الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
16 - اعجاز القرآن
من المعروف أن القرآن الكريم كان معجزة الرسول الكبرى. وربما تروى له معجزات أخرى، لكن المعجزة التي أجمع المؤرخون والعلماء على نسبتها إليه هي القرآن الكريم.
وعلى هذا كان إعجاز القرآن طوال العصور موضوعا للدرس والبحث، وكان كل باحث يحاول أن يهتدي إلى سرّ هذا الإعجاز. وكم من كتب تناولت هذا الموضوع، فكان منها الكلامي، وكان منها البلاغي. وأعتقد بعد كل هذا البحث والدرس أننا لا نزال نفتقر إلى العمل العلمي الكامل الذي يضع يدنا على حقيقة الإعجاز في كتاب الله.
لقد أراد الله أن تكون معجزة الرسول هي صميم رسالته. لم يجر الله على يد الرسول ما كان يجريه من قبل على يد أنبيائه، فموسى كان يلقي العصا فتصير حية، ويدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء. وعيسى كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمة والأبرص أما الرسول فكانت معجزته الكتاب الذي أنزل عليه.
ولقد كانت الجزيرة العربية إبان البعثة النبوية عامرة بالشعراء والخطباء والبلغاء.
فكانت المعجزة المحمدية معجزة تتفق وعصرها وكذلك مع طبيعة البيئة العربية التي كانت إذ ذاك تحفل بالفصاحة وتعتد بالبيان.
يضاف إلى ذلك أن الاسلام يمثل آخر الرسالات السماوية. وقد جاء زمانها حينما كانت البشرية قد بلغت شأوا بعيدا من النضج، في عصر تاريخي متأخر نسبيا. فلم يعد من المقنع القيام بالمعجزات الشبيهة بالسحر، وإنما أصبح الوقت وقت الإقناع بالمنطق والحجة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
يقول القاضي عبد الجبار في كتابه المغنى: «إنه تعالى خص رسوله بالقرآن من حيث ختم به النبوة، وبعثه إلى الناس كافة، وجعل شريعته مؤيدة، لأن غيره من المعجزات كان يجوز أن يدرس على الأوقات (أي يختفي مع الزمن)، ويضعف النقل فيه، وذلك لا يتأتى في القرآن (1)» .
ويستدل من قول القاضي عبد الجبار هذا أن القرآن معجزة دائمة لا تنقطع، في حين كانت معجزات الأنبياء السابقين في الزمن على محمد مما حدث وقت دعوتهم ثم انقطع، فلم يشاهده إلا بعض من عاصر هؤلاء الأنبياء، أما القرآن فهو معجزة باقية على الأيام تخاطب العقل والروح.
ومن الثابت بالتواتر أن الرسول تحدى العرب بالقرآن، وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله. وفي القرآن الكريم نصوص تسجل مراحل التحدي. قال تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الاسراء: 88) وتحداهم بعد ذلك بأن يأتوا بعشر سور. قال تعالى:
(1) المغنى، ج 16، ص 165.
قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (هود: 13) وحين عجزوا عن الإتيان بعشر سور، دعوا إلى الإتيان بسورة واحدة.
قال تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
(البقرة: 23) وإذا أردنا أن نتتبع طرق علمائنا القدامى في بحث الإعجاز نجدهم يبدءون ببيان قدر المعجز من القرآن. ونراهم ينقلون عن الأشعري أن أقل ما يعجز من القرآن السورة، قصيرة كانت أم طويلة. ويرى أيضا أن الآية التي تبلغ حروفها مقدار حروف السورة القصيرة فهي أيضا معجزة.
أما المعتزلة فيرون أن كل سورة برأسها معجزة (1).
أما تفسيرات القدماء للإعجاز فجاءت منوعة بتنوع النظرات إلى هذا الموضوع، وتبعا لاختلاف ثقافات الكتاب الذين تناولوه. وسنذكر هنا أمثلة لما ذكره هؤلاء القدماء في تفسيرهم لإعجاز القرآن.
