الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(608) باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته
5205 -
عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فرطكم على الحوض".
5206 -
عن سهل رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فرطكم على الحوض. من ورد شرب. ومن شرب لم يظمأ أبدا. وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني. ثم يحال بيني وبينهم" قال أبو حازم فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث. فقال: هكذا سمعت سهلا يقول؟ قال فقلت: نعم. قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول "إنهم مني. فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك. فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي".
5207 -
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر. وزواياه سواء. وماؤه أبيض من الورق. وريحه أطيب من المسك. وكيزانه كنجوم السماء. فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدا".
5208 -
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم. وسيؤخذ أناس دوني. فأقول: يا رب! مني ومن أمتي. فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" قال: فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا.
5209 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو بين ظهراني أصحابه "إني على الحوض، أنتظر من يرد علي منكم. فوالله! ليقتطعن دوني رجال، فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي. فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك. ما زالوا يرجعون على أعقابهم".
5210 -
عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض. ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان يوما من ذلك، والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أيها الناس" فقلت للجارية: استأخري عني. قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء. فقلت: إني من الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لكم فرط على الحوض. فإياي! لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال. فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقا".
5211 -
وفي رواية عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول، على المنبر، وهي تمتشط "أيها الناس" فقالت لماشطتها: كفي رأسي. بنحو حديث بكير عن القاسم بن عباس.
5212 -
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت. ثم انصرف إلى المنبر. فقال "إني فرط لكم. وأنا شهيد عليكم. وإني، والله! لأنظر إلى حوضي الآن. وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض. وإني. والله! ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي. ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها".
5213 -
عن عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد. ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات. فقال: "إني فرطكم على الحوض. وإن عرضه كما بين
أيلة إلى الجحفة. إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي. ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
5214 -
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا فرطكم على الحوض. ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب! أصحابي، أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. نحو حديث الأعمش ومغيرة.
5215 -
عن حارثة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حوضه ما بين صنعاء والمدينة" فقال له المستورد: ألم تسمعه قال "الأواني"؟ قال: لا. فقال المستورد "ترى فيه الآنية مثل الكواكب".
5216 -
وفي رواية عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وذكر الحوض. بمثله. ولم يذكر قول المستورد وقوله.
5217 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أمامكم حوضا ما بين ناحيتيه كما بين جربا وأذرح".
5218 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح" وفي رواية ابن المثنى "حوضي" وحدثنا ابن نمير.
5219 -
وفي رواية عن عبيد الله، بهذا الإسناد، مثله. وزاد: قال عبيد الله: فسألته فقال: قريتين بالشأم. بينهما مسيرة ثلاث ليال. وفي حديث ابن بشر: ثلاثة أيام.
5220 -
عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح. فيه أباريق كنجوم السماء. من ورده فشرب منه، لم يظمأ بعدها أبدا".
5221 -
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما آنية الحوض؟ قال:"والذي نفس محمد بيده! لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية. آنية الجنة، من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه. يشخب فيه ميزابان من الجنة. من شرب منه لم يظمأ. عرضه مثل طوله. ما بين عمان إلى أيلة. ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل".
5222 -
عن ثوبان رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لبعقر حوضي، أذود الناس لأهل اليمن، أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم" فسئل عن عرضه فقال: "من مقامي إلى عمان" وسئل عن شرابه فقال: "أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل. يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة. أحدهما من ذهب، والآخر من ورق" وحدثنيه زهير بن حرب. حدثنا الحسن بن موسى. حدثنا شيبان عن قتادة. بإسناد هشام. بمثل حديثه. غير أنه قال: "أنا يوم القيامة، عند عقر الحوض".
5223 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأذودن عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة من الإبل".
5224 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن. وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء".
5225 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني. حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي، اختلجوا دوني. فلأقولن: أي رب! أصيحابي، أصيحابي. فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
5226 -
وفي رواية عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: بهذا المعنى. وزاد "آنيته عدد النجوم".
5227 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة".
5228 -
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. بمثله. غير أنهما شكا فقالا: أو مثل ما بين المدينة وعمان. وفي حديث أبي عوانة "ما بين لابتي حوضي".
5229 -
عن قتادة قال: قال أنس: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء".
5230 -
وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال مثله، وزاد "أو أكثر من عدد نجوم السماء".
5231 -
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني فرط لكم على الحوض. وإن بعد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة. كأن الأباريق فيه النجوم".
5232 -
عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فكتب إلي: إني سمعته يقول "أنا الفرط على الحوض".
