الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب - دولة القوط الغربيين في إسبانيا:
وكان يوريك قد حرص منذ صارت إليه زعامة القوط، على أن يمد سلطانه شيئاً فشيئاً حتى يبسطه على إسبانيا كلها، ولم يتنازل إلى جانب ذلك عما كان لأسلافه من الأقاليم شمالي جبال البرت، وكان الرومان يعتبرون جنوبي فرنسة وشمالي إسبانيا وجزءاً كبيراً من غربيِّها إقليماً واحداً، فحرص يوريك أن تضم دولته هذا الإقليم، فاستولى على لُشْدَانية (البرتغال) وقرر فيه سلطانه، ومدّ حدود مملكته إلى الجنوب، وأدخل فيها إقليم بيطي (الذي يعرف باسم بيتيكا) وولاية قرطاجنة الرومانية القديمة وهي الركن الغربي لشبه الجزيرة الإسبانية، وتابع جهوده في شمالي جبال البرت، واستولى على آرل ومرسيليا. وبهذا أصبحت دولته تمتد من أقصى الهضبة الفرنسية الوسطى، إلى إسبانيا الجنوبي، وحكم شعبين كبيرين هما: الغال الرومانيون ( Gallo-romani) شمالي البرت، والإسبان الرومان ( Hispano-romani) جنوبيّها، وكانا شعبين متحضرين، يشتغل معظمهما بالزراعة، ويزيدان على القوط الغربيين مرات عديدة، وكان معظم أهلها مسيحيين كاثوليك، يسيطر عليهم قساوسة خاضعون لسلطان رومة وأسقفها الكبير: البابا.
وكان القوط الغربيون مسيحيين أريوسيين، أي أنهم لا يعتقدون بألوهية المسيح، ولا يعترفون للقساوسة بحق الوساطة بين الله والناس، ولا يجعلون للعذراء مكاناً متميزاً في العقيدة، وكان لهم أسلوبهم الخاص في العبادة، فلم يلبث السكان الأصليون من غاليين (فرنجة) وإيبيريين (إسبان) أن نفروا من حكمهم. واجتهد القساوسة في تقوية شعور النفور هذا، لأن القوط كانوا ينكرون عليهم أي سلطان روحي على الناس. واشتد هذا النفور مع الأيام، بسبب ما كان ينزله القوط على القساوسة من اضطهاد، وظل مركزهم بين رعاياهم مضطرباً مزعزعاً، فلما نهض كلوفيس ملك الفرنجة وأخذ يمد سلطانه نحو الجنوب، سارع القساوسة لتأييده لأنه كان كاثوليكياً، وانضم إليه الغال الرومانيون، فاستطاع أن يزيح القوط إلى الجنوب ويجليهم عن طولوز
الذي ظلّوا يحكمونه أمداً طويلاً، ثم انتصر عليهم انتصاراً حاسماً في شمالي بواتيه سنة (507 م) كما ذكرنا وأجلاهم عن جلّ ما كان في سيطرتهم من أرض جنوبي فرنسة، فلم يبق لهم إلا إقليم سبتمانية المتاخم لجبال البرت من الشمال ويمتد حتى نهر الرون وعاصمته نربونة.
وبهذا اقتصر سلطان القوط الغربيين على إسبانيا، وأخذت علاقة إسبانيا مع بقية العالم الأوروبي الواقع إلى شمال جبال البرت تفتر. ولما وحّد القوط الغربيون شبه الجزيرة الإسبانية كلها تحت سلطانهم، أخذت إسبانيا تظهر كوحدة سياسية وجنسية للمرة الأولى في التاريخ. وذلك أمر له خطورته، لأن الإغريق لم يعرفوا منها إلاّ الغرب وبعض الجنوب، ولأن الرومان كانوا يقسمونها ولايات مختلفة لا علاقة بين بعضها. أما القوط فقد اعتبروا شبه الجزيرة الإسبانية كلها قطراً واحداً، واتخذوا لهم عاصمة تقع فى وسط شبه الجزيرة، هي: طُليطلة. ولعل أظهر أثر لاستقرار القوط في طُليطلة، هو تحولهم إلى إسبان، في وقت قصير، لأن المقيم في طليطلة، تنقطع الصلات بينه وبين ما يلي البرت وما يلي بحر الزقاق، ويتأقلم ويصبح إسبانياً. أما المقيم في قرطبة، فتظل صلته بإفريقية وما يتصل بها من بلاد الشرق، أوثق وأظهر من صلاته بجليقية ونواحي جبال البرت.
