الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(625) باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله، وشدة خشيته له
5321 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا فترخص فيه. فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه. فبلغه ذلك. فقام خطيبا فقال:"ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه. فكرهوه وتنزهوا عنه. فوالله! لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية".
5322 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، فتنزه عنه ناس من الناس. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال:"ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه. فوالله! لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية".
-[المعنى العام]-
يقول الله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] أي إلا ليعبدوه لمصلحتهم هم، فيثابون، وينعمون، فالله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية العاصين، ولو أن أهل السموات والأرض كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكه شيئا، ولو أن أهل السموات والأرض كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكه شيئا، {إن الله لغني عن العالمين} [العنكبوت: 6] {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وءامنتم وكان الله شاكرا عليما} [النساء: 147]{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [المائدة: 6].
فعبادة العابدين علامة على السمع والطاعة والاعتراف بالعبودية والخضوع، وظاهرة من ظواهر شكر المنعم على ما أنعم، وهي من هذه الحيثية لا تتأثر بالزيادة والمبالغة والغلو، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بالعلم القلبي، والتصديق القلبي، فقد سبق درهم ألف درهم عند الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومهما بالغ الإنسان في العبادة فلن يبلغ عشر معشار من عبادة الملائكة الذين منهم الراكع أبدا، ومنهم الساجد أبدا، ومنهم الذاكر أبدا، {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6].
وللإنسان طاقة، إذا استنفدها - ولو في العبادة - وفي وقت قصير، خلت بقية الأوقات، وإن خير الأعمال ما داوم عليها فاعلها، وإن قلت، فالمداومة وحدها ارتباط متصل بين
العبد وربه، وقد قيل: قليل دائم، خير من كثير ينقطع، والمبالغة، والغلو يعقبهما - غالبا - الملل، والملل من العبادة معصية، قد تأتي على ثواب ما قبلها، وفي الحديث "أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].
من هنا كان صلى الله عليه وسلم حريصا على عدم مغالاة أصحابه في دين الله، بل كان يريد عبادة ربه بشيء، فيتركه، مخافة أن يقتدي به أصحابه، فيشق عليهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان، وكان إذا رأى تعمقا أو رغبة في التعمق من أصحابه غضب، ولجأ إلى المنبر ينبه الجميع إلى الترفق بأنفسهم، ويدعو إلى الترخص برخص الله، اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الناس بالله، وهو أتقاهم، وأخشاهم لله، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، كان يصوم ويفطر مع أنه قادر على الصوم أبدا، إذ يطعمه ربه ويسقيه، ويقوم وينام، ويتمتع بالنساء كما يتمتع بالصلاة، فهو رسول الله وسط لدين وسط، لأمة وسط. صلى الله عليه وسلم ورضي عن آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
-[المباحث العربية]-
(صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا، فترخص فيه) أي فاختار الرخصة واليسر، وقد أومأ ابن بطال إلى أن الذي صنعه صلى الله عليه وسلم وتنزهوا عنه هو القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر.
(فبلغ ذلك ناسا من أصحابه، فكأنهم كرهوه، وتنزهوا عنه) في الرواية الثانية بدون تشبيه، بل بالجزم، ولفظها "فتنزه عنه ناس من الناس" أي جماعة من الصحابة، بحجة أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإذا ترخص في شيء لم يكن غيره مثله، ممن لم يغفر له ذلك، إذ يحتاج الذي لم يغفر له إلى الأخذ بالعزيمة، والشدة لينجو.
(ما بال رجال بلغهم عني أمر، ترخصت فيه، فكرهوه وتنزهوا عنه؟ ) البال هو الحال، والاستفهام إنكاري توبيخي، أي ما كان ينبغي أي يكون حالهم كذلك، وفي الرواية الثانية "فغضب، حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه"؟
(فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) معناه: أنهم يتوهمون أن تنزههم عما فعلت أقرب لهم عند الله، وإن فعلت خلاف ذلك، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشية وإنما يكون القرب إليه سبحانه وتعالى، والخشية له على حسب ما أمر، لا بمخيلات النفوس، وتكلف أعمال لم يأمر بها، قاله النووي.
وجمع بين العلم بالله، وشدة الخشية له، ليجمع بين القوة العلمية، والقوة العملية.