-[المعنى العام]-
إن أفضل ما يقدم إلى العطشان الظمآن جرعة ماء، فإذا كان الظمأ شديدا لم يسبق له مثيل، وإذا كانت الشربة بما هو أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، في أباريق من ذهب وفضة، صافية لامعة كالنجوم في الليل، وإذا كان الساقي هو أحب حبيب كان في الدنيا، وإذا كان الشراب يروي ريا، لا يظمأ شاربه بعده أبدا، إذا كان الأمر كذلك كانت المنة أعظم منه، والفضل خير الفضل، والإحسان أفضل إحسان.
في الموقف العظيم يوم القيامة يشتد الحر، وتدنو الشمس من الرءوس، فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه، ومنهم من يبلغ عرقه نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبته، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبه، ومنهم من يبلغ فاه، ومنهم من يغطيه عرقه، حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، تعطي الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم البشر، حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون، حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ومن هذا الظمأ الشديد يتفرق الناس إلى الصراط، فيجد المؤمنون في طريقهم حوضا من شراب، مربع المساحة، طوله كعرضه، ضلعه مئات الأميال، يتسع لكل الواردين عليه، دون زحام، عليه أباريق وكيزان، كعدد النجوم في السماء الصافية التي لا غيم فيها ولا قمر، إذا مد المؤمن يده إلى الإبريق، أسرع الإبريق مملوءا إلى يده ثم إلى فمه، لا عناء، ولا مشقة، إذا نظر إلى مائه وجده أشد بياضا من اللبن، وإذا وصلت رائحة الشراب إلى أنفه أحس أنه أطيب من المسك، وإذا تذوقه وجده أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، متعة لم تخطر على قلب بشر، بعد حرمان وحاجة إليها لم تخطر على قلب بشر، ولمن هذا الحوض؟ ومن أين شرابه، إنه لمحمد صلى الله عليه وسلم، أكرمه ربه به، ليكرم به أمته، إن صاحبه الرءوف الرحيم واقف، يرحب بالواردين، وملائكة الله تحيط بهم في بهجة وسرور، تقول لهم: اشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، محمد صلى الله عليه وسلم يقف بجوار الحوض، وعلى قمته، وفي يده عصا صغيرة، أعظم من عصا موسى، بإشارتها يبتعد عن الحوض من لا يستحق الشرب، ويقرب من الحوض من هو أهل له، وبإشارتها يقدم إلى الحوض أناس على أناس، على أساس صالح أعمالهم وجهادهم في الدنيا، ينظمهم وينظم ورودهم بإشارة عصاه، وهو فرح بهم، مسرور بكثرتهم، لكن في غمرة هذا السرور يفاجأ بمنظر رهيب، جماعة ممن كانوا أصحابه، يعرفهم ويعرفونه، يردون نحو الحوض، ينادون: أنقذنا يا محمد.
عطاشى يا محمد. ويتجه الرسول صلى الله عليه وسلم نحوهم ليساعدهم، فتحول الملائكة بينه وبينهم، فيقول للملائكة: هؤلاء
أصحابي. هؤلاء أصحابي. هم مني ومن أمتي، إنني أعرفهم ويعرفونني؟ إلى أين تذهبون بهم، فتقول الملائكة: إلى النار، فيقول: ولماذا؟ فيقولون: إنك لا تدري ماذا أحدثوا في دينهم بعد موتك، إنهم بدلوا، وغيروا، وكفروا، وارتدوا، فيقول: سبحانك {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117].
ونرجع إلى المنظر البديع، منظر الحوض والشاربين، إن ماءه لا يغيض، ولا يفيض، لا يرتفع ولا يزيد ولا ينخفض عن مستواه، ولا ينقص رغم شرب الملايين وملايين الملايين، إن مدده من نهر الكوثر الذي يجري في الجنة، يصب فيه، فإذا رفعت بصرك إلى أعلى رأيت عجبا، ميزابين في الفضاء، أحدهما من ذهب، والآخر من فضة، يمسكهما الله، ما يمسكهما من أحد من بعده، إنهما يمتدان في السماء إلى الجنة، فيلقيان من شرابها في هذا الحوض قطعا قطعا، لا تسأل: كيف؟ ولا تعجب، فإنها أحوال الآخرة، فإنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سقانا الله من حوضه صلى الله عليه وسلم، شربة لا نظمأ بعدها أبدا.
-[المباحث العربية]-
(أنا فرطكم على الحوض) الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط هو الذي يتقدم الوارد، ليصلح له الحياض، والدلاء، ونحوها من أمور الاستسقاء، فمعنى:"أنا فرطكم على الحوض"، أي سابقكم لأهيئ وأعد لكم حوضي للشرب منه.
