المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(630) باب من فضائل إبراهيم الخليل، ولوط، عليهما السلام - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ٩

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌(599) باب قتل الحيات والأبتر والوزغ والهرة وسقي البهائم

- ‌كتاب الأدب من الألفاظ وغيرها

- ‌(600) باب سب الدهر - تسمية العنب كرما - قول: عبدي وأمتي - استعمال المسك

- ‌كتاب الشعر

- ‌(601) باب الشعر واللعب بالنرد

- ‌كتاب الرؤيا

- ‌(602) باب الرؤية والحلم، وتأويل الرؤيا

- ‌كتاب الفضائل

- ‌(603) باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة وتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق

- ‌(604) باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(605) باب توكله صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس

- ‌(606) باب بيان مثل ما بعث به صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم

- ‌(607) باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم وإذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها

- ‌(608) باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته

- ‌(609) باب إكرامه صلى الله عليه وسلم بقتال الملائكة معه

- ‌(610) باب من شجاعته صلى الله عليه وسلم

- ‌(611) باب جوده صلى الله عليه وسلم

- ‌(612) باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم

- ‌(613) باب في سخائه صلى الله عليه وسلم

- ‌(614) باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك

- ‌(615) باب حيائه صلى الله عليه وسلم

- ‌(616) باب تبسمه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته

- ‌(617) باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالنساء، والرفق بهن

- ‌(618) باب قربه صلى الله عليه وسلم من الناس، وتبركهم به، وتواضعه لهم

- ‌(619) باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله تعالى عند انتهاك حرماته

- ‌(620) باب طيب رائحته صلى الله عليه وسلم، ولين مسه وطيب عرقه، والتبرك به

- ‌(621) باب في صفاته الخلقية، وصفة شعره وشيبته

- ‌(622) باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم

- ‌(623) باب قدر عمره صلى الله عليه وسلم، وإقامته بمكة والمدينة

- ‌(624) باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم

- ‌(625) باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله، وشدة خشيته له

- ‌(626) باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه

- ‌(627) باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي

- ‌(628) باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم

- ‌(629) باب فضائل عيسى عليه السلام

- ‌(630) باب من فضائل إبراهيم الخليل، ولوط، عليهما السلام

- ‌(631) باب من فضائل موسى عليه السلام، ويونس، ويوسف، وزكريا، والخضر، عليهم السلام

- ‌كتاب فضائل الصحابة

- ‌(632) باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌(633) باب من فضائل عمر رضي الله عنه

- ‌(634) باب من فضائل عثمان رضي الله عنه

- ‌(635) باب فضائل علي رضي الله عنه

- ‌(636) باب من فضائل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

- ‌(637) باب من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما

- ‌(638) باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه

- ‌(639) باب من فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما

- ‌(640) باب من فضائل زيد بن حارثة، وابنه أسامة، رضي الله عنهما

- ‌(641) باب من فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه

- ‌(642) باب من فضائل خديجة رضي الله عنها

- ‌(643) باب فضائل عائشة رضي الله عنها

- ‌(644) تابع باب فضائل عائشة رضي الله عنها حديث أم زرع

- ‌(645) باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها

- ‌(646) باب من فضائل أم سلمة رضي الله عنها

- ‌(647) باب من فضائل زينب أم المؤمنين رضي الله عنها

- ‌(648) باب من فضائل أم أيمن رضي الله عنها

- ‌(649) باب من فضائل أم سليم وبلال رضي الله عنهما

- ‌(650) باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنهما

- ‌(651) باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار رضي الله عنهم

- ‌(652) باب من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه

- ‌(653) باب من فضائل أبي دجانة: سماك بن خرشة رضي الله عنه

- ‌(654) باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله عنهما

- ‌(655) باب من فضائل جليبيب رضي الله عنه

- ‌(656) باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه

- ‌(657) باب من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله عنه

- ‌(658) باب من فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

- ‌(659) باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

- ‌(660) باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه

- ‌(661) باب من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه

- ‌(662) باب من فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه

- ‌(663) باب من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه

- ‌(664) باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

- ‌(665) باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان، رضي الله عنهم

- ‌(666) باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما

- ‌(667) باب من فضائل أبي سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه

- ‌(668) باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما

- ‌(669) باب من فضائل سلمان وبلال وصهيب رضي الله عنهم

- ‌(670) باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم

- ‌(671) باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيئ

- ‌(672) باب خيار الناس

- ‌(673) باب من فضائل نساء قريش

- ‌(674) باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، رضي الله عنهم

- ‌(675) باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة

- ‌(676) باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم

- ‌(677) باب معنى قوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌(678) باب تحريم سب الصحابة

