الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(664) باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه
5571 -
عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد. فقال: "ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب. فخذوه منها" فانطلقنا تعادى بنا خيلنا. فإذا نحن بالمرأة. فقلنا أخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب. فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين، من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا حاطب! ما هذا؟ " قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأ ملصقا في قريش (قال سفيان: كان حليفا لهم ولم يكن من أنفسها) وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم. فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي. ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني. ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدق" فقال عمر. دعني يا رسول الله! أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدرا. وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة] وليس في حديث أبي بكر وزهير ذكر الآية. وجعلها إسحق في روايته، من تلاوة سفيان.
5572 -
وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام. وكلنا فارس. فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ. فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين" فذكر بمعنى حديث عبيد الله بن أبي رافع عن علي.
5573 -
عن جابر رضي الله عنه أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا. فقال: يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها. فإنه شهد بدرا والحديبية".
-[المعنى العام]-
حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي، حليف بني أسد بن عبد العزى، وقيل: كان عبدا لعبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد، فكاتبه، فأدى مكاتبته، وقيل: كان رجلا من أهل اليمن، شهد بدرا والحديبية، ومات سنة ثلاثين من الهجرة، وهو ابن خمس وستين سنة وصلى عليه عثمان رضي الله عنه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث حاطب بن أبي بلتعة في سنة ست من الهجرة إلى المقوقس، صاحب مصر والإسكندرية، فأتاه من عنده بهدية، منها مارية القبطية وسيرين أختها، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية لنفسه، فولدت له إبراهيم ابنه، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن.
وبعث أبو بكر الصديق حاطب بن أبي بلتعة أيضا إلى المقوقس بمصر، فصالحهم، فلم يزالوا كذلك حتى دخلها عمرو بن العاص، وقاتلهم، وافتتح مصر سنة إحدى وعشرين، في خلافة عمر بن الخطاب، روي عن حاطب بن أبي بلتعة أنه قال:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده ليالي، ثم بعث إلي، وقد جمع بطارقته، فقال: إني سأكلمك بكلام، أحب أن تفهمه مني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك. أليس هو نبي؟ قال: قلت: بلى. هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما له؟ حيث كان هكذا، لم يدع على قومه، حيث أخرجوه من بلدته إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم، أتشهد أنه رسول الله؟ قال: نعم. قال: فما باله؟ حيث أخذه قومه، فأرادوا صلبه، فما له لم يكن دعا عليهم بأن يهلكهم الله، حتى رفعه الله إليه في سماء الدنيا؟ قال: أحسنت. أنت حكيم، جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك من يبلغك إلى مأمنك".
رضي الله عنه وأرضاه.
-[المباحث العربية]-
(بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد) وفي ملحق الرواية عن علي رضي الله عنه "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام، وكلنا فارس" قال العلماء: لا منافاة، بل بعث الأربعة، عليا والزبير والمقداد وأبا مرثد، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، بل لم يذكر ابن إسحاق مع علي والزبير أحدا، وساق الخبر بالتثنية، قال:"فخرجا حتى أدركاها، فاستنزلاها" ويحتمل سبق اثنين من الأربعة إليها.
(فقال ائتوا روضة خاخ) قال النووي: هي بخاءين. هذا هو الصواب الذي قاله العلماء كافة في جميع الطوائف وفي جميع الروايات، والكتب، ووقع في البخاري من رواية أبي عوانة "حاج"
بالحاء والجيم، واتفق العلماء على أنه غلط، وإنما اشتبه على أبي عوانة بذات حاج، وهي موضع بين المدينة والشام، على طريق الحجيج، وأما روضة خاخ فبين مكة والمدينة، بقرب المدينة.
(فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها) في ملحق الرواية "فقال: انطلقوا، حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين، معها كتاب من حاطب إلى المشركين .... " والمراد بالظعينة هنا المرأة وأصلها الراحلة أو الهودج، وذكر ابن إسحاق أن اسمها سارة، وذكر الواقدي أن اسمها كنود، وفي رواية أم سارة، وذكر الواقدي أن حاطبا جعل لها عشرة دنانير على ذلك، وقيل: دينارا واحدا، وهو أقرب، وقيل: إنها كانت مولاة العباس.
(فانطلقنا تعادى بنا خيلنا) بفتح التاء وحذف إحدى التاءين، والأصل تتعادى بنا خيلنا، أي تجري بنا وتتبارى، وتتسابق، يقال: عدا يعدو عدوا، وتعادوا أي تباروا في العدو.
(فإذا نحن بالمرأة) في رواية للبخاري "فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، إذا نحن بالظعينة" أي فأنزلوها عن راحلتها، ففي رواية للبخاري "فأدركناها تسير على بعير لها، فأنخناها".
(فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لتلقين الثياب)"لتخرجن" بالتاء وكسر الجيم، أمر لها مؤكد بالنون، أو "لتلقين" ضبطت بالتاء خطاب لها، قال الحافظ ابن حجر: والوجه حذف الياء، وضبطت، بالنون وكسر القاف وفتح الياء بعدها نون التوكيد على أنه للمتكلمين، في رواية للبخاري "فالتمسنا، فلم نر كتابا، فقنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها - وهي محتجزة بكساء - فأخرجته" والحجزة بضم الحاء وسكون الجيم معقد الإزار والسراويل.
(فأخرجته من عقاصها) بكسر العين، أي شعرها المضفور، جمع عقصة، بكسر العين وسكون القاف، وهي الخصلة من الشعر معقوصة، والعقاص أيضا بكسر العين خيط تشد به أطراف الذوائب، وجمعه عقص بضم العين والقاف، وجمع بين إخراج الكتاب من عقاصها أو حجزتها، بأنها أخرجته أولا من حجزتها، فأخفته في عقاصها، ثم اضطرت إلى إخراجه، أو بالعكس، أو بأن تكون عقيصتها طويلة بحيث تصل إلى حجزتها، فربطته في عقيصتها، وغرزته بحجزتها.
(فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهره أنهم رجعوا بالكتاب وتركوها، لكن في رواية للبخاري في باب فضل من شهد بدرا "فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيحتمل أنهم أخذوها معهم، فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي غير مذنبة إذ لم تكن مسلمة، أو كانت مسلمة ولم تعلم ما في الكتاب.
(فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين، من أهل مكة) لم تذكر أسماء المرسل إليهم في الصحيح، لكن روى الواقدي بسند له مرسل "أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوا بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد".
(يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر هو التهيؤ للغزو، ولم يكن يعلم الحقيقة علما، بل استنبط هو من قبله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفي أمر الغزوة لأهميتها، حتى قال لعائشة: جهزيني، ولا تعلمي بذلك أحدا، فدخل عليها أبو بكر، فأنكر بعض شأنها، فقال: ما هذا؟ قالت له. فقال: والله ما انقضت الهدنة بيننا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنهم أول من غدر، ثم أمر بالطرق، فحبست، ليعمي على أهل مكة، لا يأتيهم الخبر، فيستعدون ويجمعون الأحلاف.
وذكر بعض أهل المغازي أن لفظ الكتاب "أما بعد. يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده. انظروا لأنفسكم. والسلام".
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب، ما هذا؟ ) معطوف على محذوف، ظهر في رواية للبخاري وهو "فأرسل إلى حاطب" فجاء، فقال له
…
وفي رواية "ما حملك على هذا"؟ وفي رواية للبخاري "ما حملك على ما صنعت"؟ .
(قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقا في قريش) قال الراوي: "كان حليفا لهم، ولم يكن من أنفسها".
(وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهليهم، فأحببت - إذا فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدا، يحمون بها قرابتي) وفي رواية للبخاري "أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته، من يدفع الله به عن أهله وماله" وفي رواية أخرى للبخاري "كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم" أي كنت منهم بالحلف، وحليف القوم منهم، وعند أحمد "كنت غريبا" قال السهيلي: كان حاطب حليفا لعبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى.
وعند ابن إسحاق "وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليه" يقال: كان له بمكة أولاده وإخوته وأمه.
(ولم أفعله كفرا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام) وفي رواية للبخاري "والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم".
(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق) وفي رواية للبخاري "أنه قد صدقكم" بتخفيف الدال، أي قال الصدق، وفي رواية أخرى للبخاري "أما إنه قد صدقكم" وفي أخرى للبخاري أيضا "صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا" وفي رواية "فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم".
(فقال عمر: دعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) ما سبق من ذنوبكم، وسأغفر لكم ما يلحق منها.
وسيأتي تفصيل لذلك في فقه الحديث، وفي رواية للبخاري "اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة".
والروايات في أكثر النسخ بصيغة الترجي "لعل" والترجي من الله واقع.
وإنما قال عمر ذلك، مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة في الدين، وبغض من ينسب إلى النفاق، وظن أن من خالف ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم استحق القتل، لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه منافقا، لكونه أبطن خلاف ما أظهر، وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا أن لا ضرر فيه، وعند الطبري "فقال: أليس قد شهد بدرا؟ قال: بلى، ولكنه نكث، وظاهر أعداءك عليك" وفي رواية للبخاري "فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم".
(فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل})[الممتحنة: 1].
(أن عبدا لحاطب، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشكو حاطبا) كان حاطب رضي الله عنه شديدا على الرقيق، وفي الموطأ أن عمر رضي الله عنه قال لحاطب - حين نحر رقيقه ناقة لرجل من مزينة - أراك تجيعهم، وأضعف عليه القيمة، على جهة الأدب والردع له.
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من الحديث]-
1 -
فضيلة عظيمة لأهل بدر، من قوله:"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقد اتفق العلماء على أن هذا الوعد الكريم يشمل كل ما سبق لهم من ذنوب قبل يوم بدر، والخلاف فيما يحصل منهم من ذنوب بعد بدر، هل تدخل في هذا الوعد؟ فتقع منهم مغفورة؟ أو يلهمون بعدها التوبة فتغفر؟ أو لا تدخل؟ وشأنهم في ذنوبهم اللاحقة لبدر شأن غيرهم؟ قولان:
الأول قال ابن الجوزي: ليس هذا على الاستقبال، وإنما هو على الماضي، لأنه لو كان للمستقبل كان جوابه: فسأغفر لكم، ولو كان كذلك لكان إطلاقا في الذنوب - أي إذنا ودعوة للذنوب - ولا يصح. اهـ ويؤيده اتفاق العلماء على أنهم لا يعفون من الحد، إذا وقع من أحدهم ما يوجب الحد، فلو كانت ذنوبهم مغفورة ما حدوا، فإقامة الحد دليل قيام الذنب، وعدم مغفرته.
الثاني: قول الجمهور، يقول القرطبي:"اعملوا" صيغة أمر، وهي موضوعة للاستقبال، ولم تضعها
العرب صيغة للماضي، لا بقرينة ولا بغيرها، لأنها بمعنى الإنشاء والابتداء، وقوله:"اعملوا ما شئتم" يحمل على طلب الفعل، ولا يصح أن يكون معنى الماضي، ولا يمكن أن يحمل على الإيجاب، فتعين الحمل على الإباحة، قال: وقد ظهر لي أن هذا الخطاب خطاب تشريف وإكرام، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة، غفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية للشيء وقوعه، وقد ظهر أن الله صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة، إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة، ولازم الطريق المثلى، ويعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد غفرت لكم" أن ذنوبكم تقع مغفورة، لا أن المراد أنه لا يصدر منهم ذنب، وقد شهد مسطح بدرا، ووقع في إفك عائشة، فكأن الله لكرامتهم عليه، بشرهم على لسان نبيه أنهم مغفور لهم، ولو وقع منهم ما وقع. اهـ.