و"الحوض""ال" فيه للعهد، أي حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع الحوض حياض وأحواض، وهو مجمع الماء، وهل للنبي صلى الله عليه وسلم حوض واحد؟ أو أكثر؟ وهل للأنبياء أحواض؟ وأين مكان الحوض من أحداث يوم القيامة قبل الصراط؟ أو بعده؟ سيأتي تفصيل ذلك في فقه الحديث.
وقد تكلمت الروايات عن مساحته، وعن مائه، وعن أكوابه، وعمن يرده، وعمن يحال بينهم وبينه، فعن مساحته: تقول الرواية الثالثة "حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء" وتقول الرواية الثامنة "إن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة" و"أيلة" بفتح الهمزة وسكون الياء. مدينة، كانت عامرة، بطرف بحر القلزم، من طرف الشام، قال الحافظ ابن حجر: وهي الآن خراب، يمر بها الحاج من مصر، فتكون شماليهم، ويمر بها الحاج من غزة وغيرها، فتكون أمامهم، وإليها تنسب العقبة المشهورة عند المصريين، وبينها وبين المدينة النبوية نحو الشهر، بسير الأثقال، إن اقتصروا كل يوم على مرحلة.
وهي من مصر على أكثر من النصف من ذلك، وهي دون الثلث بين مصر ومكة، وهي أقرب لمصر. وقد مر قريبا أن صاحب أيلة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحه، وقال النووي: بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق نحو اثنتي عشرة مرحلة، وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل، فهي متوسطة بين المدينة، ودمشق ومصر.
أما الجحفة فهي على نحو سبع مراحل من المدينة، في الطريق إلى مكة، أو ثلاث مراحل من مكة، والمسافة بالمراحل لم تكن محددة، لأن المقصود بها كان المسافة التي تتعب عندها الإبل في
مسيرها، فينزل الركب ليستريح ويريح الرواحل، فبعضهم يقدرها بأربعة برد، وبعضهم يقدرها ببريدين، وحتى البريد بعضهم يقدره بفرسخين، وبعضهم يقدره بأربعة فراسخ، وحتى الفرسخ بعضهم يقدره بثلاثة أميال، وبعضهم يقدره بستة أميال، فما بين أيلة والجحفة يزيد على ثنتين وعشرين مرحلة، ولو قدرنا المرحلة بأربعة برد، والبريد بأربعة فراسخ، والفرسخ بثلاثة أميال، تصبح المسافة بين أيلة والجحفة ستة وخمسين ميلا وألف ميل، وإذا كان هذا عرض حوضه صلى الله عليه وسلم، وزواياه سواء، أي مربع الشكل كانت مساحته نحو مليون ومائة وخمسة عشر ألف ومائة وستة وثلاثين ميلا.
وفي الرواية الحادية عشرة "إن أمامكم حوضا، ما بين ناحيتيه، كما بين جربا وأذرح" وجرباء بفتح الجيم وسكون الراء، تأنيث أجرب، جاءت في البخاري ممدودة، وقال النووي: الصواب أنها مقصورة، قال: والمد خطأ، وأثبت صاحب التحرير المد، وجوز القصر، وأما "أذرح" فبهمزة مفتوحة، ثم ذال ساكنة، ثم راء مضمومة، بعدها حاء، قال النووي: هذا هو الصواب المشهور، ورواه بعضهم بالجيم، وهو تصحيف، وهي مدينة في طرف الشام، في قبلة الشوبك، بينها وبينه نحو نصف يوم، وهي في طرف الشراط - بفتح الشين - في طرفها الشمالي، و"تبوك" في قبلة "أذرح" بينهما نحو أربع مراحل، وبين "تبوك" ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربع عشرة مرحلة.
يقول الراوي عن هاتين المدينتين (جربا وأذرح)"قريتين بالشام، بينهما مسيرة ثلاث ليال" وقد غلطه الحافظ صلاح الدين العلائي، وقال: ليس كما قال، بينهما غلوة سهم، وهما معروفتان بين القدس والكرك، قال: وقد ثبت القدر المحذوف عند الدارقطني وغيره، بلفظ "ما بين المدينة، وجرباء وأذرح"، اهـ. فالمسافة نحو أربع عشرة مرحلة.