1 -
ذهب إبراهيم بن سيّار النظام أحد متكلمي المعتزلة إلى أن إعجاز القرآن راجع إلى أن الله صرف العرب عن معارضته، وسلب عقولهم. وهذا الرأي لم يكن من الآراء التي لقيت قبولا عند العلماء، ذلك لأنه يجعل الإعجاز مقصورا على
(1) الزركشي: ج 2، ص 108.
زمان الرسول، حين قام التحدي. كما أنه ينافي صريح القرآن، في قوله تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.
(الاسراء: 88) 2 - وفي رأي بعض العلماء الأقدمين أن الإعجاز راجع إلى تأليف القرآن الخاص به، ذلك الذي يتجلى في اعتدال مفرداته تركيبا ووزنا، واشتمال مركباته على أرفع المعاني بحث وقع كل فن في مرتبته العليا من حيث اللفظ والمعنى.
3 -
وذهب فريق من العلماء إلى أن إعجاز القرآن يرجع إلى إخباره بالغيوب المستقبلة. فقد وقع في القرآن الكريم تنبؤ بأحداث قبل وقوعها، وتحقق ما أنبأ به.
ومن أمثلة ذلك ما أخبر به عن تغلب الروم على الفرس، بعد أن أوقع الفرس الهزيمة بالروم واستولوا على بيت المقدس. وقد جاء ذلك في قوله تعالى:
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ.
(الروم: 1، 2) وقد اعترض على هذا بأن آيات القرآن التي أخبرت بالغيب قليلة، بالنسبة إلى حجم الكتاب كله، فهذا القول يجعل الإعجاز مقصورا على قسم صغير منه.
على أن هذا لا ينفي عندهم أن الإنباء بالغيب من أسرار الإعجاز في الآيات التي ورد بها.
4 -
ومن الأقوال في الإعجاز أيضا أنه راجع إلى الإخبار عن قصص الأولين، وما وقع في سالف العصور، بأسلوب من شهد الأحداث وحضرها.
وهذا القول أيضا مردود كسابقه، لأن القرآن يتناول هذه الأخبار في قسم
منه، لا في جميع أجزائه. على أن هذا لا ينفي عندهم أن مثل هذا الإخبار من أسرار الاعجاز في الآيات التي تحدثت به.
5 -
ومن الأقوال في أسرار الإعجاز أيضا أنه راجع إلى إخبار القرآن الكريم عن أسرار الضمائر، وكشف ما خفي عنها، ومن أمثلة ذلك كشفه عن ضمائر المنافقين، وهو قول ضعيف يقصر الإعجاز على قسم صغير من القرآن الكريم.
6 -
هناك رأي آخر أختاره السكّاكي في كتابه مفتاح العلوم، يذهب إلى أن الإعجاز شيء لا يمكن التعبير عنه. إنه شيء يدرك ولا يمكن وصفه، يقول:
«مدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا» . وعنده أنه يدرك كما يدرك طيب النغم، ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرن فيهما.
ويشير كلام السكّاكي هذا الى موضوع كان له خطره في تاريخ الدراسات العربية، وهو ارتباط علوم البلاغة بدراسة الإعجاز في القرآن.
لقد كان هذا الارتباط وثيقا، وقد ساعدت دراسة الإعجاز على تطوير البلاغة العربية، وتوسيع مجال بحثها، وأغنتها بدراسات كثيرة.
7 -
القائلون بأن الإعجاز راجع إلى فصاحة القرآن أو بلاغته كثيرون.
وهناك كتابات متعددة تعبر عن هذا المعنى. فحازم القرطاجني يذهب في كتابه «منهاج البلغاء» إلى أن الإعجاز راجع إلى استمرار الفصاحة والبلاغة فيه استمرارا لا ينقطع، وبصورة لا يقدر عليها أحد من البشر. فكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في العالي فيه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية فتقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد تفاريق وأجزاء منه. والفترات في الفصاحة تقع للفصيح، إما بسهو يعرض له في الشيء من غير أن يكون جاهلا به، أو من جهل به، أو من سآمة تعتري فكره
…
وهكذا.
