الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(670) باب من فضائل الأنصار رضي الله عنهم
5582 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فينا نزلت {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} [آل عمران/ 122] بنو سلمة وبنو حارثة. وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل {والله وليهما}
5583 -
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم! اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار".
5584 -
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للأنصار. قال: وأحسبه قال: "ولذراري الأنصار، ولموالي الأنصار" لا أشك فيه.
5585 -
عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيانا ونساء مقبلين من عرس. فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم ممثلا. فقال:"اللهم! أنتم من أحب الناس إلي. اللهم! أنتم من أحب الناس إلي" يعني الأنصار.
5586 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: "والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إلي" ثلاث مرات.
5587 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنصار كرشي وعيبتي. وإن الناس سيكثرون ويقلون. فاقبلوا من محسنهم، واعفوا عن مسيئهم.
5588 -
عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة. وفي كل دور الأنصار خير" فقال سعد: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا. فقيل: قد فضلكم على كثير.
5589 -
عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: سمعت أبا أسيد رضي الله عنه خطيبا عند ابن عتبة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار دار بني النجار، ودار بني عبد الأشهل، ودار بني الحارث بن الخزرج، ودار بني ساعدة" والله! لو كنت مؤثرا بها أحدا لأثرت بها عشيرتي.
5590 -
عن أبي أسيد الأنصاري يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة. وفي كل دور الأنصار خير" قال أبو سلمة: قال أبو أسيد: أتهم أنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كنت كاذبا لبدأت بقومي، بني ساعدة. وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه. وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع. أسرجوا لي حماري آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلمه ابن أخيه، سهل، فقال: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم. أوليس حسبك أن تكون رابع أربع. فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحل عنه.
5591 -
وفي رواية عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول خير الأنصار، أو خير دور الأنصار" بمثل حديثهم. في ذكر الدور. ولم يذكر قصة سعد بن عبادة رضي اللهم عنه.
5592 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلس عظيم من المسلمين:"أحدثكم بخير دور الأنصار؟ " قالوا: نعم: يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بنو عبد الأشهل" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم بنو النجار" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم بنو الحارث بن الخزرج" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم بنو ساعدة" قالوا: ثم من؟ يا رسول الله! قال: "ثم في كل دور الأنصار خير". فقام سعد ابن عبادة مغضبا. فقال: أنحن آخر الأربع؟ حين سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم دارهم. فأراد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رجال من قومه: اجلس ألا ترضى أن سمى؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم داركم في الأربع الدور التي سمى. فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمى فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5593 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر. فكان يخدمني. فقلت له: لا تفعل. فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، آليت أن لا أصحب أحدا منهم إلا خدمته. زاد ابن المثنى وابن بشار في حديثهما: وكان جرير أكبر من أنس. وقال ابن بشار: أسن من أنس.
-[المعنى العام]-
الأنصار اسم للأوس والخزرج من أهل المدينة ومواليهم وحلفائهم، سماهم بهذا اللقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم آووه ونصروه، وهم {والذين تبوءوا الدار} (المدينة) {والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9].
لقد كانوا قبل الإسلام في فرقة وحروب، وآخر حروبهم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدينتهم بخمس سنين، فيما عرف بيوم بعاث، وكانت معارك ضارية، قتل فيها رؤساء كل من الفريقين وعدد كبير جدا من أشرافهم. فلما هداهم الله بالإسلام صاروا أحبة كالجسد الواحد، بل صاروا يؤثرون غيرهم على أنفسهم، وصدق الله العظيم إذ يقول {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [آل عمران: 103] وقد ساق الإمام مسلم مجموعة من الأحاديث في مناقبهم وفضائلهم، سنعرض لها بالشرح، وساق الإمام البخاري مجموعة أخرى نضمها إلى مجموعة مسلم، لتكتمل صورة الفضائل، أو لنقدم طائفة أكبر منها.
1 -
أخرج البخاري موقف الأنصار من المهاجرين، وأنهم نزلوا لهم عن نصف أموالهم، قال:"لما قدم المسلمون المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي، فأطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك. أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو" أي حتى صار من الأغنياء.