وفي الرواية الثالثة عشرة "عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة" قال النووي: وأما عمان فبفتح العين وتشديد الميم، وهي بلدة بالبلقاء من الشام، والمعروف في روايات الحديث وغيرها ترك صرفها. وتنسب إلى البلقاء لقربها منها، والبلقاء بلدة معروفة في فلسطين، والظاهر أن فيه مقدرا محذوفا، كسابقه أي ما بينهما وبين المدينة، ففي الرواية المتممة للعشرين "مثل ما بين المدينة وعمان"، وفي الرواية السادسة عشرة "قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وكذا في الرواية الثانية والعشرين، وقوله "من اليمن" احتراز من صنعاء التي بالشام، وفي رواية "مثل عدن وأيلة" وفي أخرى "أبعد من أيلة إلى عدن" وفي رواية "ما بين عمان إلى أيلة" و"عمان" هذه بضم العين وفتح الميم مخففة، بلد معروف على ساحل البحر من جهة البحرين، وفي رواية كما بين صنعاء إلى المدينة وفي رواية ما بين بصرى إلى صنعاء أو ما بين أيلة إلى مكة وبصرة بضم الباء وسكون الصاد بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز وفي رواية ما بين "مكة وعمان" وفي رواية "ما بين صنعاء ومكة" وفي رواية "كما بين البيضاء إلى بصرى" والبيضاء بالقرب من الربذة، البلد المعروف بين مكة والمدينة.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه المسافات متقاربة، وكلها ترجع إلى نحو نصف شهر، أو تزيد قليلا
أو تنقص، وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف، فقال عياض: هذا من اختلاف التقدير، لأن ذلك لم يقع في حديث واحد، حتى يعد اضطرابا من الرواة، وإنما جاء في أحاديث مختلفة، عن غير واحد من الصحابة، سمعوه في مواطن مختلفة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في كل منها مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته، بما يسنح له من العبارة، ويقرب ذلك، للعلم ببعد بين البلاد النائية، بعضها عن بعض، لا على إرادة المسافة المحققة. قال: فبهذا يجمع بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى، وتعقبه الحافظ ابن حجر، من جهة أن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وأما هذا الاختلاف المتباعد، الذي يزيد تارة على ثلاثين يوما، وينقص إلى ثلاثة أيام، فلا.
وقال القرطبي: ظن بعض الجاهلين أن الاختلاف في قدر الحوض اضطراب، وليس كذلك، ثم نقل كلام القاضي عياض، وزاد: وليس اختلافا، بل كلها تفيد أنه كبير، متسع، متباعد الجوانب، ثم قال: ولعل ذكره للجهات المختلفة بحسب من حضره، ممن يعرف تلك الجهة، فيخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها.
وأجاب النووي بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكبيرة، والأكثر ثباتا بالحديث الصحيح، فلا معارضة، قال الحافظ ابن حجر: وحاصله أنه يشير إلى أنه أخبر أولا بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بها، كأن الله تفضل عليه باتساعه، شيئا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة، والله أعلم.
وعن مائه وأكوابه تقول الرواية الثالثة "ماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "الورق" بكسر الراء، وهو الفضة، قال: والنحويون يقولون: إن فعل التعجب الذي يقال فيه: هو أفعل من كذا (يقصد أفعل التفضيل فهو هنا أفعل تفضيل، وليس أفعل تعجب، وإن كان هذا الشرط واحدا فيهما) إنما يكون فيما كان ماضيه على ثلاثة أحرف، فإن زاد لم يتعجب من فاعله - أي ولم يصغ منه أفعل التفضيل إلا بواسطة - وإنما يتعجب من مصدره، فلا يقال: ما أبيض زيدا، ولا زيد أبيض من عمر، وإنما يقال: ما أشد بياضه، وهو أشد بياضا من كذا، وقد جاء في الشعر أشياء من هذا الذي أنكروه، فعدوه شاذا، لا يقاس عليه، وهذا الحديث يدل على صحته، وهي لغة، وإن كانت قليلة الاستعمال، ومنها قول عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وفي الرواية الثانية عشرة "فيه أباريق كنجوم السماء" وفي الرواية الثالثة عشرة "لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل" وفي الرواية الرابعة عشرة "وسئل عن شرابه فقال: أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يغت فيه ميزابان، يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من الورق" وفي الرواية السادسة عشرة "وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء" وفي الرواية الواحدة والعشرين "ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء" زاد في ملحق الرواية "أو أكثر من عدد نجوم السماء" وفي الرواية الثانية والعشرين "كأن الأباريق فيه النجوم".
