المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - مدينة النور والحب: - قادة فتح الأندلس - جـ ١

[محمود شيت خطاب]

فهرس الكتاب

- ‌الأندلس وما جاورهاوجزر البحر الأبيض المتوسطقبل الفتح الإسلاميّ وفي أيامه

- ‌الموقع والحدود

- ‌1 - الأندلس

- ‌أ - الموقع:

- ‌ب - مصطلح الأندلس ومدلوله:

- ‌2 - المدن

- ‌1 - جزيرة طَرِيْف Tarifa:

- ‌2 - الجزيرة الخضراء Algeciras:

- ‌3 - طُلَيْطِلة Toledo:

- ‌3 - قَرْطَاجَنَّة الجزيرة Cartagena:

- ‌4 - بَنْبُلُونَة Pamplona:

- ‌5 - قُرْطُبَة Cordova:

- ‌6 - شَقُنْدَة Secunda:

- ‌7 - شَذُوْنَة Sidonia:

- ‌8 - إسْتِجَة Ecija:

- ‌9 - قَادِس Cadiz:

- ‌10 - مُرْسِيَة Murcia:

- ‌11 - شَرِيش Xeres - Jerez:

- ‌12 - المَدُوْر، Almodovar:

- ‌13 - إِشْبِيْلِيَة Sevilla ، Seville:

- ‌14 - مَالَقَة Malaga:

- ‌15 - إِلْبِيْرَة Elvira:

- ‌16 - غَرْنَاطة Granada:

- ‌17 - تُدْمِيْر Tudmir:

- ‌18 - أُوْرْيُوْلَة Orihuela:

- ‌19 - جَيَّان Jaen:

- ‌20 - جِلِّيْقِيَّة Galicia:

- ‌21 - أسْتُرْقَة Astorga:

- ‌22 - طَلَبِيْرَة Talavera:

- ‌23 - أَكْشُوْنُبَة Ocsonoba:

- ‌24 - قَرْمُوْنَة Carmona:

- ‌25 - رَعواق Alcala Guadaira:

- ‌26 - لَبْلَة Niebla:

- ‌27 - بَاجَة Beja:

- ‌28 - مَارِدَة Merida:

- ‌29 - لَقَنْت Alicante:

- ‌30 - قَشْتَالَة Castile - Castilla:

- ‌31 - سَرَقُسْطَة Zaragoza:

- ‌32 - وَشْقَة Huesca:

- ‌33 - لارِدَة Larida:

- ‌34 - طَرَّكُوْنَة Tarragna:

- ‌35 - بَرْشَلُوْنَة Barcelona:

- ‌36 - أماية Amaya:

- ‌37 - لِيُوْن Leon:

- ‌38 - بَلَنْسِيَة Valencia:

- ‌39 - أُرْبُوْنَة Narbonne:

- ‌40 - قَرْقَشُوْنَة Carcassone:

- ‌41 - بَلانة Villena:

- ‌42 - مُوْلَة Mula:

- ‌43 - بسْقَرَة Bigastre:

- ‌44 - إِلُة Ello:

- ‌45 - لُوْرَقَة Lorca:

- ‌46 - يَابُرَة Evora:

- ‌47 - شَنْتَرِيْن Santarein - Santaren:

- ‌48 - قُلُمْرِيَّة Coimira:

- ‌49 - أَشْتُورِش Austurias:

- ‌50 - لشبونة Lisbon:

- ‌51 - بَطَلْيُوْس Badjoz:

- ‌52 - مدينة وَلِيْد Valladolid:

- ‌53 - المَرِيَّة Almeria:

- ‌54 - وادي الحجارة = مدينة الفَرَج Guadalajara:

- ‌55 - مدينة سالم Medinaceli:

- ‌56 - دَانِيَة Dania:

- ‌57 - تُطِيْلَة Tadela:

- ‌58 - طَرْطُوْشَة Tortosa:

- ‌59 - شَنْت يَاقُب Santiago:

- ‌60 - سَلْمَنْكَة Salmanca:

- ‌61 - قُوْرِيَّة Coria:

- ‌62 - بَرْغَش Burgos:

- ‌63 - قَسْطَلُوْنَة Castallon:

- ‌64 - أُسْتُوْرِيْس Asturias:

- ‌65 - أُبَّدَة Ubeda:

- ‌66 - بَيَّاسَة Baeza:

- ‌67 - بَرْبُشْتَر Berbastro:

- ‌68 - بَرْبَطانِيَة Boltania:

- ‌69 - بُبَشْتَر Bobastro:

- ‌70 - بَقِيْرَة Viguera:

- ‌71 - بَرْمِنَّش Bermndo:

- ‌72 - قَبْرَة Cabra:

- ‌73 - بَيَّانَة Bayanne:

- ‌74 - قَلَهُرَّة Calahorra:

- ‌75 - قلعة أيوب Calatayud:

- ‌76 - قلعة رَباح Calatrava:

- ‌77 - جبل طارق Gibraltar:

- ‌78 - المُُنَكَّب Almunacar:

- ‌79 - شَوْذَر Jodar:

- ‌80 - مَجْرِيْط (مدريد الآن) Magerit:

- ‌81 - مِيْرتُلَة Mertola:

- ‌82 - مُنْت شُوْن Monzon:

- ‌83 - مُنْت لُوّن Mentileon:

- ‌84 - تُرْجِيْلَة Trujillo:

- ‌85 - شَنْتَمَرِيَّة الشَّرق Santa Maria de Albarracin:

- ‌86 - شَنْتَمَرِيَّة الغرب Santa Maria de Algarve:

- ‌87 - شَنْتَبَرِيَّة Santaver:

- ‌88 - طُولوز Toulouse:

- ‌89 - شَاطِبَة Xativa - Jativa:

- ‌90 - طُرُّش Torrox:

- ‌91 - بُرْذِيل (بوردو الآن) Bordeaux:

- ‌92 - الأرض الكبيرة:

- ‌93 - المنارة: برج هِرَقْل Torre de Hercules:

- ‌94 - بَرْبَشْتَر Berbastro:

- ‌95 - أُقْلِيش Acles:

- ‌96 - قوْنْكَة Ceuenca:

- ‌97 - البَسِيْطَة Albacete:

- ‌98 - شَنْتَجَالَة Chinchilla:

- ‌99 - ليون Leon:

- ‌100 - طَلَمَنْكَة Salamanqua:

- ‌101 - زَمُّوْرَة Zamora:

- ‌102 - كُوْرْنِيَّة Corigna:

- ‌103 - الحُمَّة Alhoma:

- ‌104 - أراغون Aragon:

- ‌105 - نبارة (نافار) Navarre:

- ‌106 - تِرُوْل Teruel:

- ‌107 - جَرِيْقَة Gerica:

- ‌3 - الثّغور الأندلسيّة

- ‌أ - الثّغر الأعلى:

- ‌ب - الثغر الأوسط:

- ‌ج - الثغر الأدنى:

- ‌4 - جبال الأندلس

- ‌5 - الأنهار

- ‌أ - نهر إبْرُهْ Ebro:

- ‌ب - الوادي الكبير Guadilquivir:

- ‌ج - نهر تَاجُهْ Togo:

- ‌د - النهر الأبيض:

- ‌و - المجمل:

- ‌السكان

- ‌الموارد الاقتصادية

- ‌1 - المناخ العام:

- ‌2 - الموارد الزراعية والحيوانية:

- ‌3 - المعادن والأحجار الكريمة:

- ‌4 - المصنوعات الأندلسيّة والتّصدير:

- ‌تاريخ الأندلس قبل الفتح الإسلاميوفي أيامه الأولى

- ‌1 - في أوروبا وإفريقيَّة

- ‌أ - البرابرة:

- ‌ب - أجناسهم وممالكهم:

- ‌ح - وصولهم إلى أوروبّة:

- ‌د - القوط الغربيون في إيطاليا:

- ‌هـ - في إسبانيا:

- ‌و- الفاندال في إفريقية:

- ‌ز - سقوط رومة:

- ‌ج - مقتل آدوفاكر:

- ‌ط - اضطراب أحوال الفاندال:

- ‌ي - القوط الغربيون في إسبانيا:

- ‌ك - الفرنجة في فرنسة:

- ‌ل - الهيطل (الهون):

- ‌م - الخلاصة:

- ‌2 - في إسبانيا

- ‌أ - القوط الغربيون في أواخر أيامهم:

- ‌ب - دولة القوط الغربيين في إسبانيا:

- ‌ج - لُذَرِيق:

- ‌د - أحوال إسبانيا تحت حكم القوط:

- ‌هـ - مجلس طُلَيْطُلَة:

- ‌و- المجتمع الإسباني أيام القوط:

- ‌ز - الحالة الثقافية:

- ‌يُلْيَان

- ‌1 - شخصيته:

- ‌2 - يليان والمسلمون الفاتحون:

- ‌فتح الأندلس

- ‌1 - الموقف العام:

- ‌2 - فتح طَرِيْف:

- ‌3 - فتح طارق بن زياد:

- ‌4 - الفتح المشترك بين موسى وطارق:

- ‌5 - فتح موسى بن نصير:

- ‌6 - فتح مغيث الرومي:

- ‌7 - فتح عبد العزيز بن موسى بن نصير:

- ‌8 - فتح عبد الأعلى بن موسى بن نصير:

- ‌9 - فتح عبد الله بن موسى بن نصير:

- ‌10 - فتح السمح بن مالك الخولاني:

- ‌عبرة الفتح

- ‌1 - التوقيت:

- ‌2 - أسباب النصر:

- ‌حضارة العرب والمسلمين في الأندلس

- ‌1 - الجذور:

- ‌2 - العرب في أوج مجدهم:

- ‌3 - مدينة النور والحب:

- ‌4 - علوم العرب وآدابهم:

- ‌الكارثة

- ‌طارق بن زيادفاتح شطر الأنْدلُس

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌في فتح طنْجَة

- ‌1 - مقدمات الفتح

- ‌أ - الأسباب:

- ‌ب - الاستطلاع:

- ‌2 - الفتح

- ‌أ - الخطّة العامَّة:

- ‌ب - المناوشات التمهيدية:

- ‌أ - الموقف العام:

- ‌أولاً: موقف القُوْط:

- ‌ثانياً. موقف المسلمين:

- ‌4 - خطبة طارق وحرق السُّفن

- ‌أ - الخطبة:

- ‌أولاً: الرّفض:

- ‌ثانياً: القبول:

- ‌ثالث‌‌اً. في المصادروالمراجع:

- ‌اً. في المصادر

- ‌نص ابن حبيبعبد الملك بن حبيب الألبيري (ت 238 هـ)في كتابه استفتاح الأندلس

- ‌ نص ابن قُتَيبة (ت 276 هـ)في كتابهالإمامة والسياسة

- ‌نص أبي بكر الطرطوشي (ت 520 هـ)في كتابهسراج الملوك

- ‌نص أبي محمد بن إبراهيم (ابن خيرة) المراعينيالأشبيلي (ت 564 هـ)في كتابهريحان الألباب وريعان الشبابفي مراتب الآداب

- ‌نص ابن خلكّان (ت 681 هـ)في كتابهوفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزمان

- ‌نصّ ابن الشباط (ت 681 هـ)محمد بن علي بن محمد بن الشباط المصري التوزريفي كتابه صلة السّمط وسمة المرط في شرح سمط الهدىفي الفخر المحمّديّ

- ‌نصّ ابن هُذَيْل (ت 763 هـ)علي بن عبد الرحمن بن هُذَيْلفي كتابهتحفة الأنفس وشعار أهل الأندلس

- ‌نصّ المقَّرِي (ت 1041 هـ)أحمد بن محمد المقّري التِلمِسانيفي كتابهنفح الطيبمن غُصن الأندلس الرّطيب

- ‌(ب). في المراجع:

- ‌ب - حرق السُّفن:

- ‌5 - سير المعركة الحاسمةمعركة وادي بَرْباط أو وادي لَكُّهْ

- ‌أ - قوّات الطرفين:

- ‌أولاً: المسلمون:

- ‌ثانياً. القوط:

- ‌ب - التوقيت:

- ‌ج - ميدان القتال:

- ‌د - سير القتال:

- ‌6 - فتوح طارق قبل عبور موسى بن نُصَيْرإلى الأندلس

- ‌أ - الموقف العام بعد المعركة الحاسمة:

- ‌ب - فتوح المدن الثانوية:

- ‌ج - فتح قُرْطُبة:

- ‌د - فتح طُلَيْطُلَة

- ‌7 - فتوحات طارق بعد عبور موسى بن نُصَيْرإلى الأندلس

- ‌أ - بين موسى وطارق:

- ‌ب - فتوح موسى قبل لقاء طارق:

- ‌ج - لقاء القائدين:

- ‌د - الفتح المشترك بين القائدين:

- ‌الإنسان

- ‌1 - عودة القائدين إلى دمشق

- ‌أ - العودة:

- ‌ب - أسباب استدعاء موسى وطارق:

- ‌2 - الرّجل

- ‌القائد

- ‌1 - سماته القيادية عامة:

- ‌فما هي مجمل تلك المزايا

- ‌2 - طارق ومزايا القيادة العامة:

- ‌3 - في تطبيق مبادئ الحرب

- ‌أ - اختيار المقصد وإدامته

- ‌ب - التّعَرض

- ‌ج - المباغتة

- ‌د - تحشيد القوّة

- ‌هـ - الاقتصاد في المجهود

- ‌و- الأمن

- ‌ز - المرونة

- ‌ح - إدامة المعنويات

- ‌ط - الأمور الإدارية

- ‌ي - التّعاون

- ‌4 - نقطة الضعف:

- ‌5 - مجمل السِّمات:

- ‌أ - سِماته الخاصة:

- ‌ب - سِماته العامة:

- ‌طارق في التاريخ

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌طَرِيْف في التاريخ

- ‌مغِيْث الرُّومِيّفاتح قُرْطُبَة

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌الفاتح

- ‌الإنسان

- ‌القائد

- ‌مُغِيْث في التاريخ

- ‌فهرس الجزء الأول

الفصل: ‌3 - مدينة النور والحب:

الأدب، وزهرة من أزهار الفروسية النصرانية، كان خائناً قاسياً غدّاراً ناقضاً للعهود لا إيمان له ولا ذمة، يبيع سيفه وعواطفه من كلا الفريقين: المسلمين والنصارى.

ومِس شارلوت ينج التي كانت لها الشجاعة الكافية أن تقول الحق في شأن العرب والنصارى منذ خمسين سنة، لم تجد ما تسلي به دينها إلاّ شيئاً واحداً وهو قولها:"قد بلغ الإسلام أعلى درجات الإلهام في زمان مدنية العرب في الأندلس، ولكنه انقرض بعد ذلك. وأما النصرانية فإن لها آمالاً في المستقبل غير محدودة".

وفي هذا خطأ مضاعف، فالإسلام هو الذي ألهم العرب مدنيتهم ولكنه لم يمت، والمدنية المستمرة التي جاءت في العصور الأخيرة ليست من النصرانية في شيء.

والحقيقة أن مدنيتنا الحاضرة لا علاقة لها بالنصرانية، ولكن المدنية التي دخلت أوروبا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، كانت لها صلة كبيرة بالعرب، أي أن مصدرها كان منهم، فالنور الذي أشرق في إسبانيا لم يكن بدّ من أن ينبثق إلى أوروبا، فالإسبانيون الذين استولوا بالتدريج على النصف الشمالي من إسبانيا، عندما أخلد العرب إلى أرض الترف والبذخ، وانحصروا في القسم الجنوبي - الأندلس - لم يبقوا جامدين لا شعور لهم بثقافة جيرانهم - يعني أنهم أخذوا يقتبسونها، وكان السيّاح أو المسافرون من النصارى الذين يزورون مدن العرب يعودون إلى أوطانهم فيقصّون من أخبار العرب وعلومهم وحضارتهم الجميلة ما يهزّ النفوس ويشوقها إلى تلك الحضارة الفذّة.