2 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا المهاجرين مثلها، قال: إما لا، فاصبروا حتى تلقوني وموعدكم الحوض، فإنكم ستلقون بعدي أثرة".
3 -
وكانت الأنصار يوم الخندق تقول:
نحن الذين بايعوا محمدا
…
على الجهاد ما حيينا أبدا
4 -
وأخرج قصة رجل من الأنصار انطلق بضيف إلى امرأته، فقال لها: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، وجعلا يريان الضيف أنهما يأكلان في الظلام، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ضحك الله الليلة من فعالكما".
5 -
وأخرج قصة توزيع غنائم حنين، وموقف الأنصار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم:"لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا - وفي رواية "لو شئتم لقلتم، فصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك. قالوا: المنة علينا لله ورسوله، فقال: ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار. قالوا: يا رسول الله. قد رضينا".
6 -
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".
7 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله". رضي الله عنهم أجمعين.
-[المباحث العربية]-
(فينا نزلت {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا}) هذه الآية (122) من سورة آل عمران، والطائفتان هم بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، ومعنى {تفشلا} تجبنا، والفشل في الرأي العجز، وفي البدن الإعياء، وفي الحرب الجبن، وهمهم بالفشل كان بعد الخروج من المدينة، حين رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف، فرجع عنه عبد الله بن أبي بثلاثمائة رجل، مغاضبا، بحجة أنه لم يؤخذ برأيه، حين أشار بالقعود في المدينة، والقتال فيها إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه هذا قد وافق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى ذلك أكثر الأنصار، لما رجع ابن أبي بثلث الجيش، حدث في نفس الطائفتين، وخطر ببالهم أن يرجعوا، فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
{والله وليهما} أي حافظ قلوبهما عن تحقيق هذا الهم.
(بنو سلمة وبنو حارثة) بالرفع، خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، وفي رواية "نحن الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة"، وفي رواية للبخاري "بني سلمة وبني حارثة" بالجر على البدلية من الضمير في "فينا" أي في قومه، بني سلمة وفي أقاربهم بني حارثة.
والأوس والخزرج أمهما واحدة، تدعى قيلة، وأبوهم واحد، يدعى حارثة بن عمرو بن عامر، الذي تجتمع إليه أنساب الأزد، و"سلمة" بفتح السين وكسر اللام.
(وما نحب أنها لم تنزل، لقول الله تعالى {والله وليهما}) ونفي النفي إثبات، أي نحب أنها نزلت، ولا نكره، أن وصفنا بالهم بالفشل، أي إن الآية وإن كان ظاهرها غضا من الطائفتين، لكن في آخرها غاية الشرف لهما، إذ الولي هنا الناصر، ومن ينصره الله، ويدفع عنه ما وقع منه من الهم بالمعصية فهو من حزب الله وأوليائه، ولا يضره ما وقع له من وسوسة لم تستقر.
(اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار) وفي الرواية الثالثة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للأنصار، ولذراري الأنصار، ولموالي الأنصار" وعند البخاري "قالت الأنصار: يا رسول الله، لكل نبي أتباع، وإنا قد اتبعناك، فادع الله أن يجعل أتباعنا منا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل أتباعهم منهم" قال العلماء: يدخل في أتباع الأنصار ذراريهم ومواليهم وحلفاؤهم.
"والأنصار" اسم إسلامي، سمى به النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج وحلفاءهم، وفي البخاري عن غيلان ابن جرير "قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار. كنتم تسمون به؟ أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله" وهم المقصودون بقوله تعالى {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا}
(أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيانا ونساء مقبلين من عرس) غلب الذكور على الإناث، فقال "مقبلين".
(فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا) بضم الميم الأولى وسكون الثانية وكسر الثاء من أمثل الرباعي، ومعناه قائما منتصبا، والذي ذكره أهل اللغة: مثل الرجل، بفتح الميم وضم الثاء، ثلاثي، مثولا، إذا انتصب قائما، قال النووي: وبفتح الثاء مع ضم الميم الأولى وسكون الثانية. كذا روي بالوجهين وهما مشهوران. قال القاضي: جمهور الرواة بالفتح، قال: وصححه بعضهم، قال: ولبعضهم هنا وفي البخاري بالكسر، قال: وعند بعضهم "مقبلا" وللبخاري في كتاب النكاح "ممتنا" بضم الميم الأولى وسكون الثانية وفتح التاء بعدها نون، من المنة، أي متفضلا عليهم، قال: واختار بعضهم هذا، وضبطه بعض المتقنين "ممتنا" بضم الميم الأولى وسكون الثانية وكسر التاء وتخفيف النون، أي قياما طويلا، قال القاضي: والمختار ما قدمناه عن الجمهور.