وخلاصة هذا الكلام أن في القرآن بلاغة تعم كل آياته، وفصاحة تشيع في مختلف نواحيه، بعكس كلام البلغاء يتفاوت في قوته وضعفه، ولا يخلو كلام أحدهم من الغث.
وممن أرجع إعجاز القرآن إلى الفصاحة وغرابة الأسلوب والسلامة من جميع العيوب مع اقتران ذلك بالتحدي العلامة فخر الدين الرازي صاحب التفسير المشهور. فهو يضيف التحدي إلى الفصاحة، وغرابة الأسلوب عما كان مألوفا عند العرب.
ولأبي سليمان الخطابي المتوفي عام 388 أيضا رسالة في الإعجاز ترجع سره إلى البلاغة. ويرى أن بليغ الكلام ينقسم إلى نوع أعلى وآخر أوسط وثالث أدنى أي أقرب. يقول: «فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتي الفخامة
والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة في الكلام يعالجان نوعا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوّ كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسّرها الله بلطيف قدرته ليكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا اليه من أمر دينه. وانما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور:
منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني.
ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها، وارتباط بعضها ببعض
…
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى قائم، ورباط لها ناظم.
إذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى
نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه. وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه، والرقيّ إلى أعلى درجاته.
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمّنا أصح المعاني، من توحيد الله تعالى، وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، ومنبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.
ومعلوم أن الاتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق امر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله، ومناقضته في شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه، غير مقدور عليه. وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب، وقرعا في النفس، يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
(الفرقان: 5)
مع علمهم أن صاحبهما أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئا ..
ثم أعلم أن عمود البلاغة التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام، أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة، وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس، كالعلم والمعرفة، والشح والبخل، والنعت والصفة، وكذا بلى ونعم، ومن وعن، ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف، والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك، لأن لكل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وإن اشتركا في بعضها».
هذا النص الطويل يشير إلى كثير من الموضوعات البلاغية، كما أنه يشير إلى نظرية «النظم» ، ويقدم أفكارا عنها. هذه النظرية أيضا قد أشار اليها أبو بكر الباقلاني (المتوفي سنة 403) صاحب «إعجاز القرآن» ، وهو من أشهر الكتب في هذا الباب، فقد ذكر أن من أسرار الإعجاز ما في القرآن في النظم والتأليف والترصيف، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب (1). لكن الباقلاني لم يسلك مسلك الخطابي من حيث التوسع في شرح مفهومات البلاغة، وخصائص النظم والتأليف، بل شغل نفسه بمسائل كلامية عقلية لا نراها قادرة على الوفاء بإيضاح معنى الإعجاز وأسراره.
8 -
ولقد أتيح لفكرة «النظم» أن توضح على أحسن صورها وذلك على يد اللغوي البلاغي القدير عبد القاهر الجرجاني المتوفي عام 471. فهذا الرجل العبقري قد استطاع في كتابيه «دلائل الإعجاز» «وأسرار البلاغة» أن يضع الأسس التي قام عليها علم المعاني وعلم البيان. وقد توسع في إيضاح فكرة «النظم» بوصفه السر الكامن وراء كل كلام بليغ، واستعان بهذه الفكرة في إيضاح أسرار الإعجاز.
ويرى الدكتور مندور أن عبد القاهر الجرجاني قد اهتدى في العلوم اللغوية
(1) إعجاز القرآن، ص 54.
كلها إلى مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير، وعلى أساس هذا المذهب كوّن مبادئه في إدراك «دلائل الإعجاز» في القرآن. إن عبد القاهر يرى «أن الألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب (1)» . من هنا لم يهتم عبد القاهر في بحثه عن الإعجاز بالمفردات
اللغوية، على أساس أن هذه لا تعني شيئا إذا جرّدت من النظم الذي يخلق لها السياق، ويحدد العلاقات بينها.