واستطاع القوط من عاصمتهم طليطلة، أن يستولوا على إسبانيا كلها، ولكن سلطانهم لم يستقر في البلاد أول الأمر بسبب ما ثار بينهم وبين أهل إسبانيا من منازعات دينية، وبسبب ما شجر بين أمرائهم من خلافات. وطمع ثيودوريك ملك القوط الشرقيين في عرش إسبانيا، فغزاها وأقام حفيداً له على عرشها، ولكن لم يلبث أحد قواد القوط الغربيين الأقوياء أن ثار بهذا الدخيل، وأعلن نفسه ملكاً على إسبانيا، بفضل معاونة حربية أمدّه بها جُستنيان إمبراطور بيزنطة في سنة (554 م)، وانضم إليه أهل البلاد من الإسبان الرومان الكاثوليك، واحتل المنطقة الواقعة بين نهر الوادي الكبير ونهر جُكَرْ (نهر شقر)، وانفصل هذا الإقليم عن طليطلة.
وكان آخر ملوك القوط الغربيين الأريوسيين هو: ليوفيجيلد ( Liuvigild)(568-586 م)، وكان محارباً مقداماً ظل يحارب الكاثوليكيين طول حياته. وخلفه ابنه ريكاردو ( Recaredo) ، فاستبان أنه لا صلاح لدولة القوط في هذه البلاد، إلاّ إذا تخلّى ملوكها عن المذهب الأريوسي. وتخلى هذا الملك عن المذهب الأريوسي، وأعلنه في مجمع طليطلة الديني سنة (587 م): اعتنق الكاثوليكية هو وأهل بيته، وتبعه الأمراء وكبار أهل المملكة، وبهذا أصبحت الكاثوليكية هي الديانة الرسمية في إسبانيا من ذلك الوقت. وهذا الحادث الخطير، سيظل مؤثراً في التاريخ الإسباني كله، فإن الكاثوليكية تأصلت في أهل البلاد مع الزمان، وزادها قوة ميل الإسبان التشدد في الأديان، والتعصب لكل ما يؤمنون به، فأصبحت إسبانيا معقلاً من أمنع معاقل الكاثوليكية، وكان لهذا أثر بعيد جداً في حياة الإسبان، وفي مجرى تاريخهم كله.
وأعقب هذا التحول إلى الكاثوليكية اعتبار اللاتينية اللغة الرسمية في البلاد، وتوثق الصلات بين إسبانيا والبابوية. وقد تفانى خلفاء ريكاريدو في الولاء للبابوية، تفانياً شجع البابوية على بسط نفوذهم الديني -بل السياسي- في البلاد، وبدأ يفد على البلاد هذا الفيض المتصل من قساوسة الكاثوليك ورهبانهم، وأصبحت طليطلة أسقفية، يقيم فيها أسقف كبير يمثل سلطان البابا ونفوذه، وأيده الشعب الإسباني الروماني الذي لم يتخلّ عن الكاثوليكية بعد ذلك. ومن هنا نفهم السر، في أن نفوذ أسقف طليطلة لم يقل في وقت من الأوقات في التاريخ الإسباني المسيحي عن نفوذ الملك، إن لم يزد عليه في كثير من الأحيان. وكان تحول القوط إلى الكاثوليكية الخطوة الفعالة الأولى لامتزاج الشعبين القوطي والإسباني الروماني، فقد ظلاّ متباعدين ما اختلفت عقيدتاهما الدينيتان، فأما وقد اتفقا في العقيدة، فقد انفتح الباب أمام الامتزاج، ولكنه لم يتم إلاّ على صورة مصغرة جداً، لأن القوط حرصوا على أن يحتفظوا لأنفسهم بمركز الشعب الحاكم.