فتحصل لنا من أوصاف أوانيه:
من حيث العدد: هي أكثر من عدد نجوم السماء، زاد في الرواية الثالثة عشرة "ألا في الليلة المظلمة المصحية" و"ألا" للتنبيه والتأكيد، ورؤية النجوم في الليلة المظلمة التي لا قمر فيها أكثر وضوحا ولمعانا، وأكثر عددا. قال النووي: المختار والصواب أن هذا العدد للآنية على ظاهره، وأنها أكثر عددا من نجوم السماء، ولا مانع عقلي ولا شرعي يمنع من ذلك، بل ورد الشرع به مؤكدا، كما قال صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء" كذا في الرواية الثالثة عشرة - وقال القاضي عياض: هذا إشارة إلى كثرة العدد، وغايته الكثرة، من باب قوله صلى الله عليه وسلم "لا يضع العصا عن عاتقه" - كناية عن كثرة السفر - وهو من باب المبالغة، معروف في الشرع واللغة، ولا يعد كذبا إذا كان المخبر عنه في حيز الكثرة والعظم ومبلغ الغاية في بابه، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، قال: ومثله "كلمته ألف مرة" و"لقيته مائة كرة" فهذا جائز إذا كان كثيرا، وإلا فلا، قال النووي: هذا كلام القاضي، الصواب الأول.
من حيث الجنس: الذهب والفضة.
من حيث النوع والشكل: آنية. إبريق. كوز، وكلها إناء له عروة، وكأن اختياره هنا لأن الشارب سيغمسه في الحوض بيده، فناسبه ما له عروة، بخلاف الشراب في الجنة، فإنه في كأس أو كوب، يملأ من غيب إلى عبد.
من حيث اللون: أشد بياضا من اللبن، وأبيض من الفضة اللامعة.
من حيث الطعم: أحلى من العسل.
من حيث الرائحة: أطيب من المسك.
من حيث البرودة: عند أحمد "أبرد من الثلج" وعند البزار، والترمذي "وماؤه أشد بردا من الثلج".
من حيث الليونة: عند ابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا "وألين من الزبد".
من حيث مصدر مائه: في روايتنا الرابعة عشرة "يغت فيه ميزابان، يمدانه من الجنة، أحدهما ذهب، والآخر من الورق" ومعنى "يغت" بفتح الياء وضم الغين وكسرها، وتشديد التاء، أي يدفقان فيه من أعلى، وقيل: يصبان فيه دائما صبا شديدا، ووقع في بعض النسخ "يعب" بضم العين، بعدها باء والعب الشرب بسرعة في نفس واحد، ووقع في رواية "يثعب" بثاء وعين وباء، أي ينفجر.
و"ميزابان" تثنية ميزاب، وأصله "مئزاب" بهمز، فخففت إلى ياء، وهو أنبوب أو قناة يصرف بها الماء من سطح بناء إلى وضع عال، وفي الرواية الثالثة عشرة "آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة" يشخب بضم الخاء وفتحها، والشخب السيلان وأصله ما خرج من تحت يد الحالب عند كل غمرة، وعصرة لضرع الشاة.
وقال الحافظ ابن حجر: الكوثر نهر داخل الجنة، ماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر، لأنه يمد منه، فهو مادة الحوض، كما جاء صريحا في حديث البخاري "بينما أن أسير في
الجنة، إذا أنا بنهر، حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر، الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه - أو طينه - مسك أزفر".
وأما عمن يرده، ويشرب منه، ومن يحال بينهم وبينه: فتقول الرواية الثانية "من شرب لم يظمأ أبدا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني؟ فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، فأقول: سحقا. سحقا لمن بدل بعدي" وتقول الرواية الرابعة "إني على الحوض، حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا رب. مني ومن أمتي؟ فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" وفي الرواية الخامسة "إني على الحوض أنتظر من يرد علي منكم، فوالله، ليتقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب مني ومن أمتي؟ فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، مازالوا يرجعون على أعقابهم" وفي الرواية السادسة "إني لكم فرط على الحوض، فإياي، لا يأتين أحدكم فيذب عني، كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا" وفي الرواية التاسعة "أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب. أصحابي؟ أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وفي الرواية الرابعة عشرة "إني لبعقر حوضي" أي لواقف في قاعدته "أذود الناس لأهل اليمين" أي أدفع الناس، لأوسع لأهل اليمين أن يشربوا "أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم" بفتح الياء وسكون الراء وفتح الفاء وتشديد الدال، أي حتى يتفرقوا عنهم، ويخلص لهم، وفي الرواية الخامسة عشرة "لأذودن عن حوضي رجالا، كما تذاد الغريبة من الإبل" وفي الرواية السابعة عشرة "ليردن علي الحوض رجال، ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إلي، اختلجوا دوني" بضم التاء وكسر اللام وضم الجيم، أي جذبوا وانتزعوا بعيدا عني "فلأقولن: أي رب.