‌3 - مدينة النور والحب:

مدريد (مجريط) التي كانت في القرون الوسطى قرية مظلمة، هي واقعة تقريباً في وسط إسبانيا، وفي شمالها بالضبط سلسلة جبال وادي الرملة المتدثِّرة بالثلوج، حتى حين مررت بها في الشهر السادس (جون = حزيران)،

ص: 184

وكان الجوّ حاراً. ولما انطفأت نار الغيرة وحبّ الفتح في قلوب العرب، تركوا هذه الناحية الشمالية ذات البرد القارس لبقايا المملكة النصرانية، فانضم إليهم الغوغاء المجازفون من فرنسة، وبمرور الزمن تألّفت منهم أمة صغيرة ذات بأس وضراوة على القتال. أما كيف قاتلت هذه الأمة الصغيرة إلى أن استولت على إسبانيا كلها واستردتها تارة أخرى، فهو حقيقة صفحة عظيمة في تاريخ العمليات العسكرية، ويحق للإسبانيين أن يفتخروا به من حيث هو استيلاء على الأرض، ومن سوء الحظ قد قضى هذا الاستيلاء على المدنية قضاءً مبرماً.

ولست بصدد ذكر العمليات العسكرية هنا، والذي أريد بيانه، أنه في سنة 1085 استرد الإسبانيون أقصى مدينة في الشمال من أيدي العرب وهي طليطلة قاعدة ملك الإسبانيين القديمة. وهذه المدينة اليوم في حالة تدل على ما جناه الإسبانيون على المدنية في قضائهم على العرب. ولهذه المدينة موقع فريد لا تشاركها فيه مدينة أخرى، فهي مبنية على كوم من الصخور مرتفع عن الأرض، والنهر محيط بها من ثلاث جهات. وفي القرن العاشر كان يعيش في تلك المدينة (200000) نسمة في غبطة وسعادة. وسيوف طليطلة مشهورة عند كل مؤرخ وخبري، لأن قيونها كانوا أمهر القيون في العالم. وعند الكلام على قرطبة يمكن أن تجمع شيئاً من أخبار طليطلة المدينة العربية العظيمة. واليوم بعد مرور ثمانية قرون من استرداد طليطلة، ترى سكانها نحو (30000) ألفاً من الكسالى، يدبون دبيباً في شوارعها المهجورة الهامدة، ويعيشون على كرم الزائرين. ولما ركب الإسبانيون ودخلوها، يتقدمهم رئيس أساقفتهم، حين رفست المدنية تحت الأقدام وتلاشت، شيَّدوا فيها كنيسة فخمة فيما بعد، ولكن من جهة أخرى انحطت المدينة إلى حال أنها صارت قرية كبيرة، فكأنما بنيت الكنيسة لخراب المدينة. والجسر العظيم الذي على النهر متين جداً ومفيد كثيراً، فلذلك لم يقدروا على تدميره. وباب المدينة العجيب، باب الشمس، قد أبقوا عليه، فهو يظهر اليوم تذكاراً محزناً

