الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(627) باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي
5333 -
عن موسى بن طلحة عن أبيه رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل. فقال: ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه. يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئا" قال: فأخبروا بذلك فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظنا. فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به. فإني لن أكذب على الله عز وجل".
5334 -
عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل. يقولون: يلقحون النخل. فقال: "ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا" فتركوه. فنفضت أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له. فقال: إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر" قال عكرمة: أو نحو هذا. قال: المعقري: فنفضت. ولم يشك.
5335 -
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا لصلح" قال: فخرج شيصا. فمر بهم فقال: "ما لنخلكم" قالوا: قلت: كذا وكذا. قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
-[المعنى العام]-
جاءت الرسالة المحمدية رسالة وسطا، تحرص على خيري الدنيا والآخرة، بدرجة لا تطغى إحداهما على الأخرى، جاءت تأخذ بالأسباب بالدرجة التي تعتمد فيها على القضاء والقدر "اعقلها
وتوكل" يستعد صلى الله عليه وسلم للهجرة، ويخفي أمرها، ويخرج بليل، ويختبئ في الغار، في الوقت الذي يقول فيه "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
لقد جاء الإسلام والناس على عنصر واحد، هو عنصر الأسباب المادية، والمتطرف إذا أريد له الوسطية شد إلى الطرف الآخر، ليعود برغبة منه إلى الوسط، وهذا هو ما وقع في قصتنا.
كان صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا وخمسين سنة، حوله جبال وصحراء، وهاجر إلى المدينة، بلاد نخل وزروع، وبينما هو يمشي في طرقاتها بين النخيل، ومعه بعض أصحابه، رأى رجالا تسلقوا النخل، حتى وصلوا إلى سعفها، ورأى شيئا في أيديهم، يتحركون به، ولم يتبين ماذا يعملون، فسأل من معه: ماذا يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحون النخل. لأن النخل في موسم معين يخرج طلعا، قوالب بداخلها فروع بيضاء على جانبيها بروز الثمر، ومليئة بما يشبه الدقيق، يخرج هذا في النخل الذكر ولا يثمر، ويخرج في الأنثى وهو أصل التمر، لكن بشرط أن يوضع شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يربطهم بالقضاء والقدر، فقال: لا أظن أن ذلك ينفعهم إلا بإرادة الله وقدرته، وأظن أنهم لو لم يفعلوا ذلك واعتمدوا على الله وسألوه لصلح، وكان من الممكن أن تحمل الريح طلع الذكر إلى الأنثى، وتقوم مقامهم، كما يحصل في كثير من الفواكه، مصداقا لقوله تعالى {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: 22] لكن الله تعالى أراد أن يربط المسببات بالأسباب في هذه القصة، فلما سمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يلقحوا، خرج البلح شيصا، فلما رآه كذلك صلى الله عليه وسلم قال لهم: ما لتمركم هذا العام خرج شيصا؟ قالوا: لأننا لم نلقحه، استجابة لقولك كذا وكذا، قال: إنما قلت لكم ذلك من عند نفسي ظنا، ولست في ذلك مبلغا عن الله، فإذا أمرتكم بأمر مبلغا فالتزموه، وإذا أمرتكم بأمر من نفسي فأنتم وشأنكم، فأنتم أعلم بأمور دنياكم، وما دام في ذلك خير لكم فافعلوه.
فعادوا إلى تلقيح نخلهم، وعادت المدينة خير بلد، وتمرها خير تمر.
-[المباحث العربية]-
(مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤس النخل) مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، أي على كل نخلة رجل، والمراد من رأس النخلة أعلاها.
(فقال: ما يصنع هؤلاء)؟ أي سأل طلحة ومن معه عما يفعلون؟ وقد رآهم لا يقطعون سعفا كما يعهد، وكان ذلك أول قدومه المدينة، التي هي ذات نخل، ولم تكن مكة ذات نخل، ففي الرواية الثانية "قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل" فسر ذلك بقوله "يقولون: يلقحون النخل" وليس المراد أنه رأى ذلك في طريق قدومه، بل المراد أنه رأى ذلك في أوائل وصوله، حين خرج إلى المزارع، و"يأبرون" بسكون الهمزة، وكسر الباء وضمها، يقال: أبر يأبر، ويأبر، كبذر يبذر ويبذر، ويقال: أبر بتشديد الباء يؤبر تأبيرا، والمراد به التلقيح، ومعناه إدخال شيء من طلع الذكر، فرع أو دقيق، في طلع الأنثى، فتعلق الأنثى، ويصلح ثمرها، بإذن الله تعالى، "فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى، فيلقح".