(اللهم. أنتم من أحب الناس إلي)"اللهم" منادى قصد به الدعاء، أي يا رب. هؤلاء وقومهم من أحب الناس إلي، لما قدموه خدمة للإسلام، فأحبهم.
(جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلا بها) قال النووي: هذه المرأة إما محرم له، كأم سليم وأختها، وإما المراد من الخلوة خلوة صوت وكلام، بمعنى أنها سألته سؤالا بحضرة ناس، ولم تكن خلوة مطلقة، حتى تشمل الخلوة المنهي عنها. اهـ. وقال المهلب: لم يرد أنس أنه خلا بها، بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام، فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما، لأنه لم يسمعه.
وفي البخاري "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها صبي لها" وفي رواية له "معها أولادها" وفي رواية له "معها أولاد لها".
(وقال: والذي نفسي بيده، إنكم لأحب الناس إلي) الظاهر أن "وقال
…
" معطوف على محذوف، أي أجابها على سؤالها وقال
…
" والظاهر أن سؤالها كان يستدعي تطييب قلبها، والخطاب في "إنكم" لها ولقومها الأنصار، وهو على طريق الإجمال، أي مجموعكم أحب إلي من مجموع غيركم، فلا يعارض حديث "من أحب الناس إليك؟ قال: أبو بكر".
(ثلاث مرات) معمول لقال، وكررها للتأكيد، ولزيادة التطييب، وفي رواية للبخاري "مرتين".
(إن الأنصار كرشي وعيبتي) الكرش بكسر الكاف وسكون الراء، وبفتح الكاف وكسر الراء، وهو بالأخير في الرواية، معدة الإنسان، وما هو بمنزلتها لكل مجتر، والعيبة بفتح العين، وعاء من خوص أو جلد، أو نحوهما، منه ما يعد لنقل الزرع والمحصول، ومنه ما يعد لحفظ المتاع النفيس، وهو المراد هنا، قال النووي: قال العلماء: معناه جماعتي وخاصتي الذين أثق بهم، وأعتمدهم في أموري،
قال الخطابي: ضرب مثلا بالكرش، لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، وبالعيبة لأنهم أهل سره وخفي أحواله. اهـ، وقال بعضهم: الكرش أمر باطن، والعيبة أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنة والظاهرة.
وفي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك على المنبر في مرضه الذي مات فيه، وأنه لم يصعد المنبر بعد ذلك اليوم، ولفظه "فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم" يشير إلى ما وقع منهم ليلة العقبة من المبايعة، فإنهم بايعوا على أن يؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه، فوفوا بذلك "وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" وفي رواية له "فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد. أيها الناس. إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمرا، يضر فيه أحدا، أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم".
(وإن الناس سيكثرون، ويقلون) فيه عود الضميرين على مرجعين مختلفين، مذكور أحدهما، والمراد من الناس غير الأنصار، أي فإن غير الأنصار سيكثرون، فتدخل قبائل العرب والعجم في الإسلام، فيكونون أبدا مهما كثر تناسلهم قليلين بالنسبة إلى غيرهم.
(فاقبلوا من محسنهم، واعفوا عن مسيئهم) أي فاقبلوا من محسنهم إحسانه، واشكروه عليه، وجازوه الإحسان بالإحسان، واعفوا عن إساءة المسيء منهم، فلا تعاقبوه على إساءته، اللهم إلا إذا اقتضت الإساءة حدا من حدود الله.
(خير دور الأنصار) أي خير قبائل الأنصار، وكانت كل قبيلة منهم تسكن محلة، فتسمى تلك المحلة دار بني فلان، ولهذا جاء في كثير من الروايات بنو فلان، من غير ذكر الدار.
