الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
14 - المحكم والمتشابه
في آيات القرآن الكريم ما يصفه بأنه محكم. قال تعالى:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ (هود: 1) ومنها ما يصفه بأنه متشابه. قال تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً (الزمر: 23) ومنها ما وصفه بأن فيه المحكم والمتشابه: قال تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (آل عمران: 7) والرأي الذي عليه الجمهور أن القرآن يحتوي على المحكم والمتشابه من الآيات.
فمعنى الإحكام والتشابه في الآيتين الأولى والثانية غيرهما في الآية الثالثة.
فالإحكام في الآية الأولى متانة البناء ودقة البيان والإعجاز، ومعناه في الآية الثانية أن كتاب الله متشابه في قوة بنائه وحكمته وروعة إعجازه وصدقه في كل ما جاء به وأنه من عند الله.
أما الآية الثالثة فهي المصدر الذي أوحى بفكرة وجود المحكم والمتشابه في القرآن الكريم. ويفسّر المحكم فيها على أنه النص الذي لا يقبل التأويل، أو أنه ما أحكم بالأمر والنهي وبيان الحلال والحرام. فقوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (البقرة: 43) مما لا يقبل التأويل ويعتبر بذلك من المحكم.
لكن الباحثين القدامى على عاداتهم جاءوا بوجوه أخرى كثيرة في تأويل معنى المحكم. فقيل المحكم هو الناسخ، وقيل هو الفرائض والوعد والوعيد.
وقيل هو ما يعرف عند سماعه مثل قوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
أما المتشابه فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني.
يقول الزركشي: «والمتشابه مثل المشكل لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره وشاكله (1)» . وقيل في معنى المتشابه أقوال عدة هي أنه المنسوخ الذي لا يعمل به، وقيل القصص والأمثال، وقيل ما أمرت أن تؤمن به وتكل علمه إلى الله، وقيل فواتح السور، وقيل ما لا يدرى إلا بالتأويل، وقيل: ما يحتمل وجوها في حين أن المحكم لا يحتمل إلا وجها واحدا.
وإذا أردنا أن نخرج من كل هذه التفسيرات برأي فيمكننا أن نقول إن المحكم هو النص الظاهر الواضح الدلالة الذي لا يحتاج في فهم معناه إلى التأويل، أما المتشابه فهو ما لا يفهم معناه إلا بالتأويل، وقد يدل لفظه على أكثر من معنى واحد.
واختلف حول قدرة العلماء على إدراك معنى المتشابه، وذلك بسبب الاختلاف في تفسير معنى الآية التي تنص على وجود محكم ومتشابه في القرآن الكريم.
فقوله تعالى:
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.
فمن المفسرين من يعتبر الواو في قوله:
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دالة على العطف فيفهمون من الآية أن الله وكذلك الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه. ومنهم من يقف عند (الله) فيفهم من الآية أن الله وحده هو الذي يعلم تأويل المتشابه، أما الراسخون في العلم فذكرهم استئناف، وهؤلاء يقولون آمنا به، ولا يطيلون الوقوف عند التأويل.
(1) البرهان ج 2، ص 69.
ومثل هذين الرأيين يمثلان موقفين متناقضين لفريقين من علماء المسلمين.
ففي القرآن آيات تتناول صفات الله، وتتحدث عن أمور غيبية لا يمكن الوصول في فهمها إلى رأي قاطع. وقد توقف بعض السلف عن الخوض في مثل هذه الآيات، ومحاولة تأويلها، معتبرين ذلك من البدع. فلم يحاولوا فهم استواء الله على العرش، في حين أن المعتزلة وغيرهم حاولوا فهم معاني القرآن، ولم يتوقفوا عند المتشابه، بل أولوه.
نقل الامتناع من التأويل عن بعض الصحابة وعلماء السلف، فأم سلمة تحدثت عن الاستواء في قوله تعالى:
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
فقالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب «وكذلك سئل الإمام مالك في هذا الأمر فأجاب بما أجابت به أم سلمة. وكذلك سئل سفيان الثوري فقال: أفهم من قوله:
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (طه: 5) ما أفهم من قوله:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ.
(فصلت: 11) وسئل الأوزاعي عن تفسير الآية فقال: الرحمن على العرش استوى، كما قال، وإني لأراك ضالا (1).
