الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(656) باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه
5532 -
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجنا من قومنا غفار وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا. فنزلنا على خال لنا. فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا. فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فنثا علينا الذي قيل له. فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها. وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي. فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن. فخير أنيسا فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها قال: وقد صليت، يا ابن أخي! قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين. قلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي. أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء. حتى تعلوني الشمس فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك. يزعم أن الله أرسله قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي، أنه شعر. والله! إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر قال فأتيت مكة. فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم. حتى خررت مغشيا علي. قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر. قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها. ولقد لبثت يا ابن أخي! ثلاثين بين ليلة ويوم ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان، إذ ضرب على أسمختهم. فما يطوف بالبيت أحد وامرأتين منهم تدعوان إسافا ونائلة.
قال: فأتتا علي في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى قال: فما تناهتا عن قولهما قال: فأتتا علي فقلت: هن مثل الخشبة. غير أني لا أكني. فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا! قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. وهما هابطان قال: "ما
لكما؟ " قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قال: "ما قال لكما؟ " قالتا: إنه قال لنا كلمة تملا الفم. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر. وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى. فلما قضى صلاته (قال أبو ذر) فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فقال: "وعليك ورحمة الله" ثم قال: "من أنت؟ " قال: قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته. فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبه. وكان أعلم به مني ثم رفع رأسه ثم قال: "متى كنت ها هنا؟ " قال: قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال: "فمن كان يطعمك؟ " قال: قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما أجد على كبدي سخفة جوع قال: "إنها مباركة إنها طعام طعم" فقال أبو بكر: يا رسول الله: ائذن لي في طعامه الليلة. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. وانطلقت معهما ففتح أبو بكر بابا. فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. وكان ذلك أول طعام أكلته بها. ثم غبرت ما غبرت. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل. لا أراها إلا يثرب. فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم" فأتيت أنيسا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت. قال: ما بي رغبة عن دينك. فإني قد أسلمت وصدقت. فأتينا أمنا. فقالت: ما بي رغبة عن دينكما. فإني قد أسلمت وصدقت فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا. فأسلم نصفهم. وكان يؤمهم أيماء بن رحضة الغفاري. وكان سيدهم.
وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فأسلم نصفهم الباقي. وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله! إخوتنا نسلم على الذي أسلموا عليه. فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله".
5533 -
وفي رواية عن حميد بن هلال بهذا الإسناد، وزاد بعد قوله - قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر - قال: نعم. وكن على حذر من أهل مكة. فإنهم قد شنفوا له وتجهموا.
5534 -
وفي رواية عن أبي ذر قال: يا ابن أخي! صليت سنتين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني الله. واقتص الحديث بنحو حديث سليمان
بن المغيرة. وقال في الحديث: فتنافرا إلى رجل من الكهان قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه قال: فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا. وقال أيضا في حديثه: قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام. قال: فأتيته. فإني لأول الناس حياه بتحية الإسلام. قال: قلت: السلام عليك يا رسول الله! قال: "وعليك السلام. من أنت؟ " وفي حديثه أيضا: فقال: "منذ كم أنت ها هنا؟ " قال: قلت: منذ خمس عشرة. وفيه: فقال أبو بكر أتحفني بضيافته الليلة.
5535 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي. فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء. فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الآخر حتى قدم مكة. وسمع من قوله. ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق. وكلاما ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني فيما أردت. فتزود وحمل شنة له فيها ماء. حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه. وكره أن يسأل عنه. حتى أدركه - يعني الليل - فاضطجع. فرآه علي فعرف أنه غريب. فلما رآه تبعه. فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى أصبح. ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد فظل ذلك اليوم. ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى. فعاد إلى مضجعه. فمر به علي. فقال: ما أنى للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه. فذهب به معه. ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك. فأقامه علي معه. ثم قال له: ألا تحدثني؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني، فعلت. ففعل فأخبره فقال: فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا أصبحت فاتبعني. فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل. فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه. فسمع من قوله وأسلم مكانه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" فقال والذي نفسي بيده! لأصرخن بها بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد. فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه. فأتى
العباس فأكب عليه. فقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم. فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها. وثاروا إليه فضربوه. فأكب عليه العباس فأنقذه.