- ‌(679) باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه

- ‌(680) باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر

- ‌(681) باب فضل أهل عمان

- ‌(682) باب ذكر كذاب ثقيف

- ‌(683) باب فضل فارس

- ‌(684) باب بيان قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس كإبل مائة

- ‌كتاب البر والصلة والآداب

- ‌(685) باب بر الوالدين

- ‌(686) باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة، وغيرها، وفضل بر الوالدين

- ‌(687) باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم، ونحوهما

- ‌(688) باب تفسير البر والإثم

الفصل: ‌(630) باب من فضائل إبراهيم الخليل، ولوط، عليهما السلام

(630) باب من فضائل إبراهيم الخليل، ولوط، عليهما السلام

5345 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البرية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك إبراهيم عليه السلام" وحدثناه أبو كريب.

5346 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم".

5347 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد. ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي".

5348 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يغفر الله للوط إنه أوى إلى ركن شديد".

5349 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله {إني سقيم} وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة. وكانت أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك. فإن سألك فأخبريه أنك أختي. فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل

ص: 242

أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتي بها. فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها. فقبضت يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشد من القبضة الأولى. فقال لها: مثل ذلك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشد من القبضتين الأوليين. فقال: ادعي الله أن يطلق يدي. فلك الله أن لا أضرك. ففعلت. وأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي. فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف. فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا. كف الله يد الفاجر وأخدم خادما" قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء.

-[المعنى العام]-

إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125]، {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا} [مريم: 41] أبو الأنبياء كنيته عليه الصلاة والسلام، وهب الله له إسماعيل وإسحق ومن ذرية إسماعيل محمد عليهما الصلاة والسلام، ومن ذرية إسحق يعقوب، والد أنبياء بني إسرائيل، كان إبراهيم عليه السلام حنيفا مسلما، جاهد في الله حق جهاده، وتعرض لصنوف الأذى والاضطهاد، حطم الأصنام بيده، وأتي به على أعين الناس يشهدون {قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون * قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [الأنبياء: 62 - 71] {ولوطا ءاتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين} [الأنبياء: 74 - 75].

إن الإسلام يعرف للأنبياء قدرهم، ويؤمن بهم جميعا، لا يفرق بين أحد منهم، ومع أن القرآن الكريم يقول {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] فإن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "لا تخيروا بين الأنبياء" ويقول تواضعا "لا تخيروني على موسى". "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" وحين قال له أحد أصحابه "يا خير البرية، قال: ذاك إبراهيم عليه السلام" وحين سئل صلى الله عليه وسلم "من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله".

وحين نزل قوله تعالى {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى

ص: 243

ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] قال الصحابة: شك إبراهيم عليه السلام، ولم يشك نبينا، فقال صلى الله عليه وسلم:"نحن أحق بالشك من إبراهيم" وحين علم الصحابة أن إبراهيم عليه السلام قال لعبدة الأصنام: إني سقيم، ولم يكن سقيما، وحين قال لهم: بل فعله كبيرهم هذا، ولم يكن فعل، وحين قال للجبار عن امرأته: إنها أختي. قال الصحابة: كذب إبراهيم ولم يكذب نبينا، قال صلى الله عليه وسلم "لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، كلها في ذات الله، ودفاعا عن شرع الله، وحين نزل قوله تعالى على لسان لوط {قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوي إلى ركن شديد} [هود: 80] قال الصحابة: إن نبينا يعتمد على الله وإن لوطا لم يعتمد على الله. قال صلى الله عليه وسلم "رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد"، هو الله.

وحين نزل قوله تعالى على لسان يوسف لخادم الملك {اذكرني عند ربك} [يوسف: 42] أي عند مليكك، قال الصحابة: نبينا لا يسأل إلا ربه، ويوسف سأل الملك وأرسل وساطة إليه، قال لهم صلى الله عليه وسلم: لو لبثت في السجن - بدون ذنب - طول المدة التي لبثها يوسف في السجن لأجبت الداعي، حين جاءه في السجن وقال: اخرج من السجن لتقابل الملك، لكن يوسف لم يسارع بالخروج، ولم يكن معتمدا على الملك، بل على الله وعلى البراءة.

وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم محبا لإخوانه الأنبياء، مدافعا عنهم، منزها لأفعالهم عن الخطأ، مبرئا لهم مما قد يثار حول بعض تصرفاتهم، بل كان يرفعهم على نفسه، ويدعو لتوقيرهم فوق توقيره، مؤمنا بما أنزل عليهم، داعيا أمته إلى الإيمان بكل ما جاء عنهم، عملا بقوله تعالى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136].

فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

-[المباحث العربية]-

(يا خير البرية)"خير" أفعل تفضيل، استعمل المصدر فيها لكثرة الاستعمال، والبرية الخلق، والبارئ الخالق.

(ذاك إبراهيم عليه السلام أي خير البرية إبراهيم عليه السلام.

قال الحافظ ابن حجر: وإبراهيم بالسريانية معناه أب راحم، وهو ابن آزر، واسمه تارح بالتاء، ابن ناحور ابن شاروخ بن راغوء بن فالخ بن عبير - ويقال: عابر - بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فبينه وبين نوح عشرة آباء، قال الحافظ ابن حجر: لا يختلف جمهور أهل النسب ولا أهل الكتاب في ذلك، إلا في النطق ببعض هذه الأسماء.

(اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة) الختان معروف، وهو قطع غلفة الذكر، وفي مسند مسعود "اختتن إبراهيم بعد ما مرت به ثمانون" ووقع في الموطأ موقوفا

ص: 244

على أبي هريرة وعند ابن حبان مرفوعا "أن إبراهيم اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة" قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أنه سقط من المتن شيء، فإن هذا القدر هو مقدار عمره، ووقع مثل ذلك عند أبي الشيخ، وزاد "وعاش بعد ذلك ثمانين سنة" فعلى هذا يكون عاش مائتي سنة، وجمع بعضهم بأن الأول حسب من مبدأ نبوته، والثاني من مبدأ مولده. والله أعلم.

(بالقدوم) روي بتشديد الدال، وروي بتخفيفها، قال النووي: لم يختلف الرواة عند مسلم في التخفيف، وأنكر يعقوب بن شيبة التشديد أصلا، واختلف في المراد به، فقيل: هو اسم مكان، أي اختتن في مكان يدعى القدوم، وقيل: هي قرية بالشام، وقيل: اسم آلة النجار، فعلى الثاني هو بالتخفيف لا غير، وعلى الأول ففيه اللغتان. هذا قول الأكثر، وعكسه الداودي، وقد أنكر ابن السكيت التشديد في الآلة، والراجح أن المراد في الحديث الآلة، فقد روى أبو يعلى "أمر إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم، فاشتد عليه، فأوحي إليه: أن عجلت قبل أن نأمرك بآلتك، فقال: يا رب. كرهت أن أؤخر أمرك".

(نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}) اختلف السلف في المراد بالشك هنا.

فحمله بعضهم على ظاهره - أي مساواة الوقوع واللاوقوع - ثم اختلفوا فقال بعضهم: كان قبل النبوة وقال بعضهم: كان ذلك بعد النبوة، وسببه حصول وسوسة الشيطان، لكنها لم تستقر، ولم تزلزل الإيمان الثابت، واستندوا في ذلك إلى ما أخرجه الطبري وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"هذا لما يعرض في الصدور، ويوسوس به الشيطان، فرضي الله من إبراهيم عليه السلام بأن قال: بلى" وإلى ذلك جنح عطاء، حيث سأله ابن جريج عن هذه الآية، فقال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال ذلك.

وروى الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا أن إبراهيم أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع.

وفي رواية عن ابن جريج قال: بلغني أن إبراهيم أتى على جيفة حمار، مزقتها السباع والطير، فعجب وقال: رب لقد علمت لتجمعنها، ولكن رب أرني كيف تحيي الموتى؟

وذهب آخرون إلى تأويل ذلك، واختلفوا:

فقال بعضهم: إن المراد من الشك المنفي الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح، وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر، فهو منفي عن الخليل قطعا، لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟

وقال بعضهم: إن الآية تدل على أن إبراهيم مؤمن يقينا بالبعث، لأن السؤال بكيف سؤال عن حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول، كما تقول: كيف علم فلان؟ فكيف في الآية سؤال عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرر.