(1) المصدر السابق، ص 78.
يقول الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: «وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه (1)» .
وقد ألف الغزالي كتابا بعنوان «إلجام العوام عن علم الكلام» حث فيه على مذاهب السلف ومن تبعهم، إلا أن الغزالي لا يمنع العالم المحقق من البحث في كل ما يحتاج إلى التأويل. يقول:«فالصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان بالرسل والتصديق المجمل بكل ما أنزله الله تعالى وأخبر به رسوله من غير بحث وتفتيش عن لأدلة (2)» .
أما المعتزلة ومتكلمو السنة وهم الأشعرية فاختاروا التأويل.
وهؤلاء أيضا يستندون إلى بعض السلف فقد نقل التأويل عن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم (3).
ورأي القائلين بوجوب التأويل، وأن الراسخين في العلم قادرون على الفهم راجع إلى مذهب هؤلاء في إعظام شأن العقل، إلى حد أنهم جعلوا كل حسن وقبيح من المدركات العقلية، وأن الشرائع جاءت مطابقة لما اهتدت إليه العقول، داعية إلى ما استحسنته، ناهية عما استقبحته- فمذهب المعتزلة والأشعرية متأثر بالمذاهب الفلسفية، لا يقبل التوقف عند النص، من غير محاولة لإدراك معناه.
فهم يقولون في تأويل قوله تعالى:
تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ (المائدة: 116)
(1) المصدر السابق.
(2)
الرسالة الوعظية (ص 155 من كتاب الجواهر الغوالي من رسائل الغزالي).
القاهرة، 1934.
(3)
الزركشي، ج 2، ص 79.
إن النفس هنا هي الغيب، تشبيها له بالنفس، لأنه مستتر كالنفس.
ويقولون في تأويل قوله تعالى:
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ أنه المعبود في السموات والأرض، أو أنه العالم بما فيهما.
وقوله تعالى:
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ يقولون فيه: «لم يرد سبحانه بنفي النوم والسنة عن نفسه إثبات اليقظة والحركة، لأنه لا يقال لله تعالى يقظان ولا نائم، لأن اليقظان لا يكون إلا عن نوم، ولا يجوز وصف القديم به، وإنما أراد بذلك نفي الجهل والغفلة (1)» .
وهكذا يمضون في تأويل آيات مثل:
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (ص: 75) وقوله تعالى:
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ (الرحمن: 27) فيؤولون اليد والوجه وما شابههما إلى معان تصرفها عن المعنى الحسي أو الجسدي.
والخلاصة أن أرجح الأقوال في المحكم هو أنه ما كان واضح الدلالة
(1) المصدر السابق، ص 85.
ظاهر المعنى، وأن المتشابه ما احتاج فهمه إلى تأويل، ولم يمكن القول في تأويله برأي قاطع، بل كان قابلا لأكثر من معنى، وإن رجح بعض هذه المعاني على سواه. وإلى مثل هذا ذهب الإمام الفخر الرازي في كتابه «أساس التقديس» .
وإلى هذا ذهب صاحب كتاب «المباني في نظم المعاني» (الذي ألف عام 425 هـ) يقول: «أما القول في المحكم والمشابه، فإن القرآن كله محكم من جهة النظم والإعجاز، كما قال تعالى:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وكله متشابه من تشابه ألفاظه بعضها ببعض، فليس فيه ما ينفى ويردّ لنا، ويخرج عن النظم ويهمل، وذلك قوله تعالى:
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً وبعضه محكم من جهة احتماله وجها واحدا لا يرتاب فيه مرتاب، وبعضه متشابه من احتماله وجوها كثيرة لا يقطع على واحد منها قاطع، كما أنه في بابه علم ساطع، وذلك قوله تعالى:
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فاللاتي هن أم الكتاب مثل قوله تعالى:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.
(سورة 6 آية 151) وقوله:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (سورة 113 آية 1)
وقوله:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ (سورة 59 آية 23) فأما المتشابه، فإنه مثل قوله:
عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (سورة 39 آية 56) وقوله:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ (سورة 2 آية 210) وقوله:
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (سورة 89 آية 22) وما أشبهها (1).