أصيحابي؟ أصيحابي؟ ، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وفي رواية للبخاري "إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام، أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم" وفي رواية له "يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض" بضم الياء وسكون الجيم وفتح اللام، أي يطردون ويبعدون وفي رواية "فيحلئون عنه" بضم الياء وفتح الحاء، وتشديد اللام المفتوحة، بعدها همزة مضمومة، أي يطردون "فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى" وفي رواية له "بينا أنا قائم، فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم. فقلت: أين؟ قال: إلى النار. والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار، والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل الغنم" أي لا يخلص من هؤلاء الذين وفدوا من الحوض، وكادوا يردونه فصدوا عنه، والهمل بفتحتين الإبل بلا راع أو الضالة، أي لا يرد منها إلا القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره.
من هذه الروايات يتبين:
- أن من شرب من الحوض لا يظمأ أبدا. قال القاضي: ظاهره أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار، فهذا هو الذي لا يظمأ بعده، قال: وقيل: لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من
النار، قال: ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة، وقدر عليه دخول النار، لا يعذب فيها بالظمأ، بل يكون عذابه بغير ذلك، لأن ظاهر هذا الحديث أن جميع الأمة يشرب منه، إلا من ارتد، وصار كافرا، وسيأتي مزيد لهذه المسألة في فقه الحديث.
(من ورد شرب) أي من ورد حوضي، وفي الكلام قيد ملاحظ، أي من ورد الحوض ومكن من الشرب، ففي الأحاديث السابقة أن قوما يردون، فيذادون، فلا يشربون، ففي الرواية السابعة عشرة "ليردن علي الحوض رجال" وفي روايتنا الثانية عشرة "من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا" أو المراد من الورود الورود المفضي إلى الشرب الموصل إليه فعلا، والمراد من الورود مع الذود، والطرد، القرب والدنو منه.
(ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني) بعلامات، وليست المعاصرة والرؤية الدنيوية شرطا للمعرفة، ففي الرواية الرابعة والخامسة "مني ومن أمتي" لكن في الرواية السابعة عشرة "ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني" وفي الرواية التاسعة "فأقول: يا رب، أصحابي، أصحابي؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فالظاهر أن المراد المعرفة بالرؤية والصحبة الشرعية، ويكونون ممن قتلوا في حروب الردة مثلا.
(ثم يحال بيني وبينهم) بينت رواية البخاري السابقة أحداث هذه الحيلولة، وإلى أين يذهبون، وفي الرواية التاسعة "ولأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم".
(إنك لا تدري ما عملوا بعدك) في الرواية الرابعة "أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم" كناية عن الردة والرجوع عن الإسلام، وفي الرواية السادسة والتاسعة "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
(فأقول: سحقا. سحقا. لمن بدل بعدي)"سحقا" بسكون الحاء، ويجوز ضمها، ومعناه بعدا، بعدا، ونصب بتقدير فعل، أي ألزمهم الله سحقا، يقال: سحقه الله وأسحقه، أي أبعده، وسحقته الريح، أي طردته، وأبعدته، والجملة خبرية.
(فقالت لماشطتها: كفي رأسي) بضم الكاف وتشديد الفاء، أي اجمعي شعري وضميه بعضه إلى بعض، لأغطيه، وأخرج.
(صلى على أهل أحد صلاته على الميت) قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت.
(وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "مفاتيح" في اللفظين، بالياء، قال القاضي: وروي "مفاتح" بحذف الياء، فمن أثبتها فهو جمع مفتاح، ومن حذفها فهو جمع مفتح، وهما لغتان فيه.
وفي الرواية الثامنة "ثم صعد المنبر، كالمودع للأحياء والأموات" أي خرج إلى قتلى أحد، ودعا لهم، دعاء مودع، ثم دخل المدينة، فصعد المنبر، فكانت خطبته هذه آخر ما خطب، خطبة مودع، حتى قال النواس بن سمعان: قلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع.
وتوديع الأحياء ظاهر، لأن سياقه يشعر بأن ذلك كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما
توديع الأموات، فيحتمل أن يكون الصحابي أراد بذلك انقطاع زيارته الأموات بجسده، لأنه بعد موته - وإن كان حيا - فهي حياة أخروية، لا تشبه الحياة الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد بتوديع الأموات، استغفاره لهم.
(فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر) أي فكانت هذه الخطبة آخر خطبه صلى الله عليه وسلم على المنبر، واكتفى بنفي الرؤية ليكون صادقا، إذ يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يره.
(فقال له المستورد: ألم تسمعه قال: الأواني؟ قال: لا) أي قال المستورد لشيخه: ألم تسمع شيخك يذكر في الحديث وصف أواني الحوض؟ قال الشيخ: لا. لم أسمع.