وفي الرواية العاشرة أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في مجلس عظيم من المسلمين.
(بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير)"بنو النجار" هم من الخزرج، والنجار هو تيم الله، وسمي بذلك لأنه ضرب رجلا، فنجره، فقيل له النجار، وهو ابن ثعلبة بن عمرو من الخزرج، وهم أخوال جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن والدة عبد المطلب منهم، وعليهم نزل صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، فلهم مزية على غيرهم.
(ثم بنو عبد الأشهل) وهم من الأوس، وهو عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصفر، ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة، وهم رهط سعد بن معاذ.
بهذا الترتيب في الرواية السابعة والتاسعة، وبالتعبير بـ "ثم" أما في الرواية الثامنة وفي رواية للبخاري فبالترتيب نفسه، لكن بالواو، فاستنبط منه بعضهم أن الواو قد تأتي للترتيب، والحق أن الترتيب هنا يؤخذ من التقديم والتأخير، لا من الواو، ولا إشكال في هذه الرواية، لكن الإشكال في الرواية العاشرة، ولفظها "بنو عبد الأشهل. قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: ثم بنو النجار" وقد رجح
العلماء الرواية السابعة والتاسعة على الرواية العاشرة بأن العاشرة اختلف على ابن أبي سلمة في إسناده، هل شيخه فيها أبو أسيد أو أبو هريرة، واختلف في متنه. هل قدم عبد الأشهل على بني النجار؟ أو بالعكس. قاله: الحافظ ابن حجر.
"ثم بنو الحارث بن الخزرج" أي الأكبر، أي ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة.
"ثم بنو ساعدة" وهم الخزرج أيضا، وساعدة هو ابن كعب بن الخزرج الأكبر.
"وفي كل دور الأنصار خير""خير" الأولى، التي في قوله "خير دور الأنصار" اسم تفضيل بمعنى أفضل، و"خير" الثانية، التي في قوله "وفي كل دور الأنصار خير" اسم، أي فضل، وتتفاوت مراتبه.
(فقال سعد) بن عبادة، كما صرح به في الرواية التاسعة، وهو من بني ساعدة.
(ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا)"أرى" بضم الهمزة، بمعنى أظن، وفي بعض النسخ بفتح الهمزة، من الرأي والفكر، و"فضل" بفتح الفاء، والمفعول محذوف، أي فضل علينا ثلاث قبائل، وفي الرواية التاسعة "وبلغ ذلك سعد بن عبادة، فوجد في نفسه" أي غضب في نفسه "وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع؟ أسرجوا لي حماري، آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمه ابن أخيه سهل، فقال: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربع، فرجع، وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره، فحل عنه".
ومعنى "وجد في نفسه" بفتح الواو والجيم، يجد بكسر الجيم، وجدا، حزن، و"خلفنا" بضم الخاء وكسر اللام المشددة، مبني للمجهول، أي جعلنا خلف الناس وآخرهم، وفي الرواية العاشرة "فقام سعد بن عبادة مغضبا" أي قام من مجلسه الذي بلغه الخبر فيه "فقال: أنحن آخر الأربع؟ حين سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم دارهم"؟ أي دار الأربع؟ والاستفهام إنكاري "فأراد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم" في ذلك، أي أراد الذهاب إليه وكلامه "فقال له رجال من قومه: اجلس. ألا ترضى أن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم داركم في الأربع الدور التي سمى؟ فمن ترك، فلم يسم أكثر ممن سمى" أي فمن ترك ذكرها من دور الأنصار أكثر ممن ذكرهم منها، "فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي رجع عن عزيمته التي كان قد عزم عليها، وأمر بحل حماره، ولا تعارض بين ما في هذه الرواية، من أن الذين ردوه عن عزمه رجال من قومه، وبين ما في الرواية التاسعة من أن الذي رده سهل ابن أخيه، فقد يضاف القول للحاضرين مع القائل، لرضاهم به، وموافقتهم عليه، لكن الإشكال بين هاتين الروايتين، وفيهما أن سعدا رجع عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين ما في البخاري عن أبي حميد، وفي رواية عن أبي حميد أو أبي أسيد قال "فلحقنا سعد بن عبادة، فقال: أبا أسيد. ألم تر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خير الأنصار، فجعلنا أخيرا؟ فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله.
