الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبيل إلى معرفة المكي والمدني من القرآن الكريم
يقول القاضي أبو بكر في كتابه الانتصار: «لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا، وفصّله لهم. ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ليعرف الحكم الذي تضمنهما، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول بعينه، وقوله هذا هو الأول المكي وهذا هو الآخر المدني.
وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته. وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعملوا في القول بذلك ضربا من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكي والمدني، ولم يجب على من دخل في الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه: مكية أو مدنية، فيجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته في الناس، ولزوم العلم به لهم، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه». (البرهان، ج 1، ص 192).
يستخلص من هذا الكلام ثلاثة أمور:
1) أن معرفة المكي والمدني لم تكن مما علّمه الرسول لصحابته، أي أن هذه المسألة لم يعرف عن الرسول صلوات الله عليه تحديد لها.
2) أن معرفة المكي والمدني- على هذا- موضوع اجتهادي، يجوز لعلماء الأمة أن يحكموا فيه وفق اجتهادهم.
3) أن معرفة المكي والمدني ليست واجبة على كل مسلم، لكن لا بد من معرفتها لبعض علماء الأمة، حتى يعرفوا الناسخ من المنسوخ. فهي إذن مسألة اجتهادية تعتبر الإحاطة بها فرض كفاية، لا فرض عين.
لكنّ أهمية معرفة المكي من المدني لا تتزعزع بهذا القول. فالقاضي أبو بكر أوجبها على علماء الأمة. وممن تحدث بوضوح عن أهمية هذه المعرفة محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه «التنبيه على فضل علوم القرآن» .
وكلام النيسابوري هذا لا يناقض كلام القاضي أبي بكر، فهو يلزم المجتهد الذي يتصدى لكتاب الله بمعرفة المكي والمدني، ويفصل المسائل التي يجب عليه أن يعرفها. وقد أوردنا النص هنا لكي تعلموا منه المسائل التفصيلية التي حرص كثير من دارسي القرآن الكريم على معرفتها، ووردت بشأن الكثير منها روايات عن الصحابة.
ولقد أثر عن بعض الصحابة علم واسع بهذه الأمور: فيروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «والله الذي لا إله غيره، ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله الا وأنا أعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه» .
(1) الجحفة قرية على طريق المدينة بينها وبين مكة أربع مراحل.