وقال بعضهم: إن السؤال عن كيفية إحياء الموتى ليس لشك فيه، ولكن إبراهيم طلب من ربه كعلامة على رضاه جل شأنه عليه، كما طلب زكريا آية على تحقق البشرى، فروى الطبري وابن أبي

ص: 245

حاتم من طريق السدي قال: "لما اتخذ الله إبراهيم خليلا، استأذنه ملك الموت أن يبشره، فأذن له"

فذكر قصة معه في كيفية قبض روح الكافر والمؤمن. قال: فقام إبراهيم يدعو ربه "رب أرني كيف تحيي الموتى؟ حتى أعلم أني خليلك" وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد قال: "ليطمئن قلبي بالخلة" ومن طريق سعيد بن جبير، قال "ليطمئن قلبي أني خليلك" ومن طريق الضحاك عن ابن عباس "لأعلم أنك أجبت دعائي" ومن طريق علي بن أبي طلحة عنه "لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك" وإلى هذا جنح القاضي أبو بكر الباقلاني.

وقال بعضهم: إنما طلب إبراهيم هذا المطلب حبا للرؤية، واشتياقا إليها، وإعجابا بها وتمتعا، وليس شكا في وقوعها، فأراد أن يسر قلبه ويطمئن برؤية آثار القدرة التي لا يشك فيها.

وقال بعضهم: إنما طلب إبراهيم أن يريه ربه، ويرى قومه المكذبين للبعث، وذلك أن النمرود لما قال لإبراهيم: من ربك؟ فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال النمرود: أنا أحيي وأميت، فجاء بمحكوم عليه بالإعدام فأطلقه، وببريء فقتله، فأراد إبراهيم أن يريه الله إحياء الموتى الحقيقي ليعلم الفرق بين القدرة الإلهية وعبث النمرود، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال:"المراد ليطمئن قلبي أنهم يعلمون أنك تحيي الموتى" أي ليطمئن قلبي بإيمانهم بالبعث.

وقال بعضهم: إنما طلب لزيادة اليقين البالغ حد الجزم، كزيادة الإيمان بكثرة نزول الآيات، فاليقين العلمي الخالي من الشك يزداد بالمعاينة والمشاهدة. وهذا من أحسن التوجيهات وهناك توجيهات بعيدة. منها:

أن مراده أقدرني على إحياء الموتى، فتأدب في السؤال، قال ابن الحصار: إنما أراد أن يحيي الله الموتى على يديه، فلهذا قيل له في الجواب {فصرهن إليك} [البقرة: 260].

وحكى ابن التين عن بعض من لا تحصيل عنده أنه أراد بقوله "قلبي" رجلا صالحا كان يصحبه سأله عن ذلك.

وأبعد مما سبق ما حكاه القرطبي عن بعض الصوفية أنه سأل ربه أن يريه كيف يحيي القلوب؟ وأبعد منه أنه طلب هذا المطلب لمجرد حب المراجعة في السؤال.

وبناء على ما سبق من توجيهات اختلف العلماء في معنى قوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فقيل: معناه: نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم.

وقيل: معناه: إذا كنا لا نشك نحن، فإبراهيم لم يشك، فنحن أولى بالشك منه، أي لو كان الشك في ذلك يتطرق إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم. وقال ذلك تواضعا منه، أو قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم، فهو من قبيل ما قيل في روايتنا الأولى، حيث قيل: أن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس: شك إبراهيم ولم يشك نبينا فبلغه ذلك، فقال: نحن أحق بالشك من إبراهيم. أي إبراهيم لم يشك.

ص: 246

وقيل: أراد من "نحن" أمته الذين يجوز عليهم الشك، وأخرج نفسه من ضمير المتكلمين، بدليل العصمة.

وقيل: معناه: أن هذا الذي ترون أنه شك، أنا أولى به، لما عانيت من تكذيب قومي، وردهم علي، وتعجبهم، من أمر البعث، فكأنه قال: أنا أحق من أن أسأل ما سأل إبراهيم، لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى، ولمعرفتي بتفضيل الله لي ولكن لا أسأل في ذلك.

وحكى بعض علماء العربية أن "أفعل" ربما جاءت لنفي المعنى عن الشيئين، نحو قوله تعالى {أهم خير أم قوم تبع} [الدخان: 37]؟ أي لا خير فيهما، وعلى هذا فمعنى قوله "نحن أحق بالشك من إبراهيم" لا شك عندنا جميعا.

والاستفهام في قوله {أولم تؤمن} للتقرير، لأنه طلب الكيفية، وهو مشعر بالتصديق بالإحياء.

(ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد) وفي ملحق الرواية "يغفر الله للوط، إنه أوى إلى ركن شديد" أي إلى الله تعالى، يشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى {قال لو أن لي بكم قوة أو ءاوي إلى ركن شديد} [هود: 80] يدافع عن لوط عليه السلام، فقد قيل: لما نزلت الآية قال بعضهم: اعتمد لوط على العشيرة، ولم يكن له عشيرة، فتحسر، ولم يعتمد على الله تعالى، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالركن الشديد في الآية الله تعالى، قال الحافظ ابن حجر: ويقال إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه، فقال: لو أن لي منعة وأقارب وعشيرة، لكنت أستنصر بهم عليكم، ليدفعوا عن ضيفاني أي ولكني آوي إلى الله. ولهذا جاء في بعض طرق هذا الحديث عند أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وقال لوط: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد. قال: فإنه كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى - بالقوة - عشيرته، فما بعث الله نبيا إلا في ذروة من قومه" زاد ابن مردويه ألم تر إلى قول قوم شعيب {ولولا رهطك لرجمناك} [هود: 91] فالمراد من الركن الشديد الله، و"أو" هنا بمعنى "بل" التي للإضراب الإبطالي، وقيل: المراد بالركن الشديد في الآية عشيرته، لكنه لم يأو إليهم وأوى إلى الله، وقال النووي: يجوز أنه لما اندهش بحال الأضياف قال ذلك - مريدا عشيرته ونسي الالتجاء إلى الله تعالى - أو التجأ إلى الله في باطنه، وأظهر هذا القول للأضياف اعتذارا، وسمى العشيرة ركنا، لأن الركن يستند إليه، ويمتنع به، فشبههم بالركن من الجبل، لشدتهم ومنعتهم.

(ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) في رواية البخاري "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته" يدافع صلى الله عليه وسلم عن يوسف عليه السلام، في قوله لصاحب السجن {اذكرني عند ربك} فقد قيل: إنه تبرم بالقضاء، ولجأ إلى وساطة الخلق عند الخلق، فأشار إلى أنه عليه السلام كان مثالا للصبر والرضا بالقضاء، فقد سجن مظلوما، ورضي، وطال سجنه، ورضي، بل بعد أن طال سجنه وعز مقداره، وأتاه رسول الملك ليخرجه من السجن، لم يبادر بالخروج، بل قال له:{ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50]، ولم يخرج حتى ثبتت براءته، ولو كان غيره قد طال به السجن ظلما لأسرع إلى إجابة الداعي بالخروج، فوصفه صلى الله عليه وسلم بشدة الصبر، وقال عن نفسه ما قال تواضعا.

ص: 247

(لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط، إلا ثلاث كذبات) قال أبو البقاء: الجيد أن يقال: كذبات بفتح الذال في الجمع، لأنه جمع "كذبة" بسكون الذال، وهو اسم لا صفة، لأنك تقول: كذب كذبة، كما تقول: ركع ركعة.

وقد استشكل على هذا الحصر، ففي مسلم في حديث الشفاعة الطويل، في قصة إبراهيم ذكر قوله في الكوكب:{هذا ربي} وقوله لآلهتهم {بل فعله كبيرهم} وقوله {إني سقيم} [الصافات: 89] قال القرطبي ذكر الكوكب يقتضي أنها أربع. قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة، فإنه ذكر قوله في الكوكب، بدل قوله في سارة، والذي اتفقت عليه الطرق ذكر سارة، دون الكوكب، وكأنه لم يعد، مع أنه أدخل - في المقصود - من ذكر سارة، لما نقل من أنه قاله في حال الطفولية، فلم يعده، لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف. وهذه طريقة ابن إسحق، وقيل: إنما قال ذلك بعد البلوغ، لكنه قاله على طريق الاستفهام، الذي يقصد به التوبيخ، وقيل: قاله على طريق الاحتجاج على قومه، تنبيها على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية، وهذا قول الأكثر، وأنه قاله توبيخا لقومه، أو تهكما بهم، وهو المعتمد. اهـ. وهذا الذي ذهب إليه الحافظ يصلح بصفة أكثر في قوله {بل فعله كبيرهم هذا} فإنه يبعد عن التصديق عند المتكلم والسامع معا، ولذلك قال:{فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وقالوا ردا عليه {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فعقب على ذلك بقوله {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} فالإشكال باق، والذي أوقع فيه هو الرواية، وخير التوجيهات أنه قاله على سبيل الاستفهام، ولا يدخله الكذب، فالكذب في الأخبار.