(فقال: ما أظن يغني ذلك شيئا) أي ما أظن أن ذلك العمل يغني عن قدر الله شيئا إذا أراد عدم صلاحه "لو لم تفعلوا" التأبير وأراد الله صلاحه "لصلح" ولعله أراد صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى الاعتماد على الله بدلا من الاعتماد الكلي على الأسباب.
(فأخبروا بذلك) أي أخبر الذين على رءوس النخل بما قاله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مسلمين.
(فتركوه) أي تركوا التأبير، اعتمادا على إشارته صلى الله عليه وسلم.
(فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم معطوف على محذوف، أبرزته الرواية الثانية والثالثة، والأصل:"فتركوه، فنفضت - أو فنقصت - فذكروا ذلك له""فنفضت" بالفاء والضاد، أي أسقطت النخل ثمرها، ويقال لذلك المتساقط: النفض، بفتح النون والفاء، بمعنى المنفوض، كالخبط، بمعنى المخبوط، وانفض القوم فنى زادهم، وأما "نقصت" بالقاف والصاد فمعناه نقص صلاحها وهو المعبر عنه في الرواية الثالثة بقوله "فخرج شيصا، فمر بهم، فقال ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا" والشيص بكسر الشين هو البسر الرديء، الذي إذا يبس صار حشفا.
(فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل في الرواية الثانية "قال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم، فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر" وفي الرواية الثالثة "قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم".
قال النووي: قال العلماء: قوله "من رأيي" أي في أمر الدنيا ومعايشها، لا على التشريع، فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم، ورآه شرعا، يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله، قال: مع أن لفظة "الرأي" إنما أتى بها عكرمة على المعنى، لقوله في آخر الحديث: قال عكرمة أو نحو هذا، فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم محققا، قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرا، وإنما كان ظنا، كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش، وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها. اهـ.
-[فقه الحديث]-
هذا الحديث يتعلق به كل من يحاول التحلل من كثير من أحكام الشرع، مما يتعلق بالحياة، والمعاملات ويتمسك بقوله صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بشئون دنياكم" فبعضهم يدخل تحته كل ما يتعلق بالأكل والشرب والنوم واللبس والجلوس والمشي، وغير ذلك من الأمور الخاصة بالحاجة والطبيعة البشرية.
فالشيخ شلتوت يقول: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودون في كتب الحديث من أقواله وأفعاله وتقريراته على أقسام: أحدها ما سبيله سبيل الحاجة البشرية كالأكل والشرب والنوم والمشي والتزاور والمصالحة بين شخصين بالطرق العرفية، والشفاعة والمساومة في البيع والشراء.
ثانيها: ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذي ورد في شئون الزراعة والطب وطول اللباس وقصره.
ثالثها: ما سبيله التدبير الإنساني، أخذا من الظروف الخاصة، كتوزيع الجيش على المواقع الحربية، والكمون والفر، وما إلى ذلك مما يعتمد على وحي الظروف الخاصة.
وكل ما نقل من هذه الأنواع الثلاثة ليس شرعا، يتعلق به طلب الفعل والترك، وإنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها تشريعا، ولا مصدر تشريع.
والتحقيق أنه من الخطأ أن نطلق هذا الإطلاق، فكل من هذه الأمور منها الواجب شرعا، ومنها المحرم شرعا، ومنها المكروه والمندوب والمباح.
والدكتور عبد المنعم النمر يدخل مع ذلك كل المعاملات، على أنها تدخل تحت قوله "أنتم أعلم بشئون دنياكم" ويؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه ذلك بوحي، ولم يكن في ذلك محروسا بوحي مباشر أو وحي سكوتي أو إقراري.
وقد رددت عليهما في بحثين منشورين: بعنوان السنة والتشريع، والسنة كلها تشريع.
والذي يعنينا في هذا المقام: الحديث، تحليله، وفهمه الفهم الصحيح.