كذلك ينبغي أن لا يبحث عن الإعجاز في تركيب الحركات والسكنات، تلك التي يستعان بها في تمييز بحور الشعر بعضها عن بعض.
وينفي عبد القاهر كذلك أن تكون المقاطع والفواصل سر الإعجاز «لأنه أيضا ليس بأكثر من التعويل على مراعاة وزن، وانما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي لم يعوزهم ذلك ولم يتعذر عليهم (3)» .
(1) أسرار البلاغة، ص 2.
(2)
دلائل الاعجاز، ص 295.
(3)
المصدر السابق.
ويسخر من القائلين بأن مرد الإعجاز إلى الصرفة، أي إلى أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن، على نحو ما قال النظام. فمثل هذا ما كان ليدل على إعجاز القرآن بنفسه، وإنما بأمر خارجي، مما يجعل عجز العرب عن مجاراته مصدر العجب وليس القرآن ذاته. يقول:«أرأيت لو أن نبيا قال لقومه: إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رءوسكم، وكان الأمر كما قال، مم يكون تعجب القوم؟ أمن وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رءوسهم» . يتحدث بعد ذلك عن النظم فيقول: «ونعود إلى النسق فنقول: «فإذا بطل أن يكون الوصف الذي عجزهم من القرآن في شيء مما عددناه لم يبق إلا أن يكون الاستعارة. ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز، وأن يقصد إليها، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة، في مواضع من السور الطوال مخصوصة. وإذا امتنع ذلك فلم يبق إلا أن يكون في النظم والتأليف، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا النظم. وإذا ثبت أنه في النظم والتأليف، وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها وجامعا يجمع شملها ويؤلفها ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها طلبنا ما كل محال دونه
…
فان قيل: «قولك إلا النظم» يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك ما لا مساغ له، قيل: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز، وذلك لأن هذه المعاني- التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها- من مقتضيات النظم، وعنها يحدث، وبها يكون، لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو، فلا يتصور أن يكون هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره (1)».
(1) المصدر السابق.
ويوضح لنا بصريح القول أن قصده من تفسير النظم بأنه الاستخدام النحوي لا يعني مجرد قواعد النحو، فهي مما يعرفه كل عربي سليم الفطرة. وإنما يقصد من ذلك دقائق تأليف الكلام، وأسرار الترابط بين مفرداته.
يقول: «ثم إنا نعلم أن المزية المطلوبة في هذا الباب مزية فيما طريقه الفكر والنظر من غير شبهة
…
ومن هاهنا لم يجز إذن عد الوجوه التي تظهر بها المزية أن يعد فيها الإعراب، وذلك أن العلم بالإعراب مشترك بين العرب كلهم، وليس هو مما يستنبط بالفكر ويستعان عليه بالروية».
فالعرب جميعا يعرفون أن الفاعل مرفوع وأن المفعول منصوب والمضاف إليه مجرور. لكن إدراك الفاعل في مثل قوله تعالى:
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ هو الذي يقتضي الذوق والعلم بالنظم. وهكذا في قوله تعالى:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وهذا عنده ليس علما بالإعراب، بل بالوصف الموجب للإعراب.
وهكذا إدراك عبارة قرآنية مثل وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ وفهم العلاقات بين المفردات فيها هو الذي يعنيه عبد القاهر بالنظم القرآني.
ثم يقف وقفة أخيرة أمام غريب اللغة، وكيف أن الإعراب في اللغة لا يمكن أن يكون ضربا من الإعجاز. فلو تحدى القرآن عالما بمفردات غريبة لما عجز عن مجارتها بمثلها. ولو تحدى جاهلا بهذه المفردات لكان كمن يتحدى العرب أن يتحدثوا بلسان الترك. ثم هو يقول بعد ذلك إن العرب لم يكونوا يعتبرون الإغراب اللغوي فضيلة، ويستشهد على ذلك بقول عمر في زهير: «إنه كان لا يعاظل
بين القول ولا يتتبع حوشيّ الكلام «فقرن تتبع الحوشيّ وهو الغريب إلى المعاظلة التي هي التعقيد.