أما الحكمة في وجود هذه الآيات المتشابهات فهي ما تقتضيه الضرورة في مخاطبة الآدميين، وكثير منهم لا يستطيعون تصور الذات الإلهية منزهة كل التنزيه، فكان الخطاب بأسلوب يقرّب تصور الذات من أفهام الناس، مع التحدث بصريح التنزيه عن الخالق في الآيات المحكمات. وبردّ المتشابه الى محكم آيات القرآن ينتفي التشبيه والتجسيد عن الذات الالهية، ويتضح الأمر أمام خاصة العلماء
(1) كتاب المباني، ص 176، 177. (ضمن: مقدمتان في القرآن)، القاهرة، 1954.
الذين يناط بهم الإدراك الواضح لمعنى التنزيه. أما العوام فهم في العادة لا يستطيعون بلوغ هذه الغاية.
وقد ساق صاحب كتاب المباني ثمانية أوجه لبيان الحكمة في متشابه القرآن، وسنذكر هذه الأوجه هنا بإيجاز.
1 -
إن الله احتج على العرب بالقرآن، إذ كان فخرهم ورياستهم بالبلاغة، وحسن البيان والاختصار والإطناب. وكان كلامهم على ضربين: أحدهما:
الواضح الموجز الذي لا يخفى على صاحبه، ولا يحتمل غير ظاهره. والآخر على المجاز والكنايات، والإشارات والتلويحات وهذا الضرب هو المستحلى عندهم، الغريب من ألفاظهم، البديع في كلامهم. فلما قرعهم الله سبحانه فعجزهم عن المعارضة بمثل سوره أو سورة منه أنزله على الضربين ليصح العجز منهم وتتأكد الحجج ولزومها إياهم، فكأنه قال: عارضوا محمدا في أي الضربين شئتم، في الواضح أو في المشكل. ولم يقدروا عليه. ولو أنزله كله واضحا محكما بحيث لا يخفى على أحد سمعه منه لوجد المشركون مقالا، وقالوا: ما باله لم ينزله بالضرب المستحسن عندنا، والمستحلى في طباعنا؟ لأن ما وقع فيه الإشارة والكناية والتشبيه والتعريض كان أفصح وأعرب. ثم يؤيد بعد ذلك رأيه هذا بأبيات من الشعر فيها الاستعارات والمجاز والكناية ويطبق بعض هذه المفهومات البلاغية على آيات من القرآن.
2 -
في الآيات المتشابهة اختبار لموقف المؤمن الذي يتقبل ما جاء بهذه الآيات ويردها إلى عالمها في حالة العجز عن إدراك معناها، في حين أن المنافق يتخذ من المتشابه سبيلا إلى بث عقائده الفاسدة، عن طريق التأويل السيّئ.
3 -
في المتشابه حث للعلماء على التدبر والتأمل وهؤلاء ينهضون بالتأويل، وينتفع العامة بعلمهم، ولو كان كله واضحا محكما لاستوى فيه العالم والجاهل.
4 -
في المتشابه من الآيات تدريب لعلماء الأمة على التدبر والتأمل، واستدعاء لهم لمداومة التفكر.
5، 6، 7 - يمكن أن ترد هذه الأوجه إلى الوجه الرابع، فكلها مرتبط بفكرة البحث والتأمل، وما لهما من أثر في إظهار العلماء، الذين يوالون البحث فيه.
ولو كانت كل معاني القرآن واضحة ظاهرة لانتهى القول فيها، وتوقفت دراسة القرآن الكريم عند حد، وربما أدى ذلك إلى الانصراف عنه.
8 -
في المتشابه اختبار يكشف عن المؤمنين الراسخين في الإيمان، وعن أهل العقيدة المتزعزعة. قال تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
(سورة 2 آية 26) وهذا هو المقصود من قوله تعالى بعد ذلك:
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً.
وهذا الوجه مرتبط إلى حد بعيد بالوجه الثاني الذي ذكره صاحب كتاب المباني (1).
وكل هذه الأقوال تدخل في باب الاجتهاد. فهي من قبيل المحاولات التي تساق لإيضاح بعض جوانب الدراسات المتصلة بالقرآن الكريم. ولسنا مطالبين بالأخذ بها على علاتها، بدون التفكير فيها، والبحث عن مدى اتفاقها مع النصوص القرآنية.
(1) كتاب المباني، ص 177 - 182. ضمن كتاب: مقدمتان في علوم القرآن.
نشر: آرثر جيفري. القاهرة، 1954.