 -

وفي هذا الحديث فضل لين الجانب والحلم والرفق، ما لم يفوت مقصودا شرعيا، قال تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين} [الحجر: 88] وقال {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] وقال {بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128].

11 -

وفيه تغلب عمر رضي الله عنه على شيطانه، قال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره، وأن الشيطان متى رأى عمر سالكا فجا، هرب هيبة من عمر، وفارق ذلك الفج، وذهب في فج آخر، لشدة خوفه من بأس عمر، أن يفعل فيه شيئا، قال القاضي: ويحتمل أنه ضرب مثلا لبعد الشيطان وإغوائه منه، والصحيح الأول اهـ. ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له، إذ الأمر محمول على الغالب.

12 -

وفي الرواية العاشرة إثبات كرامات الأولياء قاله النووي.

13 -

وفي الرواية الحادية عشرة بعض موافقات عمر رضي الله عنه.

14 -

ومن الرواية الثانية عشرة كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على من تعلق بطرف من الدين.

15 -

تطييب قلب المسلم، فقد فعل صلى الله عليه وسلم ما فعل مع ابن أبي تطييبا لخاطر ابنه عبد الله، فإنه كان صحابيا جليلا، وقد سأل ذلك، فأجابه إليه، وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت، لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا.

16 -

وفيه عظيم مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء، وقابله بالحسنى. فألبسه قميصه كفنا وصلى عليه، واستغفر له. قال تعالى {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 5].

17 -

وفي الحديث والآية تحريم الصلاة على المنافقين والدعاء لهم بالمغفرة، والقيام على قبرهم بالدعاء.

18 -

وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي، لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته، وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة.

19 -

استدل بعضهم بالحديث على التأليف بالوسائل الممكنة، فقد أخرج الطبري "وما يغني عنه قميص عن الله؟ وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه".

20 -

وفيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيا وميتا، لقوله عمر: إن عبد الله منافق، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله.

ص: 315

21 -

وأن المنهي عنه من سب الأموات ما قصد به الشتم، لا التعريف.

22 -

وأن المنافق تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة.

23 -

وأن الإعلام بوفاة الميت مجردا لا يدخل في النعي المنهي عنه.

24 -

وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجي بركته شيئا من ماله، لضرورة دينه.

25 -

وفيه رعاية الحي المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي.

26 -

وفيه التكفين بالمخيط.

27 -

وجواز تأخير البيان عن وقت النزول، إلى وقت الحاجة.

28 -

وفيه العمل بالظاهر إذا كان النص محتملا.

29 -

وفيه جواز تنبيه المفضول للفاضل على ما يظن أنه سها عنه

30 -

وتنبيه الفاضل المفضول على ما يشكل عليه.

والله أعلم

ص: 316