على أن إطلاق الكذب على الأمور الثلاث ليس على سبيل الحقيقة المتفق عليها، إذا أدخلنا اعتقاد المتكلم والسامع في تعريفه، فالتعريض والتورية، يقصد المتكلم فيها مطابقة الخبر للواقع، وإن كان حسب فهم المخاطب غير مطابق للواقع، فإبراهيم حين قال {بل فعله كبيرهم هذا} ربما قصد أنه كان السبب، أي تسبب في الفعل، وأثارني كبيرهم هذا والإسناد إلى الشيء مع إرادة السبب كثير، وربما قصد توقف الكلام عند قوله {بل فعله} مريدا إبراهيم، ثم البدء بقوله {كبيرهم هذا فاسألوهم} أي اسألوه ومن حوله، وربما قصد توقف الجواب المستحيل على الشرط المستحيل، أي إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم لكنهم لا ينطقون. قال ابن قتيبة، وقوله {إني سقيم} ربما قصد مريض النفس، ضائق الصدر من أفعالكم وتصرفاتكم، وربما كان عنده مرض حقيقي يعلمه وحده وربه، وإن كان لا يمنع من الخروج، فقد حكى النووي عن بعضهم، أنه كان تأخذه الحمى في ذلك الوقت، وربما أراد الاستقبال، أي سأسقم، واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا، وقوله "هذه أختي" قصد به أخوة الإسلام، كما جاء في الرواية صريحا، ونتيجة ذلك أن الثلاث صور كذبات وليست في الحقيقة كذبات.

(ثنتين في ذات الله، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة) خص الثنتين بذلك، وإن كانت الثالثة أيضا في ذات الله، لكنها لما تضمنت حظا لنفسه ونفعا له، لم تعتبر في ذات الله محضا، بخلاف الثنتين، وقد وقع في بعض الروايات "إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله" وعند أحمد "والله إن جادل بهن إلا عن دين الله" وفي رواية "ما فيها كذبة إلا مما حل بها عن الإسلام" أي جادل ودافع.

ص: 248

(فإنه قدم أرض جبار) قال الحافظ ابن حجر: اسم الجبار المذكور عمر بن امرئ القيس بن سبأ، وأنه كان على مصر، وقيل: اسمه صادوق، وكان على الأردن، وقيل غير ذلك.

(ومعه سارة وكانت أحسن الناس) في رواية البخاري "من أحسن الناس" وفي رواية "هاجر إبراهيم بسارة، فدخل بها قرية، فيها ملك أو جبار، فقيل: دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء".

قال الحافظ ابن حجر: واختلف في والد سارة - مع القول بأن اسمه هاران - فقيل: هو ملك حران، وأن إبراهيم تزوجها لما هاجر من بلاد قومه إلى حران، وقيل: هي ابنة أخيه، وكان ذلك جائزا في تلك الشريعة، حكاه ابن قتيبة والنقاش، واستبعد. وقيل: بل هي بنت عمه.

قال الحافظ ابن حجر: والجمهور على أنها ليست بنبية.

(فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام) فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه، فقال له:(لقد قدم أرضك امرأة، لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأتي بها) في هذه الرواية طي، أوضحته رواية البخاري، ولفظها "بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلا، معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة، قال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني عنك، فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها" فروايتنا ليس فيها تصريح بأنه كذب، وقال عن زوجته: أختي، والواقع أن الجبار طلب إبراهيم أولا، وسأله عنها فقال له إبراهيم: إنها أختي. ثم رجع إبراهيم إليها فأخبرها بذلك، لئلا تكذبه عنده، وقال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يجمع بينهما بأن إبراهيم أحس بأن الملك سيطلبها منه، فأوصاها بما أوصاها، فلما وقع ما حسبه أعاد عليها الوصية.

واختلف في السبب الذي حمل إبراهيم على هذه الوصية، مع أن ذلك الظالم يريد اغتصابها على نفسها، أختا كانت أو زوجة، فقيل: كان من دين ذلك الملك أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، فكانت عنده شهوة قتل الزوج، واغتصاب الزوجة، فأراد إبراهيم دفع أعظم الضررين، بارتكاب أخفهما، وهذا التقرير قريب مما جاء عن وهب بن منبه عند ابن حميد في تفسيره، وقريب مما ذكره المنذري في حاشية السنن عن بعض أهل الكتاب، وهو مأخوذ من كلام ابن الجوزي في مشكل الصحيحين أما من قال: إنه كان عند دين الملك أن الأخ أحق بأن تكون أخته زوجته من غيره، فلذلك قال: هي أختي، اعتمادا على ما يعتقده الجبار، فلا ينازعه فيها - فإنه متعقب بأنه لو كان ذلك لقال: هي أختي وأنا زوجها، ولا يقتصر على قوله: هي أختي، وأيضا فالجواب إنما يفيد لو كان من الجبار يريد أن يتزوجها، لا أن يغتصبها نفسها.