وكانت الملكية القوطية انتخابية، أي أن نفراً من كبار أهل المملكة
والأمراء، كانوا يجتمعون بعد وفاة الملك لاختيار ملك من بين أظهرهم، فكان هذا النظام مدعاة لإثارة المنافسات بين الأمراء وكبار القوط، فلا غرابة في أن يكون تاريخ القوط في إسبانيا سلسلة من المؤامرات والحروب والاغتيالات.
بيد أننا ينبغي أن نستثني من سلسلة ملوك القوط نفراً أجمع المؤرخون على أنهم كانوا قادرين صالحين، وأنهم قدموا للبلاد خدمات حربية وعمرانية بعيدة الأثر، مثل: ششبرت (612 - 621م) - ( Sisiberto) الذي استولى على جميع أرجاء إسبانيا، وشنداسفنتو (649 - 672م) - ( Chindaswinto) الذي ألغى التفرقة بين أفراد الشعب، وحكم البلاد بمقتضى قانون جديد مزج فيه القانون الروماني القديم الذي كان قد سنّه الملك ألاريك الثاني، والقانون القوطي الذي وضعه يوريك، مما قرر السلام بين أهل المملكة، وجنّبها مصاعب وخلافات شتى.
ولعل أكبر ملوك هؤلاء القوط هو وامبا (672 - 680م) - ( Wamba) ، فقد كان أميراً عظيم الهمة، استطاع أن يقرر سلطانه فيما بقي للقوط من الممتلكات شمالي جبال البرت: قضى على ثورة خطيرة دبرها هلدريك كونت نِيْمَهْ (نيم)، وأخمد ثورة أخرى دبرها باوْلُس أمير سبتمانية للانفصال بها، وحكم البلاد كلها حكما رشيداً حازماً، فأحبه الناس والتفوا حوله، وبلغ من تعلق الناس به أن أصبح اسمه وعصره أسطورة لا تخلو من الخوارق، منها: أن وامبا وقف بين يدي الأسقف في الكنيسة لكي يلبس التاج، فبينما هو في هذا الموقف الرهيب، إذا عمود من الدخان يتصاعد من رأسه، تطير فيه نحلة من ذهب (1). ومن الواضح أن ذلك لم يحدث، ولكنه شائع في المصادر الأجنبية وبين القوط أيضاً.
وقد انتهى حكم وامبا نهاية لا تخلو من غرابة وطرافة، فقد احتال عليه أحد
(1) Saavedra، op.cit. apendice p. 117
حاسديه، ودسّ له مَن سقاه جرعة مخدِّرة لم تلبث بعد أن شربها أن غاب في سبات عميق. وحسبه الناس قد مات، وهيّئوه ليواروه التراب، فبينما هم في ذلك، إذ عاد إلى رشده. وبدلاً من أن ينهض لتأديب مَنْ ائتمروا به على هذا النحو الغريب، ترك العرش للطامعين، وترهب وقضى بقية حياته في الدير.