فمن غير المعقول فهمه على إطلاقه، بمعنى أنتم معشر مؤبري النخل أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم بشئون دنياكم كلها، فالإسلام نصف تشريعاته للدنيا، ونصفه للدين، بل المصالح الدنيوية هي من الدين، ومرتبطة بالدين، يثاب عليها، كما يثاب على الصلاة، فالرجل الذي سقى الكلب، والرجل الذي أنظر معسرا، والرجل الذي أزال غصن شوك، غفر لهم، والمرأة التي حبست قطة دخلت النار.
والرجل يزرع زرعا أو يغرسا غرسا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة له بكل ذلك صدقة، والرجل يأتي شهوته حلاله، له أجر، والبائع الغاش، والمشتري الغاش، والحاكم الغاش، كل هؤلاء عليهم وزر، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعلم بالصالح فيها، عن غيره من البشر، فلا بد من تقييد "أمور دنياكم" ببعض أمور دنياكم، وهذا البعض هو ما وقعت القصة فيه "تلقيح النخل" وكأنه قال: أنتم أعلم بكيفية وفائدة تلقيح النخل مني، وهذه حقيقة لا تضر بالرسالة، ومع أن العلماء يقولون: إن واقعة العين كهذه الواقعة، يقتصر الحكم عليها، ولا ينقل إلى غيرها، أو لا يكون حجة لغيرها، مع هذا لو نقلناها نقلناها إلى ما يشبهها، من الأعمال التي تكتسب عن طريق العلم والتدريب والممارسة والتجارب والخبرة، كالزراعة والنجارة والحدادة والغزل والنسيج والحياكة، والصناعات الأخرى. فهذه ليست من مهمة الرسالة، وليس من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من مؤهلاته أن يكون ماهرا فيها، ولا خبيرا بدقائقها.
فإذا تكلم مع الخبراء فيها فكلامه مبني على الظن الذي قد يخطئ كأي إنسان غير متخصص، وحديث تأبير النخل من هذا القبيل، ومحاولة تطبيقه - حتى على جميع شئون الزراعة - خطأ، فقد
تدخل صلى الله عليه وسلم في كيفية سقي الأشجار، وتقديم الأعلى فالأعلى، في قصة الزبير والأنصاري، التي شرحناها في الباب السابق، بل بمناسبتها نزل قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}
وقد يتساءل المرء: هل من حكمة نلتمسها من الإشارة بغير الصواب، وبقبولها وتنفيذها من الصحابة دون مناقشة مع أنهم ناقشوا في كثير غيرها، كالإذخر، وشهود الزنا، والسلم، وغير ذلك كثير، وما الحكمة في عدم تعديل هذه المشورة من قبل الوحي، وتدارك الثمرة حتى لا تصير شيصا، وقد تلمسنا لذلك حكما وضحناها في بحثنا، نذكر منها:
أولا: هناك من الأمور ما نحسبه شرا لنا. وهو في الحقيقة خير لنا، كحديث الإفك الذي استمر أياما وأياما دون حسم، وقال الله فيه {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} [النور: 11] وكخرق السفينة، يحسب لأول وهلة أنه شر لأصحابها، فلما اتضحت الحقيقة إذا هو خير لهم، وبالقياس على هذا، فإن المشورة وقعت في أوائل الهجرة، وكان من الجائز جدا أن يطمع الكافرون في تمر المدينة، فيهاجموها حربا لمحمد وطمعا في تمرها، فخروج التمر شيصا يجعلهم لا يطمعون في غير مطمع، وكأن الله يصرف بذلك هجوم الكافرين، حتى يستعد المؤمنون للدفاع.
ثانيا: من المعروف أن الدرس العملي أشد أثرا من الوعظ النظري، ولا شك أن هذا الدرس كان قاسيا عليهم، ومنه حرصوا وتنافسوا بعده في الرقي بأسباب الحياة.
ثالثا: إن الابتلاء بمثل هذا امتحان واختبار {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} [البقرة: 155] فقوي الإيمان يظل متمسكا بالإيمان مهما أصابه، وضعيف الإيمان يظهر ضعفه. فلا ينخدع به غيره {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11] فكانت هذه الحادثة ابتلاء واختبارا لهم، وهي حتى اليوم في هذا الشرح ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الاختبار القاسي - وهم في أول الإيمان - نجاحا باهرا، فقد استمروا على طاعة أوامره والبعد عن كل ما نهى عنه، بالدرجة نفسها، التي كانت قبل مشورته، ولم يصل إلينا أن أحدا ارتد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، على الرغم من خسارتها الكبرى، رضي الله عنهم أجمعين.
والله أعلم