وقد أشكل على قوله "لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك" بلوط عليه السلام، فقد كان معه، كما قال تعالى {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يجاب بأن مراده بالأرض التي وقع له فيها ما وقع، ولم يكن معه لوط.

ص: 249

(فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة) وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا ضربه أمر قام إلى الصلاة.

(فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة) في رواية "فقام إليها، فقامت توضأ وتصلي" وقبض يده يبسها وتجمدها، وفي رواية البخاري "فأخذ" وفي رواية "فغط حتى ركض برجله" يعني اختنق، حتى صار كأنه مصروع، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأنه عوقب تارة بقبض يده، وتارة بالصرع.

(فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، ولا أضرك، ففعلت) في رواية البخاري "فدعت الله فأطلق" وفي رواية "قالت في نفسها - اللهم إن يمت يقولوا: هي التي قتلته - فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي هذا الكافر فأرسل".

(فعاد، فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله أن لا أضرك، ففعلت وأطلقت يده) لم يكتف اللعين بالعقاب الأول، فتمادى، فتكرر العقاب، فأيقن أن في الأمر سرا.

(ودعا الذي جاء بها) في رواية البخاري "فدعا بعض حجبته".

(فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان) في رواية البخاري "إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان" وفي رواية "إنكم ما أرسلتم إلي إلا شيطانا، أرجعوها إلى إبراهيم" والمراد بالشيطان الجن المتمرد، وكانوا قبل الإسلام يعظمون أمر الجن جدا، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعلهم وتصرفهم.

(فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر) في بعض النسخ "وأعطها آجر" بالهمز بدل الهاء، وفي رواية البخاري "فأخدمها هاجر" أي وهبها لها لتخدمها، لأنه أعظمها أن تخدم نفسها. قال الحافظ ابن حجر: هاجر اسم سرياني. ويقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وأنها من الحفن، بفتحا الحاء وسكون الفاء، قرية بمصر، قال اليعقوبي: كانت مدينة. اهـ. وهي الآن كفر من عمل ألصنا بالبر الشرقي من الصعيد، في مقابلة الأشمونين وفيها آثار عظيمة باقية.

(فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف) من الصلاة، وفي رواية البخاري "فأتته".

(فقال لها: مهيم؟ ) بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء، أي ما شأنك؟ وما خبرك؟ ووقع في البخاري "مهيا" بالألف، وفي رواية "متهيا" وفي رواية "مهين" بنون بدل الميم.

(قالت: خيرا. كف الله يد الفاجر، وأخدم خادما) في رواية البخاري "رد الله كيد الكافر - أو الفاجر - في نحره" وفي رواية "أشعرت أن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة"؟ أي جارية للخدمة؟ وفاعل "أخدم" يحتمل أن يكون الله، وأن يكون الكافر.

ص: 250

(فتلك أمكم يا بني ماء السماء) قال النووي: قال كثيرون: المراد ببني ماء السماء العرب كلهم، لخلوص نسبهم وصفائه، وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواش، وعيشهم من المرعى والخصب، وما ينبت بماء السماء، وقال القاضي: الأظهر عندي أن المراد بذلك الأنصار خاصة، ونسبتهم إلى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأدد، وكان يعرف بماء السماء، وهو المشهور بذلك، والأنصار كلهم من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، اهـ.

وقيل: أراد بماء السماء زمزم، لأن الله أنبعها لهاجر، فعاش ولدها بها، فصاروا كأنهم أولادها.