وعندما اعتلى غَيْطَشَة (وِتِزا: Witizu) العرش في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة (700 م)، كانت الأمور قد اضطربت بسبب المؤامرات التي كان كبار القوط يدبرونها، ولا نعرف حقيقة أمر هذا الملك، لأن النصوص الباقية عنه تعطينا صوراً متناقضة عن شخصه وأسلوبه في الحكم، والظاهر أن معظم النصوص الإسبانية تثني عليه، فقد حاول جهده أن يصلح الأمور، فعفى عمن كان والده أخيكا قد أساء إليهم، ومال إلى إنصاف الناس من استبداد نبلاء القوط، فكرهه هؤلاء وعوّلوا على القضاء عليه وعلى حكمه، فأخذوا يثورون عليه في نواحي المملكة، وأخذ يحاربهم ويحبط كل مؤامراتهم، فلما علت به السن، عجز عن أن ينهض لكل واثب به مدبر عليه، وتآمر عليه أهله، واستطاعت زوجته أن ترغمه على أن يعلن ابنه الصبي وَقِلَه (أخيلا Achila) ، وأقامه حاكماً على الولايتين الناربورنية والطكونية. وكان هذا الإعلان، حافزاً للطامعين في العرش من كبار القوط إلى مضاعفة الجهد في التدبير على غيطشة، ومحاولة القضاء عليه وعلى دولته، ليخلو لهم العرش، ويفعلون به ما يشاءون. ويبدو أنه لم يأل جهداً من جانبه في القضاء على كل محاولة يقومون بها، لأن النصوص تحدثنا أنه عاقب تيوفريدو دوق قرطبة بسمل عينيه، ونفى ثائراً آخر اسمه: بلايُه من البلاط (1).
ويبدو أيضاً أنه أساء الظن بيهود، فاضطهدهم وأوقع بهم في أواخر أيامه، فقد اتهمهم غيطشة بالتدبير عليه، وبالتآمر مع مَن تسميهم النصوص الإسبانية: أهل ما وراء البحر ( Los transmarinos) ، ومعنى ذلك أنهم
(1) وانظر المراجع المعطاة. . Saavedra. op.cit.p.29
اتصلوا بأعداء القوط في ما وراء البحر، أي خارج إسبانيا.
ولسنا بأي حال بحاجة إلى البحث عن أسباب هذا الاضطهاد، لأن الإسبان كانوا طوال تاريخهم من أقسى الناس على مخالفيهم في الدين، وعلى يهود بخاصة. ولكن يبدو أن غيطشة رجع عن سياسته في اضطهاد يهود في أخريات أيامه، فتحدث إلى كبار أهل الدولة فيما انتواه من العفو عن يهود، فأسخط رجال الكنيسة عليه، وأخذوا يغرون الناس به، حتى اشتد عليه سخط الناس، وتحدث أهل البلاد من الرومان الإسبان في الوثوب به أو معاونة أول ثائر عليه (1).
ومات غيطشة ميتة طبيعية في أواخر سنة (708 م) أو أوائل سنة (709 م)، وكانت مختلف الطوائف تنتظر موته. وكان أفراد البيت المالك أنفسهم من أكثر الناس انقساماً وأشدهم ميلاً إلى الخلاف، ذلك لأن غيطشة ترك من بعده زوجاً طامعة في العرش، وأخاً لا يقل عنها طمعاً هو أُبَه ( Oppa) ، وكان أسقفاً لإشبيلية، وثلاثة بنين هم: أخيلا (رُمله عند المقري وابن القوطية وصححه وقِلَهْ) وألمند ( Olmundo) وأرطافازدُس أو أردبست (أرطباس، أرطبان)، وتضيف بعض الرويات شخصاً آخر هو سيسبرتو (ششبرت، سبري، سبرة في النصوص العربية) وتزعم أنه كان أخاً لغيطشة أو ابناً له.
ولم يرض نفر من كبار القوط بالخضوع لصبي مثل أخيلا، وتخوف كثير من مطامع الوصيّ رخشندش واستبداده، فامتنع مَن أقام منهم في طليطلة عن الطاعة، واستقل بالأطراف والنواحي منهم من كان مقيماً فيها، ودارت رحى الحرب بين المتنافسين، وتعذر على الملكة وابنها المقام في طليطلة ففرّا منها. واستمرت هذه الفوضى نحو سنة ونصف السنة، واستطاع الوصي أن يجمع نفراً كبيراً من الأنصار، وتحبَّب إلى عامة أهل البلاد الرومان الإسبان من أهل المزارع والمدن، واستطاع أن يكسبهم إلى جانبه. وبدا لخصومه أنه
(1) Saavedra. op.cit. p. 30.