-[المعنى العام]-
أبو ذر الغفاري الزاهد المشهور، الصادق اللهجة، مختلف في اسمه واسم أبيه، والمشهور أنه جندب بن جنادة بن سكن، وقيل: اسم جده سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وأمه اسمها رملة بنت الوقيعة، غفارية أيضا، والحديث يحكي قصة إسلامه وأنه من السابقين الأوائل يقال: إن إسلامه كان بعد أربعة، وانصرف إلى بلاده، فأقام بها، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومضت بدر وأحد، ولم يتهيأ له الهجرة إلا بعد ذلك، وكان طويلا نحيفا أسمر اللون وكان صلى الله عليه وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويفتقده إذا غاب، وقد روي عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها، وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد نشب فيها بشيء غيري" فكان زاهدا واشتهر عنه مذهب يقول: المال مال الله، وأن كل فضل زائد عن الحاجة من مال هو مال المسلمين وهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34، 35] كان يرى أن هذه الآية نزلت في ذلك وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة.
سكن الشام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعظ الناس في المسجد، ويقول: هلم لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله. فضاق به معاوية ذرعا، وكان واليا على الشام من قبل عثمان فكتب إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر فكتب إليه عثمان: أن أقدم علي، فقدم المدينة، وأخذ يقول في مسجد المدينة ما كان يقوله في مسجد الشام، وتذمر المسلمون إلى عثمان من قول أبي ذر، وأخذوا ينفرون إذا رأوا أبا ذر بل يفرون من وجهه إذا رأوه في الطريق، أو يتجمعون حوله، يسألونه عن سبب إخراجه من الشام، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام، فقال له: تنح قريبا عن المدينة، أو دع ما تقول.
فقال: والله لا أدع ما كنت أقوله، فاختار الربذة - بفتح الراء والباء قرية بين مكة والمدينة - فنزل بها حتى مات سنة إحدى وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يرحم الله أبا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويحشر وحده" رضي الله عنه وأرضاه.
-[المباحث العربية]-
(خرجنا من قومنا غفار) سيأتي قريبا من فضائل هذه القبيلة.
(وكانوا يحلون الشهر الحرام) جملة معترضة ولعلها لبيان الدافع على خروجهم من قومهم، إذ كان أبو ذر وأخوه من المحافظين على الأمور الدينية.
(فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا فنزلنا على خال لنا) تفصيل للمجمل في قوله سابقا "خرجنا" و"أنيس" بضم الهمزة مصغرا، كان أكبر من أبي ذر، وأمهما رملة بنت الوقيعة غفارية أيضا والظاهر أن هذا الخروج كان هجرة ولم يكن زيارة ويحتمل أن خالهما قد تزوج من قوم آخرين فأقام عندهم، واعتبروا قومه، لأننا قلنا: إن أمه غفارية، فخاله كذلك.
(فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه) أي وحقدوا علينا حياتنا معه حياة هنيئة ونحن من قوم لا يحبونهم، فأوقعوا فتنة بيننا وبينه.
(فقالوا) أي قال الواشون منهم لخالي وفي رواية "فأتاه رجل فقال له".
(إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس) كانوا قد أقاموا لهم منزلا بجوار منزل خالهم وكانت لهم شياههم وإبلهم التي خرجوا بها فكانت الوشاية أن أنيسا يستغل خروج خاله من منزله، ليدخل على زوجة خاله.
(فجاءنا خالنا، فنثا علينا الذي قيل له)"نثا" نون ثم ثاء مخففة، أي أفشى وأذاع، يقال: نثا الحديث، ينثوه، نثوا، بثه.
(فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) أي فقلت لخالي: كان معروفك دينا في رقابنا صافيا جليلا لكن بهذا الاتهام كدرته وعكرته.
(ولا جماع لك فيما بعد) أي ولا نجتمع معك في مكان بعد ذلك، وفي رواية "فبلغ أخي، فقال: والله لا أساكنك، فارتحلنا"
(فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها) الصرمة بكسر الصاد القطعة من الإبل وتطلق أيضا على القطعة من الغنم، والمعنى فجمعنا إبلنا من مرعاها فارتحلنا عليها يقال: احتمل القوم إذا ارتحلوا.
(وتغطى خالنا ثوبه، فجعل يبكي) على هذه النتيجة المحزنة، يقال: تغطى بثوبه ففي الكلام حذف وإيصال.
(فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة) أي حتى وصلنا حمى مكة وأرضها وواديها وحيازتها فضربنا منزلنا بعيدا عن مبانيها.
(فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخير أنيسا، فأتانا أنيس بصرمتنا، ومثلها معها) أصل المنافرة: المفاخرة والمحاكمة فيفخر كل واحد
من الرجلين على الآخر، ثم يتحاكمان إلى رجل، ليحكم أيهما خير، وكانت هذه المفاخرة بالشعر، وكان أنيس شاعرا، كما صرح بذلك في الرواية، فغلب الآخر والمعنى فراهن أنيس رجلا، أيهما خير شعرا وكان الرهن صرمة ذا، وصرمة ذاك، فأيهما كان أفضل أخذ الصرمتين، فتحاكما إلى كاهن، فحكم بأن أنيسا أفضل، وخير أنيسا أي جعله الخيار والأفضل، فرجع أنيس من رحلته ومن مرعاه بصرمتهم وبمثلها، وفي الملحق الثاني للرواية الأولى "فتنافرا إلى رجل من الكهان، فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه" أي يمدح الكاهن بالشعر حتى غلب الآخر قال أبو ذر "فأخذنا صرمته، فضممناها إلى صرمتنا".
(قال: وقد صليت يابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) قلت: لمن؟ "أي لمن كنت تصلي؟ " قال: "لله. قلت: فأين توجه؟ " أي فإلى أي جهة تتوجه في صلاتك قال: "أتوجه حيث يوجهني ربي" أي كيفما تيسر، وفي ملحق الرواية "صليت سنتين" فيحتمل أن المدة سنتان وأشهر فجبر الكسر تارة، وألغى الكسر تارة أخرى.
وهذه المقاولة كانت بين أبي ذر وبين عبد الله بن الصامت، راوي الحديث عن أبي ذر، وليس ابن أخيه على الحقيقة، فقوله "يابن أخي" جرى على عادة العرب في التراحم.
(أصلي عشاء، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس) الخفاء - بكسر الخاء - الكساء، وجمعه أخفية ككساء وأكسية قال القاضي: ورواه بعضهم "جفاء" بجيم مضمومة، وهو غثاء السيل، قال: والصواب المعروف الأول، والمعنى أنه كان يصلي من أول الليل حتى يقرب آخره، فينام من السهر والإعياء كثوب لا حراك به ولا إحساس، حتى ترتفع الشمس، أما كيف كان يصلي؟ فالظاهر أنها كانت مطلق عبادة ودعاء وثناء على الله.
(فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فاكفني) أي إن لي رغبة في النزول إلى البلدة، فقم مقامي في رعاية الشئون وفي ملحق الرواية "فاكفني حتى أذهب فأنظر" أي فأنظر أمر هذا الرجل الذي تكلمنا عنه، ففي الرواية الثانية "فلما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي - أي وادي مكة، أي دورها - فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني" وفي ملحق الرواية الأولى "وكن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له، وتجهموا" "شنفوا" بفتح الشين وكسر النون أي أبغضوه والتجهم المقابلة بغلظة وكراهية.
(فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء) أي أبطأ علي ثم جاء في الرواية الثانية "فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر" قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ وفي بعضها "الأخ" بدل "الآخر" وهو هو، فكلاهما صحيح.
(قال: لقيت رجلا بمكة على دينك) أي على شبه عقيدتك وعبادتك.
(يزعم أن الله أرسله) الظاهر أن أنيس لقيه، وسمع منه ففي الرواية الثانية "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر" و"كلاما" منصوب بفعل محذوف أي ويقول كلاما كقولهم: علفتها تبنا وماء باردا، والتقدير وسقيتها ماء باردا.
(لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم) أي فما يشبه قوله قولهم فليس بكاهن.
(ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر)"أقراء الشعر" بسكون القاف، طرقه وأنواعه وقوافيه وبحوره، جمع قرء بضم القاف وسكون الراء، فهو مشترك لفظي بين الحيض والطهر والقافية. والمعنى: لقد قلبت قوله على أصناف الشعر، فما هو بنوع منه، ولا يقبل على لساني ولا على لسان غيري أنه شعر.
(قلت: فاكفني، حتى أذهب فأنظر) أي فقم هنا بالشئون، حتى أذهب إلى مكة وأقابله وأنظر أمره وأتدبره، وفي الرواية الثانية "رأيته يأمر
بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما أردت". قال النووي: كذا في جميع نسخ مسلم "فيما" بالفاء، وفي رواية البخاري "مما" بالميم، وهو أجود، أي ما بلغتني غرضي وما أزلت عني هم كشف هذا الأمر.
(قال: فأتيت مكة فتضعفت رجلا منهم) أي نظرت إلى أضعف رجل لاقيته، فسألته.
واختار الضعيف لأنه مأمون الغائلة غالبا وفي رواية "فتضيفت" بالياء وأنكرها القاضي وغيره، قالوا: لا وجه له هنا.
(فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ ) يقال: صبأ من شيء إلى شيء إذا انتقل، وصبأ الرجل ترك دينه، ودان بآخر، والظاهر أن الرجل أحس أن أبا ذر يميل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ويرغب في لقائه حبا فيه، لقوله "تدعونه" لأنهم كانوا يمنعون الغريب أن يلتقي به.
(فأشار إلي فقال: الصابئ)"الصابئ" منصوب بفعل محذوف، والمعنى، فأغرى بي أصحابه السفهاء والصبية، وأشار إلي، يقول لهم: اضربوا الصابئ.
(فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي) المدر الطين المتماسك وما يعرف بالطوب اللبن، أي تجمع حولي أهل المنطقة يقذفونني بالحجارة والعظم حتى سقطت على الأرض مغشيا علي.
(قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر) أي فانصرفوا عني فلما أفقت قمت ووقفت لا حراك بي تغطيني الدماء التي سالت مني، كأني تمثال أحمر من حجر، والنصب بضم الصاد وإسكانها الصنم والحجر الذي كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده، قال تعالى {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3].
(فسمنت، حتى تكسرت عكن بطني)"العكن" بضم العين وفتح الكاف جمع عكنة بسكون الكاف وهي طيات البطن من السمن.
(وما وجدت على كبدي سخفة جوع) بفتح السين وضمها مع إسكان الخاء رقة الجوع وضعفه وهزاله. يقال: سخف الشيء بضم الخاء، يسخف، سخفا بضم السين وسكون الخاء وسخفة وسخافة رق وضعف وسخف العقل ضعف ورأي سخيف أي ضعيف والمعنى ثلاثون يوما لا آكل فيها ولا أشرب إلا ماء زمزم لم أحس فيها بضعف ولا بجوع.
(قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إسافا ونائلة) الليلة القمراء التي ينيرها القمر، "والإضحيان" بكسر الهمزة والحاء وسكون الضاد هي المضيئة يقال: ليلة إضحيان وإضحيانة وضحياء ويوم ضحيان والإضحيان من الأيام الصحو الذي ليس فيه غيم، و"الأسمخة" جمع سماخ وهو الخرق الذي في الأذن المفضي إلى الرأس ويقال له: صماخ بالصاد، وهو الأفصح والأشهر، والضرب على الآذان كناية عن النوم، قال تعالى {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} [الكهف: 11] والمعنى: في ليلة مقمرة من الليالي الثلاثين نام أهل مكة، فلم يطف بالبيت منهم أحد، ولكن كان من أهل مكة امرأتان تدعوان الصنمين المسميين إسافا ونائلة، وتتضرعان إليهما، وكانا صنمين لقريش، إساف على هيئة رجل، ونائلة على هيئة امرأة وضعهما عمرو بن لحي على الصفا والمروة، قال النووي:"وامرأتين" هكذا هو في معظم النسخ بالياء وفي بعضها "وامرأتان" بالألف والأول منصوب بفعل محذوف أي ورأيت امرأتين.
(قال فأتتا علي في طوافهما) كان بجوار الكعبة فجاءتا من دعائهما إسافا ونائلة لتطوفا.
(فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى) أي قلت لهما، استهزاء وسخرية بالصنمين، وبدعائهما لهما: زوجا إسافا لنائلة، أو ركبا إسافا على نائلة، يجامعها.
(قال: فما تناهتا عن قولهما، فأتتا علي) أي ما انتهتا عن عملهما وعقيدتهما، ولم تكترثا بقولي، وأتتا بجواري، مستخفتين بقولي.
(فقلت: هن مثل الخشبة- غير أني لا أكنى) الهن والهنة بتخفيف نونهما كناية عن كل شيء، وأكثر ما يستعمل كناية عن الفرج والذكر، و"أكنى" أي لم أتكلم بلفظ الكناية ولفظ الهن، بل صرحت لهما باللفظ المستقبح، فقال مثلا: ذكر مثل الخشبة، وكان لإساف الصنم ذكر ظاهر بارز، وأراد بذلك سب إساف ونائلة والسخرية منهما، وإغاظة المرأتين.
(فانطلقتا تولولان) الولولة الدعاء بالويل.
(وتقولان: لو كان ها هنا أحد من أنفارنا) الأنفار جمع نفر أو نفير، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة قال النووي: ورواه بعضهم "أنصارنا" وهو بمعناه، و"لو" شرطية جوابها محذوف أي لانتصر لنا.
(فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان) الحرم في المنخفض، والمباني على سفح الجبل المحيط بالحرم، فالذاهب إلى الحرم هابط، أي وأبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلان الحرم، والمرأتان خارجتان صاعدتان منه.
(قال: مالكما) تولولان؟ وتقولان: لو كان معنا رجل لانتصرنا؟
(قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها) أي الذي بدل دينه وسفه آلهتنا واقف بين الكعبة وأستارها وهو الذي آذانا.
(قال: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم) أي كلمة عظيمة لا شيء أقبح منها، كالشيء الذي يملأ الشيء، ولا يسع غيره، كما نقول: تملأ سمع الدنيا، فالكلام كناية عن عظمها وفظاعتها، وقيل: معناه كلمة لا يمكن ذكرها وحكايتها كأنها تسد فم حاكيها وتملؤه لاستعظامها أي كلمة تجعل الفم مملوءا بغيرها لا يستطيع ذكرها.
(وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثم صلى) وفي ملحق الرواية "فطاف بالبيت، وصلى ركعتين خلف المقام".
(قال أبو ذر: فكنت أول من حياه تحية الإسلام. فقلت: السلام عليك يا رسول الله) إذ كان أبو ذر خامس أربعة آمنوا.
(قال: وعليك ورحمة الله) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ "وعليك" من غير ذكر "السلام" وفيه دلالة لأحد الوجهين لأصحابنا أنه إذا قال في رد السلام: وعليك يجزئه لأن العطف يقتضي كونه جوابا والمشهور من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال السلف رد السلام بكماله فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله. اهـ. والحق أن الحديث لا يصلح دليلا فقد كان هذا أول الإسلام والعبرة بما كان من تشريع في أخريات الرسالة، على أن لفظ الحديث في ملحق الرواية "قال: وعليك السلام".
(ثم قال: من أنت؟ قال: قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته) أي كالمتعجب أو كالمندهش أو كالمفكر كيف لهذا الرجل بتحية الإسلام؟ وكيف ومتى أسلم؟ وهو من غفار بينما أهله في مكة لم يسلموا؟ وكيف وصل إليه وحصار المشركين له شديد؟
(فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده، فقدعني صاحبه وكان أعلم به مني) وإنما ظن أنه كره انتماءه إلى غفار، لأنهم قد اشتهر عنهم أنهم يسرقون الحاج، و"قدعني صاحبه" أي كفني ومنعني أن آخذ بيده، يقال: قدعه وأقدعه إذا كفه ومنعه وقوله "وكان أعلم به مني" إشارة إلى أنه استجاب للمنع.
(ثم رفع رأسه) أي ورفع أصابعه عن جبهته.
(ثم قال: متى كنت ها هنا؟ قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم) في ملحق الرواية "مذ كم أنت ها هنا؟ قلت: منذ خمس عشرة) والجمع بين الروايتين صعب.
(إنها طعام طعم) قال النووي: هو بضم الطاء وإسكان العين، أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.
(فقال أبو بكر: يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة) أي فأذن له، وفي ملحق الرواية "وقال أبو بكر: ألحقني بضيافته الليلة" وفي بعض النسخ "أتحفني بضيافته الليلة".
(فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا) لعله باب خزن الزبيب والتمر.
(فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف) أي ويعطينا، ونأكل.
(وكان ذلك أول طعام أكلته بها) أي بمكة.
(ثم غبرت ما غبرت) أي ثم بقيت ما بقيت عند أبي بكر، ألتقى برسول الله صلى الله عليه وسلم سرا.
(ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستأذنه في العودة، وأتزود بنصحه.
(فقال: إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب)"وجهت" بضم الواو وتشديد الجيم المكسورة أي أريت جهتها، و"أراها" بضم الهمزة، أي أظنها.
(فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم) أسلوب عرض وتحضيض وطلب برفق، أي بلغ عني قومك.
(فأتيت أنيسا) في المنزل الذي نزلناه بقرب مكة.
(فقال: ما صنعت) مع هذا الرجل؟ .
(قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت. قال: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت) يقال: رغب فيه إذا أراده، ورغب عنه إذا لم يرده، فنفي الرغبة عنه تثبت الرغبة فيه، أي لا أكرهه، بل أدخل فيه.
(فاحتملنا) أي فرحلنا.
(حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم) بدعوتنا لهم وشرحنا للإسلام.
(وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاري وكان سيدهم)"إيماء" بكسر الهمزة في أوله على المشهور وحكى القاضي فتحها أيضا، وأشار إلى ترجيحه، قال النووي: ذكر الزبير بن بكار أن إيماء بن رحضة حضر بدرا مع المشركين، فيكون إسلامه بعد ذلك، وذكر ابن سعد أنه أسلم قريبا من الحديبية، وهذا يعارض رواية مسلم وفي رواية "خفاف بن إيماء أو أبوه إيماء بن رحضة" فيمكن أن يكون إسلام خفاف تقدم على إسلام أبيه.
(وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا) فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي وجاءت أسلم - قبيلة قريبة من قبيلة غفار - فقالوا: يا رسول الله إخوتنا - الغفاريون - أسلموا نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا فكان إسلام أبي ذر سببا في إسلام قومه جميعا، وسببا في إسلام قبيلة أخرى.
(غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله) سيأتي الكلام عن ذلك في باب فضائل غفار وأسلم.
(فتزود وحمل شنة له، فيها ماء) الشنة بفتح الشين القربة البالية ومعنى "تزود" حمل زادا.
(فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه) أي أراد مقابلته لكنه لا يعرفه إن قابله.
(وكره أن يسأل عنه) الناس مخافة أن يؤذوه إن كان المسئول من محاربي محمد صلى الله عليه وسلم.
(حتى أدركه)"يعني الليل" يقصد أن الضمير يعود على غير مذكور معلوم من المقام كقوله تعالى {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] وفي رواية للبخاري "حتى أدركه بعض الليل".
(فاضطجع) في المسجد الحرام.
(فرآه علي، فعرف أنه غريب) عرف ذلك من هيئته ولباسه، ومعرفة علي بأهل المنطقة.
وفي رواية قال: "كأن الرجل غريب، قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل" أي فانطلق معي إلى منزلي، قال الحافظ ابن حجر: هذا يدل على أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين، بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب، ويضيفه، فإن الأصح في سن علي حين المبعث كان عشر سنين، وقيل: أقل من ذلك، وهذا الخبر يقوي القول الصحيح في سنه. اهـ.
قلت: لا دلالة فيه على ما استدل به فيمكن للصبي المميز أن يصحب ضيفا وربما كان أبوه أبو طالب في سفر.
(فلما رآه تبعه) أي فلما رأى أبو ذر عليا على هذه الحالة من الاستئلاف والرفق ودعوته إلى منزله سار وراءه، حتى وصل إلى منزله، فاستضافه، وأكرمه، وأعد له مبيتا، فنام.
(فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح) أي عن شيء مما يعنيه السؤال عنه.
(ثم احتمل قربته، وزاده إلى المسجد الحرام) يأكل من زاده ويشرب من قربته، وفي بعض النسخ "قريبته" بالتصغير وهي الشنة المذكورة من قبل.
(فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم أي ظل ذلك اليوم يرقب مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيء.
(حتى أمسى فعاد إلى مضجعه) أي إلى المكان الذي اضطجع فيه بالأمس فاضطجع.
(فمر به علي فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟ ) الكلام على الاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، دخل على نفي فصار إثباتا والمعنى آن للرجل أن يعلم منزله الذي نزله بالأمس، وأن يأتي إليه بدون دعوة فإضافة المنزل إليه مجازية، ويكون ذلك من علي رضي الله عنه دعوة مهذبة إلى بيته ثانيا. وقيل: المعنى أما آن للرجل أن يصرح بمقصده؟ ويؤيده ما جاء في بعض الروايات "قلت: لا" وفي رواية البخاري "أما نال للرجل أن يعلم منزله"؟ أي أما حان يقال: نال له، بمعنى آن له، ويروى "أما أنى" بالقصر وهي بنفس المعنى.
(فأقامه، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء) أي حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد.
(فلما كان يوم الثالث) من إضافة الموصوف إلى صفته، كقولهم: مسجد الحرام، ومسجد الجامع، والأصل اليوم الثالث، و"كان" تامة، و"يوم" فاعل.
(فعل مثل ذلك) أي مثل ما فعل في اليوم الثاني، ظل لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه في المسجد، فاضطجع.
(فأقامه علي معه) في رواية البخاري "حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك فأقام معه".
(ثم قال له: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ ) أسلوب عرض وطلب برفق أي حدثني، وهكذا يستبين علي ويسأل ضيفه بعد ثلاث كما هي عادة العرب.
(قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت) العهد الوعد، والميثاق اليمين، أي إن وعدتني وعدا مؤكدا باليمين أن تخبرني عما أريد حدثتك بما في نفسي.