-[فقه الحديث]-

-[يؤخذ من أحاديث الباب فوق ما تقدم]-

1 -

من الرواية الأولى فضيلة إبراهيم عليه السلام، قال النووي: قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم إنه خير البرية، تواضعا، واحتراما لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، لخلته وأبوته، وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم" ولم يقصد به الافتخار، ولا التطاول على من تقدمه، بل قاله بيانا لما أمر ببيانه وتبليغه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "ولا فخر" لينفي ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة، وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال: إبراهيم خير البرية قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فإن قيل: التأويل المذكور ضعيف، لأن هذا خبر، فلا يدخله خلف ولا نسخ؟ فالجواب أنه لا يمتنع أنه أراد أفضل البرية الموجودين في عصره، وأطلق العبارة الموهمة للعموم، لأنه أبلغ في التواضع، وقد جزم صاحب التحرير بمعنى هذا، فقال: المراد أفضل برية عصره، وأجاب القاضي عن التأويل الثاني بأنه وإن كان خبرا، فهو مما يدخله النسخ من الأخبار، لأن الفضائل يمنحها الله تعالى لمن يشاء، فأخبر بفضيلة إبراهيم، إلى أن علم تفضيل نفسه، فأخبر به.

2 -

ويؤخذ منه جواز التفاضل بين الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، مصداقا لقوله تعالى {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] ويجاب عن حديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء بالأجوبة السابقة في أول كتاب الفضائل.

3 -

ومن الرواية الثانية مشروعية الختان، وقد سبق في باب خصال الفطرة، في كتاب الطهارة.

4 -

ومن الرواية الثالثة وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم لإخوانه الأنبياء، ودفاعه عما أثير حول بعضهم.

5 -

ومن طلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى إدلاله على الله، وقربه منه.

6 -

واستحباب الترقي في الإيمان من علم اليقين إلى عين اليقين.

7 -

وفضيلة يوسف عليه السلام، وصبره، ونزاهته.

8 -

وتواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول "لأجبت الداعي" والتواضع لا يحط مرتبة الكبير، بل يزيده رفعة وجلالا.

ص: 251

9 -

ومن الرواية الخامسة تبرئة إبراهيم عليه السلام من حقيقة الكذب، وأن ما جرى منه مما يوهم ذلك كان من أجل دين الله.

قال ابن عقيل: الدلالة العقلية تصرف وتبعد إطلاق الكذب على إبراهيم عليه السلام، وذلك أن العقل يقطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقا به، ليعلم صدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه؟ وإنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره فلم يصدر ذلك من إبراهيم عليه السلام إلا في حال شدة الخوف، لعلو مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين، دفعا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات فلا يريد أنها تذم، فإن الكذب وإن كان قبيحا مخلا، لكنه قد يحسن في مواضع، وهذا منها. اهـ.

وقال المازري: أما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى، فالأنبياء معصومون منه، سواء كثيره أو قليله، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ، ويعد من الصفات، كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا، ففي إمكان وقوعه منهم، وعصمتهم منه، القولان المشهوران للسلف والخلف.

وقال القاضي عياض: الصحيح أن الكذب، فيما يتعلق بالبلاغ لا يتصور وقوعه منهم، سواء جوزنا الصغائر منهم أم لا، وسواء قل الكذب أم كثر، لأن منصب النبوة يرتفع عنه، وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم.

وقال المازري: وقد تأول بعضهم هذه الكلمات، وأخرجها عن كونها كذبا، قال: ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه النووي بقوله: أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يمتنع، لورود الحديث به، وأما تأويلها فصحيح، لا مانع فيه.

وقال النووي أيضا: وحتى لو كان كذبا، لا تورية فيه ولا تأويل لكان جائزا في دفع الظالمين، وقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم، يطلب إنسانا مختفيا، ليقتله ظلما، أو يطلب وديعة لإنسان، ليأخذها غصبا، وسأل على ذلك، وجب على من علم ذلك إخفاؤه، وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز، بل واجب، لكونه في دفع الظالم، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم.

10 -

وفي توجيه إبراهيم عليه السلام أخوة سارة مشروعية أخوة الإسلام.

11 -

وفي الحديث إباحة المعاريض.

12 -

والرخصة في الانقياد للظالم والغاصب.

13 -

وقبول صلة الملك الظالم.

14 -

وقبول هدية المشرك.

15 -

وإجابة الدعاء، بإخلاص النية.

16 -

وكفاية الرب لمن أخلص في الدعاء بعمله الصالح، كما في قصة أصحاب الغار.

ص: 252

17 -

وابتلاء الصالحين، لرفع درجاتهم.

18 -

ومن قبض الظالم عن سارة مرات كرامة لها. ومعجزة لإبراهيم عليه السلام.

19 -

وفيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغي له أن يفزع إلى الصلاة.

20 -

قال الحافظ ابن حجر: وفيه أن الوضوء كان مشروعا للأمم قبلنا، وليس مختصا بهذه الأمة، ولا بالأنبياء، لثبوت ذلك من سارة.

والله أعلم

ص: 253