(فقال المستورد: ترى فيه الآنية مثل الكواكب)"ترى" بضم التاء، مبني للمجهول، بمعنى "تظن" و"الآنية" نائب فاعل، وهي للجنس، فما صدقها متعدد، و"مثل" مفعول منصوب، والمعنى تظن الأواني في الحوض مثل الكواكب، يخيل لرائيها أنها كواكب في الكثرة والصفاء واللمعان.
(إن أمامكم حوضا) بفتح الهمزة، أي قدامكم زمنا، وفي رواية "حوضي".
(والذي نفسي بيده، لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة، من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه) أي آخر حياته، أي أبدا، قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "آنية الجنة" فضبطه بعضهم برفع "آنية" وبعضهم بنصبها، وهما صحيحان فمن رفع فخبر مبتدأ محذوف، أي هي آنية الجنة، ومن نصب فبإضمار "أعني" أو نحوه.
(إني لبعقر حوضي) العقر بضم العين وفتحها، مع سكون القاف، وهو أصل كل شيء، وعقر الدار وسطها.
(أذود الناس لأهل اليمن) أي أدفعهم بعيدا، لأخلي الحوض أو أوسع لشرب أهل اليمن، لسبقهم إلى الإسلام، وتمسكهم به، وإخلاصهم له، ورقة قلوبهم فيه.
(أضرب بعصاي، حتى يرفض عليهم) أي حتى يسيل عليهم، ويتمكنوا منه، قال القاضي: وعصاه المذكورة في هذا الحديث هي المكنى عنها بالهراوة في وصفه صلى الله عليه وسلم في كتب الأوائل بصاحب الهراوة، قال أهل اللغة: الهراوة بكسر الهاء العصا، قال: ولم يأت لمعناها في صنعه صلى الله عليه وسلم تفسير إلا ما يظهر في هذا الحديث، قال النووي: وهذا الذي قال في تفسير الهراوة بهذه العصا بعيد أو باطل، لأن المراد بوصفه بالهراوة تعريفه بصفته، يراها الناس معه، فيستدلون بها على صدقه، وأنه المبشر به، المذكور في الكتب السابقة، فلا يصح تفسيرها بعصا تكون في الآخرة، والصواب في تفسير صاحب الهراوة ما قاله الأئمة المحققون أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسك القضيب بيده كثيرا، وقيل: لأنه كان يمشي والعصا بين يديه، وتغرز له، فيصلي إليها، وهذا مشهور في الصحيح.
(لأذودن عن حوضي رجالا، كما تذاد الغريبة من الإبل) قال النووي: معناه كما يذود الساقي الناقة الغريبة عن إبله، إذا أرادت الشرب مع إبله. اهـ. والحكمة في الذود المذكور، أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، على ما تقدم أن لكل نبي حوضا، وبأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم، فيكون ذلك من جملة إنصافه، ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلا عليهم بالماء، ويحتمل أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. كذا قال الحافظ ابن حجر، وفيه نظر، فليس في الحديث إشارة إلى الدلالة على حوض آخر، وكل ما فيه الإبعاد عن حوضه، والاحتمال الثاني صحيح، ولا شيء فيه، والظاهر أن هؤلاء الرجال من أمم أخرى غير الإسلام، لتشبيههم بالإبل الغريبة.
(حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إلي اختلجوا دوني)"ورفعوا إلي" بالبناء للمجهول، أي أظهرهم الله حتى أعرفهم اقتطعوا وانتزعوا بعيدا عني.
(ما بين لابتي حوضي) أي ما بين ناحيتي حوضي، كما جاء في الرواية الثامنة عشرة، وأصلها الأرض ذات الحجارة السود، فأطلقت على مطلق شاطئ الحوض.
-[فقه الحديث]-
قال النووي: قال القاضي عياض رحمه الله: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول، ولا يختلف فيه، قال القاضي: وحديثه متواتر النقل، رواه خلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمرو بن العاص وعائشة وأم سلمة، وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب، والمستورد وأبي ذر، وثوبان وأنس وجابر بن سمرة، ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وعبد الله بن زيد، وأبي برزة وسويد بن جبلة، وعبد الله بن الصنابحي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وغيرهم، قال النووي: ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أبي هريرة، ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب وعائذ بن عمر وآخرين، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور، بأسانيده وطرقه المتكاثرات، قال القاضي: وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا، اهـ وزاد الحافظ ابن حجر طرقا أخرى، ثم قال:
فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفسا، وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه، فزادت العدة على الخمسين، ولكثير من هؤلاء الصحابة زيادة على الحديث الواحد، كأبي هريرة وأنس وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن عمرو، وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض، وفي صفته قال: وبلغني أن بعض المتأخرين وصلها إلى رواية ثمانين صحابيا.