ص: 185

لماضٍ مجيد، ينظر إلى الخراب، ويندب مجده البائد. وأما سائر المدينة القديمة العجيبة، فكأنها لم تغن بالأمس. ولو بحثت بجد واجتهاد عن بقايا تلك العظمة الغابرة، لوجدتها تلاشت وصارت كأمس الدابر. وتدور مبهوتاً في شارعها الرئيسي، وهو زقاق ضيِّق حيث كان ربع مليون من النفوس يعيشون في نعيم. تطلب مكاناً طيباً تستريح فيه، فيكون خاتمة تطوافك أنك تجد نفسك في حجرة قذرة، تتغذى بين سائقي البغال والفلاحين. وانتحى مجد العرب نحو الجنوب إلى إشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية، وكانت طليطلة لذلك المجد كالطليعة. وكان الجنوب الشامس وطناً طبيعياً للعرب. ومن العجب أن لا نجد إلاّ قليلاً ممن يعرفون أنّ قرطبة كانت تضاهي في عظمتها ومجدها بابل وروما وبغداد، هذا مع أن عهدها ليس ببعيد. ومنظر قرطبة اليوم منظر محزن. ولا أريد اليوم بهذا النوح والعويل الدائم أن أهيج أو أحاول أن أهيج سخط الناس على الدين الذي ألهم الإسبانيين أن يبيدوا هذه المدينة العظيمة. وأنا أشدّ تأسفاً وتحسّراً على خسارة النوع البشري منى على جناية أولئك الجناة. لو أن الممالك النصرانية عملت وترقت بالعمل الصالح الذي عمله اليونان في الشرق، والرومان في إيطاليا، وفرنسا وانكلترا في شمال إفريقية، ولعمل هؤلاء العرب في طليطلة وإشبيلية وغرناطة، كيف كنا نكون اليوم؟ لو عمّت أفكار قرطبة وعلومها وتهذيبها جميع أوروبا لبلغت أوج المدنيّة وتقدم العلم فيها تقدماً عظيماً في القرن الثالث عشر، ولكانت أمريكا وسائر بقاع الأرض قد اكتُشِفَت قبل تاريخ اكتشافها، واستعمرت بحكمة وإتقان أكثر وأسبق مما وقع لها، وكان النوع البشري اليوم متمتعاً بثروة ورفاهية ورقي وحرية وسمو فكر مثلما سيكون حوالي سنة 2500 م.

فهل كانت قرطبة إلى هذا الحد عجيبة؟ نعم، كانت كذلك بالنسبة إلى القرن العاشر وبالنسبة إلى أي عصر آخر ما عدا زماننا هذا، وكان بإمكانها أن تعلَّمنا دروساً كثيرة من فنون المعيشة.

لم يبق من آثار قرطبة الوسطى إلاّ أثر واحد، وهو جامعها الذي لا يزال

ص: 186

حتى اليوم جميع أطفال قرطبة يسمونه مسجداً. ولولاه ما تجشَّم أحد عناء السفر لمشاهدة قرطبة - ولو كانت على بعد خمسة أميال منه - ولكن الناس من جميع أنحاء الدنيا يسافرون إليها ليشاهدوه. وهو أعظم معبد في الدنيا بعد كنيسة القديس بطرس، وهو آية لا نظير لها من الهندسة والبناء، وظاهر هذا المسجد لا يستولى على اللّب. ولم يكن العرب الذين كانوا يفضلون الإقامة داخل البيوت أكثر من خارجها يهتمون نسبياً بالمظاهر كثيراً، وأما في الداخل، فهناك العجائب. إذا دخلت الجامع من أي باب من أبوابه التسعة عشر، يخيل إليك أنك تائه في غابة من أشجار المرمر، ففيه ثمانية وستون سارية رقيقة من المرمر والرخام واليسب، وفيه غير ذلك ألف واثنتا عشرة سارية، وفيه تسعة عشر رواقاً، ينتهي كل منها بباب من الأبواب التسعة عشر. وله سقف خشبي منخفض نسبياً زخرف أحسن زخرفة بالأرجوان والذهب. وفي الأعياد الكبيرة توقد مائتان وثمانون ثريا من الفضة والنحاس، يحترق فيها الزيت المعطر، وتتلألأ فيها آلاف كثيرة من المصابيح، فتلقي أنوارها على ذلك المشهد: وأكبر ثريا منها كان محيطها ثمانية وثلاثون قدماً، يحمل ألفاً وأربعمائة وأربعاً وخمسين مصباحاً، ولها مرآة تعكس النور، فيزيد شعاعه تسعة أضعاف. وفيها (6000) طبق من الفضة، مسمرة بالذهب ومرصعة باللؤلؤ. وكان الجامع قد شُيِّد مع مضافاته في القرن الثامن والتاسع والعاشر. والمحراب الذي هو أقدس محل في مسجد العرب، كان فيه حنيتان، وكان أعظم زخرفاً من سائر المسجد. وآخر المحراب يشبه صدفة من رخام، وله مدخل يتلألأ كالذهب الخالص أو الديباج بفسيفسائه الجميلة. وأحيل القارئ على كتب زخرفة البناء أو كتب الاستدلال ليرى عجائب هذا الجامع العظيم. وكان بناؤوه من النصارى المنتمين إلى الكنيسة اليونانية، وكانت بينهم وبين العرب مودة، فجلبوهم لبنائه. وهو أثر لمدنية زاهرة لا يضاهيها اليوم شيء في الدنيا كلها. وكان عبد الرحمن الأول مؤسس هذه الدولة، قد جعل مدينة قرطبة على مثال مدينة دمشق التي قضى فيها أوائل