نظرية النظم تعني أن القرآن معجز بتأليفه، وبكل ما انطوى عليه هذا التأليف. وهي نظرة شاملة لا تبحث عن الإعجاز في جوانب تفصيلية، كالمفردات اللغوية، أو الأوزان، أو الحركات، أو الاستعارات، وإنما تبحث عنه في التأليف الجامع وما انطوى عليه.
لكن هذه النظرة الشاملة التي تجلت عند عبد القاهر لم تنتشر بعد عصره، بل قامت دراسات تبحث عن أسرار الإعجاز في موضوعات تفصيلية نجد من أمثلتها ما تضمنه كتاب البرهان للزركشي من أبحاث في أساليب القرآن وفنونه البليغة، وأقسام التأكيد، والصفة، والبدل، وعطف البيان، وذكر الخاص بعد العام، وذكر العام بعد الخاص، وعطف أحد المترادفين على الآخر، والإيضاح بعد الإبهام، إلى غير ذلك من أبحاث تفصيلية تعد بالمئات. والجدير بالذكر أن دراسة الإعجاز على هذه الصورة كان لها أعمق الأثر في تطوير الدراسات البلاغية.
9 -
ظهر عند بعض المتأخرين ميل إلى أن إعجاز القرآن يرجع الى كل الوجوه التي سبق لنا بيانها. فجميع الآراء التي ذكرناها من فصاحة وبلاغة، وإنباء بالغيب، وإخبار عن الأمم السالفة، وما تضمنه القرآن من الشرائع والأحكام، كل أولئك من أسرار إعجازه.
وممن ذهب إلى ذلك من المعاصرين الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «مصادر الفقه الاسلامي» حيث عزا الإعجاز إلى بلاغة القرآن، وإخباره بأحوال القرون السابقة، وما جاء فيه من إخبار عن أمور مستقبلة وقعت كما أخبر الله سبحانه، ثم ما اشتمل عليه القرآن من حقائق ما كان يمكن أن تكون لأمي لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك ما تضمنه كتاب الله من أحكام هي الشريعة القرآنية (1).
(1) انظر: مصادر الفقه الإسلامي، ص 16 - 25.
ولا تزال محاولات البحث عن أسرار الإعجاز مستمرة حتى زماننا هذا. وقد سعى البعض إلى نسبة الإعجاز إلى ما في لغة القرآن من موسيقى كما نسب البعض أسرار الإعجاز إلى التصوير البياني. وكلها أبحاث تتصل بمفهومات حديثة للنقد الأدبي، ولا نستطيع أن نقول إنها تفي بالكشف عن سر الإعجاز على وجه مكتمل. والى جانب هذا هناك أبحاث تسعى إلى اثبات الإعجاز بما يكشف عنه البحث الحديث من حقائق علمية، وردت إشارات إليها في القرآن الكريم. وتنشر من حين الى حين كتابات تتناول موقف القرآن الكريم مما يتكشف عنه العلم الحديث من حقائق ونظريات.
وهذا اتجاه يجب تناوله بحذر. فما كل نظرية علمية تقال اليوم تثبت صحتها بصورة قاطعة. ومن هنا كانت محاولات الربط الوثيق بين العلم الحديث وبين القرآن الكريم من الأمور التي ينبغي الخوض فيها بحذر، يقي من الافتتان بكل ما يساق باسم العلم من آراء ونظريات، قد لا يكون العلم قد وصل فيها الى مرحلة اليقين، ومع ذلك يوجد من المسلمين من يسارع إلى إلصاقها بالقرآن الكريم، وحمل بعض آياته على القول بها.