ويجيب الجمهور على شبهة الآخرين بأن التعبير بالماضي قد يكون على المستقبل مبالغة في تحققه، كما في قوله تعالى {أتى أمر الله} [النحل: 1] أي سيأتي أمر الله، فمعنى "غفرت لكم" أي سأغفر لكم، على أن الطبري أخرجه بلفظ "فإني غافر لكم" وفي مغازي ابن عائذ، من مرسل عروة "اعملوا ما شئتم فسأغفر لكم".
أما شبهة أن الأمر بقوله: "اعملوا ما شئتم" فيه إطلاق للذنوب، ولا يصح، فإنه معقول مع المكثرين من الذنوب، أما هؤلاء الصفوة الذين وهبوا حياتهم لله، فإن فتح باب المعصية لهم لا يدفع بهم إليها، بل في ذلك ما يزيد امتناعهم وبعدهم عنها، وكلما قرب الله عبدا منه كلما ازداد خوفه وخشيته وتقواه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قيل له: إنك قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "إنما أنا أخشاكم لله وأتقاكم له. أفلا أكون عبدا شكورا؟ ".
أما أنهم لا يعفون من الحد إذا أتوا ما يوجب الحد، فهذا في حكم الدنيا، وموطن النزاع هو المغفرة في الآخرة، فلا تعارض.
يضاف إلى ذلك أنه لو كانت البشارة للماضي فقط لما حسن الاستدلال بالبشارة في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر، منكرا عليه ما قال في أمر حاطب، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين، فدل هذا الاستدلال على أن المراد مغفرة ما سيأتي والله أعلم.
2 -
وقد أثار هذا الحديث حكم الجاسوس، فقد استدل باستئذان عمر لقتل حاطب لمشروعية قتل الجاسوس، ولو كان مسلما وإن تاب، وهو قول بعض المالكية، ومن وافقهم، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أقر عمر على إرادة القتل، لولا المانع، وبين أن المانع هو كون حاطب شهد بدرا، وهذا منتفى في غير حاطب، فلو كان الإسلام مانعا من قتله، لما علل بأخص منه، وقال بعض المالكية: يقتل، إلا أن يتوب، وقال مالك: يجتهد فيه الإمام، ومذهب الشافعي وطائفة أن الجاسوس المسلم يعزر، ولا يجوز قتله.
3 -
وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره بالظعينة.
4 -
وفيه هتك أستار الجواسيس، بقراءة كتبهم، سواء كان رجلا أو امرأة.
5 -
وفيه هتك ستر المفسدة، إذا كان فيه مصلحة، أو كان في الستر مفسدة، وتحمل الأحاديث الواردة في الندب إلى الستر على ما إذا لم يكن فيه مفسدة، ولا تفوت به مصلحة.
6 -
وفيه أن الجاسوس وغيره من أصحاب الذنوب الكبائر، لا يكفرون بذلك، وهذا التجسس كبيرة قطعا، لأنه يتضمن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كبيرة ولا شك، لقوله تعالى {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله} [الأحزاب: 57]
7 -
وفيه أنه لا يحد العاصي، ولا يعذر إلا بإذن الإمام.
8 -
وفيه إشارة جلساء الإمام والحاكم بما يرونه، كما أشاره عمر بضرب عنق حاطب.
9 -
وفي الرواية الثانية فضيلة أهل الحديبية، وسيأتي باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان في الباب التالي.
10 -
وفيها أن لفظة الكذب هي الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، عمدا كان أو سهوا، سواء كان الإخبار عن ماض أو مستقبل، وخصته المعتزلة بالعمد، وهذا يرد عليهم، وقال بعض أهل اللغة: لا يستعمل الكذب إلا في الإخبار عن الماضي، بخلاف ما هو مستقبل، وهذا الحديث يرد عليهم.
والله أعلم