ص: 187

عمره. وهو الذي ابتدأ بناء الجامع، وأتمه الخلفاء الذين جاءوا بعده، وبلغت نفقاته على ما حدّث به مؤرخوا العرب (300000000) دولار. وإنما كان هذا آخر عمله في حياته، وقد شيّد غير ذلك هو وخلفاؤه ورجال دولته قصوراً فخمة ومساجد كثيرة كانت تزيد المدينة كل سنة جلالة وبهاء. قدّر سكوت سكان قرطبة في أزهى أيامها بمليون، وآخرون قدّرهم بنصف مليون، ولكن مؤرخي العرب حدثونا بأنه كان فيها عشرة آلاف قصر، عشرة منها للملك، و (1130000) دار و (700) مسجد و (900) حماماً عمومياً و (4300) سوق و (5000) طاحونة على شاطئ النهر، والآن بعد تقدمنا كله، فقرطبة بلدة منحطّة حقيرة، سكانها نحو مائة ألف، من ذوي المناظر الكريهة الأموات، وإن كانوا يعدّون من الأحياء.

وكان للمدينة القديمة شوارع مساحتها عشرة أميال، كلها مضاءة ومبلّطة تبليطاً حسناً، وإلى الآن لا نزال نطأ تبليط العرب في كثير منها، ومجاري مياهها كانت منظمة جيداً، ولا تزال مئات من الدور باقية، فيمكنك أن تتصور معيشة أهل البيت العربي: تدخل من باب حديدي ضخم جميل، ثم تمرّ في دهليز قصير مظلم، فتصل إلى صحن الدار، وهذا الصحن هو وسط البيت، فترى هناك أزهاراً ورياحين وبسطاً من الحرير والفسيفساء المتلألئة والنقوش العربية الجميلة، وتجد في كل صحن تقريباً فسقيّة من المرمر، كل ذلك يجعل المنزل مقاماً بهيجاً تحلو فيه السكنى ويطيب فيه العيش. وقد جلبوا الماء من أميال من نهر (سيرا)، ثم وزّعوه على المنازل في أنابيب من الآنك. وكانت النظافة عند المسلمين فرضاً مقدساً، حتى أن النصارى حين استولوا عليهم دمّروا الحمامات.

وعندنا وصف دقيق، لقصر بناه عبد الرحمن، على ثلاثة أميال من قرطبة. وإذا ذكرنا أن القياس ملكي، فسنعرف شيئاً من معيشة أهل قرطبة في القرن العاشر. بُني القصر لتكريم امرأة، وهي محظيته الزهراء، فجعل لها تمثالا جميلا من المرمر نصبه على باب القصر، وكان يشتغل في بناء هذا القصر