خيرت دور الأنصار، فجعلتنا آخرا؟ فقال: أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار"؟ قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصة، ثم إنه لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر، ذكر له ذلك، أو الذي رجع عنه أنه كان قد أراد أن يورده مورد الإنكار، والذي صدر منه ورد مورد المعاتبة المتلطفة، ولهذا قال له ابن
أخيه في الأول: "أترد على رسول الله أمره؟ " ومعنى "بحسبكم أن تكونوا من الخيار" أي يكفيكم أن تكونوا من الأفاضل، لأنهم بالنسبة لمن دونهم أفضل، وكأن المفاضلة بينهم وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله، ونحو ذلك.
و"أبو حميد" و"أبو أسيد" كلاهما ساعدي من قبيلة سعد بن عبادة، لكنهما لم يغضبا غضبته، بل رويا الحديث على الرغم من أنه يؤخر قبيلتهم، بل يقول أبو أسيد في الرواية الثامنة:"والله. لو كنت مؤثرا بها أحدا لآثرت بها عشيرتي". ويقول في الرواية التاسعة: "أتهم أنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كنت كاذبا لبدأت بقومي، بني ساعدة". ولعل سعدا يرى أنه رئيس وزعيم بني ساعدة، وعليه أولا تقع مسئولية الدفاع عنهم.
(عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر) سبق الكلام عن جرير في باب خاص من فضائله، قبل اثني عشر بابا، وهو يمني، وأنس أنصاري، من بني النجار.
(فكان يخدمني) حبا في الأنصار، وتقديرا لهم، لما لهم من فضائل في الإسلام.
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من الحديث]-
1 -
من الروايات جواز تفضيل القبائل والأشخاص، لكن بغير مجازفة ولا هوى، ولا يكون هذا من قبيل الغيبة المحرمة.
2 -
ومن الرواية الأولى أنه لا غضاضة من ذكر تقصير الإنسان في جانب الله، ما دام قد عفي عنه.
3 -
وأن التقصير لا يمنع من ولاية الله للمقصر.
4 -
وأن القرآن كان ينزل استجابة لبعض الأحداث.
5 -
وفيها فضيلة ظاهرة لقبيلتي بني سلمة وبني حارثة من الأنصار.
6 -
ومن الرواية الثانية أن صلاح الآباء ينفع الذرية والأتباع.
7 -
ومن الرواية الرابعة إخبار من تحبه أنك تحبه.
8 -
والقيام والاهتمام بمن تحب.
9 -
وفي الرواية الخامسة جواز أن يخلو المسلم بالمرأة عن الناس، بحيث لا يسمع كلامهما، إذا كان مما يخافت به، كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بينهم، وقد سبق عند مسلم عن أنس "أن امرأة كان في عقلها شيء، قالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أي السكك شئت، حتى أقضي لك حاجتك".
10 -
وفيه سعة حلمه وتواضعه صلى الله عليه وسلم، وصبره على قضاء حوائج الصغير والكبير.
11 -
وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سرا لا يقدح في الدين، عند أمن الفتنة، قال الحافظ ابن حجر: يفضل البعد عن ذلك: ولكن الأمر كما قالت عائشة: "وأيكم يملك أربه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك أربه".
12 -
ومن قوله "والذي نفسي بيده" كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟ .
13 -
وجواز الحلف من غير استحلاف، وقال قوم: يكره، لقوله تعالى {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224] ويحمل ما ورد من ذلك على ما إذا كان في طاعة، أو دعت إليها حاجة، كتأكيد أمر أو تعظيم من يستحق التعظيم.
14 -
وفيه أن حب الأنصار من الدين والإيمان، قال ابن التين: والمراد حب جميعهم، وبغض جميعهم، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له. فليس داخلا في ذلك.
15 -
وفيه استطابة القلوب.
16 -
وفي الرواية الحادية عشرة تواضع جرير رضي الله عنه وفضيلته.
17 -
وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم.
18 -
وإحسانه إلى من ينتسب إلى من أحسن إليه صلى الله عليه وسلم.
19 -
وفيه إكرام الأنصار.
20 -
وإكرام المحسن وتكريمه.
والله أعلم