وقال القرطبي في المفهم: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه، ويصدق به أن الله تعالى قد خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي، وقد أجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة، وأحلوه عن ظاهره، وغالوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية، تلزم من
حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق من حرفه إجماع السلف، وفارق مذهب أئمة الخلف، قال الحافظ ابن حجر: أنكره الخوارج وبعض المعتزلة.
وقد اختلف العلماء في موقع الحوض والشرب منه من أحداث الآخرة، فبعضهم يرى أنه بعد الصراط، وبعضهم يرى أنه قبل الصراط، وبعضهم يرى أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين أحدهما قبل الصراط والآخر بعد الصراط في الجنة.
قال الحافظ ابن حجر: وإيراد البخاري لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة، وبعد نصب الصراط إشارة منه إلى أن الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط، والمرور عليه، وقد أخرج أحمد والترمذي عن أنس قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان، قلت فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض".
وقد استشكل كون الحوض بعد الصراط، بما جاء في بعض أحاديث الباب من أن جماعة يدفعون عن الحوض، بعد أن يكادوا يردون، ويذهب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض، يكون قد نجا من النار، فكيف يرد إليها؟ قال الحافظ: ويمكن أن يحمل على أنهم يقربون من الحوض، بحيث يرونه ويرون النار، فيدفعون إلى النار، قبل أن يخلصوا من بقية الصراط، اهـ. وهذا احتمال بعيد مستبعد.
وذهب القرطبي إلى أن الحوض يكون قبل الصراط، فإن الناس يردون الموقف عطاشى، فيرد المؤمنون الحوض، وتتساقط الكفار في النار، بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا؟ فترفع لهم جهنم، كأنها سراب، فيقال: ألا ترون؟ فيظنونها ماء، فيتساقطون فيها، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر بأن الصراط جسر جهنم، وأنه بين الموقف والجنة، وأن المؤمنين يمرون عليه، لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة، لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها.
قال القرطبي: والصحيح أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، أحدهما في الموقف، قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرا.
-[ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم]-
1 -
من قوله في الرواية السابعة "وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن" قال النووي: هذا تصريح بأن الحوض حوض حقيقي، على ظاهره، وأنه مخلوق موجود الآن.
2 -
وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، لتفخيم الشيء وتوكيده.
3 -
ومن قوله "أعطيت مفاتيح خزائن الأرض" معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض، وقد وقع ذلك والحمد لله.
4 -
ومن قوله "وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي" أن الأمة لا ترتد جملة، وقد عصمها الله تعالى من ذلك.
5 -
ومن قوله "ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها" أن الأمة ستتنافس في الدنيا، وقد وقع ذلك أيضا.
6 -
وأنها ستتقاتل من أجل الدنيا، ويهلك بعضها بعضها، وقد وقع.
7 -
ومن قوله في الرواية السابعة أيضا "وأنا شهيد عليكم" أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته.
8 -
ومن حديث أم سلمة، روايتنا السادسة، من قولها "إني من الناس" دليل لدخول النساء في خطاب الناس، وهذا متفق عليه، وإنما اختلفوا في دخولهن في خطاب الذكور، قال النووي: ومذهبنا أنهن لا يدخلن فيه.
9 -
وفيه إثبات القول بالعموم.
10 -
قال الحافظ ابن حجر: وقد اشتهر اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة، رفعه "إن لكل نبي حوضا" وقد أشار الترمذي إلى أنه اختلف في وصله وإرساله، وأن المرسل أصح، قال الحافظ ابن حجر: والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لكل نبي حوضا، وهو قائم على حوضه، بيده عصا، يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يتباهون أيهم أكثر تبعا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا" وعند ابن أبي الدنيا، من حديث أبي سعيد، رفعه "وكل نبي يدعو أمته، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام" - الجماعة الكثيرة فوق الأربعين - "ومنهم من يأتيه العصبة" - من العشرة إلى الأربعين - "ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة" قال الحافظ ابن حجر: فإن ثبت فالمختص بنبينا صلى الله عليه وسلم الكوثر، الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة.
11 -
ومن الرواية الرابعة عشرة كرامة لأهل اليمن، في تقديمهم للشرب منه.
12 -
ومن قوله "أصحابي؟ أصحابي؟ " في الرواية التاسعة، وقوله في الرواية الثانية "أعرفهم ويعرفوني" دليل لصحة تأويل من تأول أنهم أهل الردة، ولهذا قال فيهم:"سحقا. سحقا" ولا يقول ذلك في مذنبي الأمة بل يشفع لهم، ويهتم لأمرهم.
13 -
ومن حديث أم سلمة، روايتنا السادسة الخطبة عند الأمر الهام.
والله أعلم