(فأخبره فقال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فأخبر أبو ذر عليا بمقصده، فقال علي: فإن ما سمعت عنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية البخاري "فأخبره قال: فإنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيحتمل أن المعنى: فأعطاه على العهد والميثاق، فحكى أبو ذر ما في نفسه، فأخبر علي أبا ذر بالحقيقة قال: كذا وكذا ويؤيد الأول قول أبي ذر، في رواية "فأخبرته".
(فإذا أصبحت فاتبعني) وكأنك لا تعرفني ولا علاقة بيني وبينك.
(فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء) كأني أتبول على جانب الطريق، وحينئذ عليك بالفرار والبعد عن الخطر وفي رواية "كأني أصلح نعلي" ويحتمل أنه قالهما جميعا.
(فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي) أي فإذا مضيت ولا خطر فادخل ورائي، حيث أدخل.
(ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه)"ففعل" أي فمضى علي فانطلق أبو ذر يتبعه حتى دخل علي على النبي صلى الله عليه وسلم فدخل أبو ذر في إثره كأنه معه.
(فسمع من قوله وأسلم مكانه) أي وأسلم في الحال وكأنه كان يعرف علامات النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآها لم يتردد في الإسلام.
(فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) وفي رواية "اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك، فأخبرهم فإذا بلغك ظهورنا فأقبل" وفي روايتنا الأولى "إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟ ".
(فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم)"بها" أي بشهادة - أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، و"ظهرانيهم" بفتح النون تثنيه ظهر، يقال: أقام بين ظهريهم وظهرانيهم وأظهرهم، أي بينهم والمراد من الصرخ هنا رفع الصوت والمعنى والله لأرفعن صوتي بالشهادة بينهم، ولا أخفي إسلامي ولا أخافهم.
(فخرج حتى أتى المسجد) الحرام والمشركون مجتمعون فيه.
(فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وثار القوم) جماعة المشركين الموجودين في الحرم.
(فضربوه حتى أضجعوه) أي حتى أسقطوه على الأرض من شدة الضرب والإعياء وظلوا يضربونه وهو منبطح على الأرض.
(فأتى العباس، فأكب عليه) أي انحنى عليه، يفرق بينه وبينهم ليحول بينهم وبين ضربه وكان العباس يومئذ مشركا، وإنما حماه خوفا من قومه.
(فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟ ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، أي اعلموا أنه من غفار.
(وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم) فاحسبوا حسابا لعصبية قومه له، وتعرضهم في الطريق لتجارتكم.
(فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها) عاد أبو ذر في اليوم الثاني ففعل مثل ما فعل بالأمس وثاروا إليه مثل الأمس، وأنقذه منهم العباس كالأمس.
-[فقه الحديث]-
نجد أنفسنا أمام روايتين عن إسلام أبي ذر، الأولى وملحقاها عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، والثانية عن ابن عباس، واقتصر عليها البخاري، وبينهما تعارض وتعارض أو تغاير كثير قال عنه القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد وقال الحافظ ابن حجر: حديث عبد الله بن الصامت أكثره مغاير لما في حديث ابن عباس ويمكن التوفيق بينهما اهـ.
والعلماء إذا صح حديثان ظاهرهما التعارض حاولوا - قدر إمكانهم - التوفيق والجمع بينهما قبل أن يرجحوا أحدهما على الآخر، لأن في الجمع بينهما عملا بهما معا بوجه من الوجوه أما الترجيح فيعمل بأحدهما ويهمل الآخر والعمل بهما أولى من إهمال أحدهما. وسنحاول بيان أوجه المغايرة ونحاول الجمع والتوفيق، والله المستعان.
أولا: في الرواية الأولى أن لقاء أبي ذر رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بعد قصة المرأتين وبعد أن استلم النبي صلى الله عليه وسلم الحجر وطاف البيت هو وصاحبه ثم صلى ركعتين خلف المقام.
وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن لقاء أبي ذر بالنبي صلى الله عليه وسلم كان عن طريق دخوله عليه مع علي، بعد ضيافته ثلاثة أيام.
ثانيا: أن الذي استضافه في الرواية الأولى أبو بكر رضي الله عنه بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بعد لقائه وكان الزبيب الذي قدمه له أول طعام أكله بمكة وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن الذي استضافه علي رضي الله عنه وكانت ضيافته له قبل لقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: في الرواية الأولى أن أبا ذر حينما وصل مكة استضعف رجلا، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأغرى به السفهاء فضربوه، حتى علاه الدم ثم قضى أياما لا يأكل ولا يشرب إلا ماء زمزم وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن أبا ذر حين قدم مكة أتى المسجد وكره أن يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أدركه الليل فاضطجع فرآه علي فاستضافه.