-[فقه الحديث]-
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما بأمته، يعز عليه عنتهم ومشقتهم، فكان يباعد بينهم وبين المغالاة في الدين، كما كان يخفف عنهم العقاب، إذا فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، فلا يواجه المتعمق، ولا يحرجه، حياء منه صلى الله عليه وسلم، وسترا عليه، فلا يعين الشخص عند العتاب، كأن يقول له: ما بالك يا فلان فعلت كذا؟ أو ما بال فلان يفعل كذا؟ فهو في هذه الحالة التي يستخدمها صلى الله عليه وسلم كأنه لم يواجه المخطئ وإن كان موجودا في جملة المخاطبين.
وقد أخرج مسلم في كتاب الصيام عن عائشة رضي الله عنها "أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم، فقال يا رسول الله، إنك لست مثلنا؟ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي" ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح. "أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر" الحديث. وفيه قولهم "وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وفيه قوله لهم "والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء".
-[ويؤخذ من الحديث]-
1 -
الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله. والأصل فيه قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] وقد ذهب جمع إلى وجوبه، لدخوله في عموم الأمر، بقوله تعالى {وما ءاتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7] وبقوله {فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] وبقوله تعالى {فاتبعوه} [الأنعام: 153، 155] فيجب اتباعه في فعله، كما يجب اتباعه في قوله، حتى يقوم دليل على الندب أو الخصوصية، وقال آخرون: يحتمل الوجوب والندب والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، والجمهور للندب، إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لم يظهر، ومنهم من فصل بين التكرار وعدمه، وقال آخرون: ما يفعله صلى الله عليه وسلم، إن كان بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، وجوبا أو ندبا أو إباحة، فإن ظهر وجه القربة فللندب، وما لم يظهر فيه وجه التقرب فللإباحة.
وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على ما يفعل بحضرته فيدل على الجواز، وإذا تعارض فعله وقوله. قيل: يقدم القول، لأن له صيغة، تتضمن المعاني، بخلاف الفعل، وقيل: يقدم الفعل، لأنه لا يطرقه من الاحتمال ما يطرق القول، ثالث الأقوال: يلجأ إلى الترجيح، وكل ذلك ما لم تقم قرينة تدل على الخصوصية.
وذهب الجمهور إلى القول الأول والحجة له أن القول يعبر عنه عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل، فيختص بالمحسوس، فكان القول أتم، وبأن القول متفق على أنه دليل، بخلاف الفعل، ولأن القول يدل بنفسه، بخلاف الفعل، فيحتاج إلى واسطة، وبأن تقديم
الفعل يقضي إلى ترك العمل بالقول، والعمل بالقول يمكن معه العمل بما دل عليه الفعل، فكان القول أرجح بهذه الاعتبارات.
قال ابن بطال - بعد أن حكى الاختلاف في أفعاله صلى الله عليه وسلم محتجا لمن قال بالوجوب بحديث الخاتم، فقد خلع خاتمه، فخلعوا خواتيمهم، ونزع نعله في الصلاة، فنزعوا، ولما أمرهم في الحديبية بالتحلل، وتأخروا عن المبادرة، رجاء أن يؤذن لهم في القتال، وأن ينصرفوا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم، واحلق واذبح، ففعل، فتابعوه مسرعين فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول، ولما نهاهم عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، فقال: إني أطعم وأسقى، فلولا أن لهم الاقتداء به لقال: وما في مواصلتي ما يبيح لكم الوصال، لكنه عدل عن ذلك، وبين لهم وجه اختصاصه بالمواصلة. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر: وليس في جميع ما ذكره ابن بطال ما يدل على المدعي، من الوجوب بل على مطلق التأسي به صلى الله عليه وسلم.
2 -
وذم التعمق، والمغالاة في الدين، لقوله تعالى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} [النساء: 171] والغلو هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه، بتجاوز الحد، وعند النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين"
3 -
وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة، أو الرخصة.
4 -
وأن استعمال الرخصة، بقصد الاتباع، في المحل الذي وردت فيه، أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحا، كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموما، إذا كان رغبة عن السنة.
ونقل ابن التين عن الداودي أن التنزه عما ترخص فيه صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد.
قال الحافظ ابن حجر: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، ولكن الذي اعتل به من أشير إليهم في الحديث أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يكون إلحادا.
5 -
وفي الحديث الغضب عند انتهاك حرمات الشرع، وإن كان المنتهك متأولا تأويلا باطلا.
6 -
وفيه حسن المعاشرة، بإرسال التعزير، والإنكار في الجمع، من غير تعيين الفاعل.
7 -
وأن القرب إلى الله تعالى سبب لزيادة العلم به، وشدة خشيته.
ولهذا الباب علاقة بالباب بعده
والله أعلم