رابعا: في الرواية الأولى أن أبا ذر لم يكن له طعام في الأيام الأولى من وصوله إلى مكة سوى زمزم وهذا لا يلتئم مع ما جاء في الرواية الثانية من أن أبا ذر عند سفره إلى مكة حمل معه زاده وقربة ماء وكان يحمل معه قربته وزاده كلما غدا إلى المسجد في الصباح، بعد مبيته عند علي.
خامسا: ذكرت قصة المرأتين في الرواية الأولى دون الثانية وذكرت قصة العباس في الرواية الثانية دون الأولى.
سادسا: هناك مغايرة بين الرواية الأولى وفيها "قلت: قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم" وبين ما جاء في ملحقها الثاني "قلت: منذ خمس عشرة"
هذا: وإذا سهل الجمع في بعض هذه المغايرات، بشيء من التأويل فإنه لا يسهل في بعض آخر، وأحسن طريق نجمع به بين الحديثين أن نحملهما على سفرين ولقاءين فقد قلنا: إن منزل أبي ذر وأخيه وأمه كان قريبا من مكة في واد من وديانها، فمن المحتمل أن يصل مكة فيسأل السفيه فيضرب فيلتقي بالمرأتين ثم بالرسول صلى الله عليه وسلم في الحرم، ويستضيفه أبو بكر، بعد أن أمضى أياما على ماء زمزم حيث لم يأخذ في رحلته هذه زادا ولا ماء.
وبعد فترة قد تكون شهرا أو أقل من شهر يذهب إلى مكة ويحمل معه زاده وماءه لئلا يقع فيما وقع فيه في المرة الأولى، ويتحرز من سؤال أحد حيث لم يتحرز في المرة الأولى ويدخل المسجد، مترقبا وصول النبي صلى الله عليه وسلم ويكون معنى "ولا يعرفه" أي ولا يعرف وصوله متى يكون؟ فيمر به اليوم حتى يمسي فيراه علي فيستضيفه فيكاشفه فيدخله على النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج من عنده فيشهد الشهادتين في الحرم فيضرب فيحميه العباس والإشكال الخفيف في هذا في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم له: من أنت؟ في المرة الثانية والمفروض أنه عرفه في المرة الأولى ويمكن أن يجاب عنه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد نسي الاسم، فسأله عن اسمه مرة أخرى وكثيرا ما يحصل مثل هذا مع تعدد اللقاء ويؤيده ما جاء في رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:"أنت أبو نملة؟ قال: أبو ذر". والنملة والذرة يلتقيان وتفسر الذرة بالنملة مما يرشح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سبق له ذكر اسمه.
أما المغايرة بين الرواية الأولى وملحقها، فيحتمل أن المدة في الحقيقة خمسة عشر يوما بلياليها ومجموعها ثلاثون، بين يوم وليلة كما نقول: عندي ثلاثون بين ذكر وأنثى فهذه الثلاثون فيها خمس عشرة ليلة وخمسة عشر يوما. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]-
1 -
من قوله في الرواية الأولى: "لا أراها إلا يثرب" جواز تسمية المدينة بيثرب من غير كراهة وكره جماعة ذلك وقالوا: كان ذلك قبل تسميتها "طابة وطيبة" وجاء النهي عن ذلك في حديث أو أنه صلى الله عليه وسلم سماها باسمها المعروف عند الناس حينئذ.
2 -
من قوله في الرواية الأولى: "وعليك ورحمة الله". قال النووي: فيه دلالة لأحد الوجهين لأصحابنا أنه إذا قال في رد السلام: وعليك من غير ذكر السلام يجزئه، والمشهور من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال السلف رد السلام بكماله فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله.
3 -
في صلاة أبي ذر رضي الله عنه قبل المبعث فضيلة له، وأن الله هداه إلى الحق.
4 -
وفي سبقه إلى الإسلام فضيلة أيضا.
5 -
وفي تحمله الأذى في سبيل الجهر بالدعوة قوة إيمان، وقوة عقيدة ويؤخذ منه جواز قول الحق، لمن يخشى منه الأذية لمن قاله، وإن كان السكوت جائزا.
قال الحافظ ابن حجر: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك يترتب الجزاء.
6 -
من أمره صلى الله عليه وسلم أبا ذر بالكتمان وقول أبي ذر: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن المأمور إذا أحس أن الأمر شفقة عليه، وأن به قوة جاز له أن لا يعمل بالأمر.
7 -
فيه صورة حية لبدء الدعوة الإسلامية، وما لاقى المسلمون الأوائل، وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في نشرها.
والله أعلم.