ص: 188

عشرة آلاف رجل وثلاثون ألف دابة، وبقوا يعملون فيه سنين، وينبغي لنا أن نفرض أن هذا القصر بهر مؤرخي العرب في ذلك الزمان، فلم يقدروا أن يرووا تفاصيله على الحقيقة، لأن وضعهم كان لا يُعتمد عليه تقريباً. فقد زعموا أن له تسعة عشر ألف سارية جُلبت من اليونان وإيطاليا وإفريقية وغيرها. والإيوان الأوسط كانت سواريه من المرمر والحجر الشفاف، وكانت رؤوسها مرصّعة باللؤلؤ والياقوت، وكان جريدة سقفه من الذهب والفضة، وكانت جدرانه وقبّته من العقيق اليماني، وكان له ثمانية أبواب من الأبنوس والعاج مرصعة بالجواهر، وكان في القصر ثلاثمائة حمام فاخر مستجمع لشروط النِّعمة. وكانت الحدائق واسعة جداً، حتى الحيتان كانت في حياضها، وكانت كلها من (السّمك الذّهبي) كان قوتها اليومي اثنى عشر ألف رغيف من الخبز. وكان عدد الخدام الذكور (13750) وعدد الإناث (6314) وعدد الخصيان والوصفان (3350). وقد أُخبرنا بما كان يُستهلك ثمَّ من الطعام يومياً، بحيث لا تخفى علينا منه أوقيّة واحدة. وكان طعاماً فاخراً هنيئاً مريئاً، وكان هناك غير من ذكرنا العساكر والموسيقيون والشعراء والراقصون ورجال الدولة والأدباء لغرض الشعر والاشتغال بالموسيقى، بل حتى المباحثات العلمية والفلسفية. كان لهما الاعتبار التام هناك، وكان الإعجاب بهما لا يقصر عن الإعجاب بقدّ جارية حسناء أو عينين كحلاوين لخريدة محظية ييضاء في غلالة حريرية سوداء من غواني الحريم. وكان عدد حرس الخليفه الخاص اثني عشر ألفاً من خيرة الجنود، يلبسون أفخر الحرير، ولهم مناطق مذهبة، وأجفان سيوفهم كذلك كانت مذهبة، ومقابضها مرصعة بالجواهر والأحجار الكريمة، وكان هذا القصر عاشر عشرة من القصور الملكية. وحوله كانت مساكن جميلة لخاصة الخليفة ورجال دولته المقربين وأرباب المناصب العالية. وكذلك كانت مدينة الزهراء مدينة تسبي الألباب، وتسحر العقول بجمالها، وإن سألت عن حالها اليوم، فهي في حالة لا تستطيع أن تشبع قليلاً من المعز. وكعل شيء كان هناك ملكياً، والموسيقي

ص: 189

والمغني الخاص لعبد الرحمن الثاني كان أديباً من أعاجيب الزمان؛ وكان مرتبه (40000) دينار من الذهب في كل سنة، وهو أكثر من مرتب رئيس الولايات المتحدة. وهذا النعيم الذي لم يمض عليه إلاّ أقل من خمسمائة سنة، لم يحفظ منه الإسبانيون مثقال ذرّة. وكان يصبّ في خزائن الملك كل سنة، نهر مفعم من الذهب، فيفيض منها على الأشراف والأمراء والأدباء والعلماء وكبار التجار وغيرهم. وكانت القصور الفخمة ممتدّة على شاطئ الوادي الكبير مسافة عشرة أميال، وكانت أسواقها أغنى أسواق الدنيا، فلم يسمع سامع بشيء من التوابل أو العطور أو المنسوجات الفاخرة أو الكتب الخطية النادرة أو البُسط والزّرابي البديعة أو آلات اللهو في أي ناحية من أرجاء الدنيا، إلاّ وقد جلبت إلى تلك الأسواق. وحال أمريكا اليوم بالنسبة إلى الدنيا القديمة، هي حال الأندلس في ذلك الزمان بالنسبة إلى غيرها من البلاد، ولكن الأندلس كانت أعظم من وجهة المدنيّة. وكانت الحدائق العامة المعدّة للتنزه نزهة للأبصار، وستعلم شيئاً من ولوع العرب بالحدائق والجنّات، إذا رأيت الحديقة المعروفة بالقصر في إشبيلية، وكان العرب يتوخون الجمال في كل شعبة من شُعب المعيشة.

والعرب أنفسهم كانوا صنّاعاً ماهرين في الأدوات المعدنية والجلدية، وأحسن المنسوجات الحريرية والكتانية. وكانوا يصنعون الفسيفساء العجيبة، وينقشون النقوش الجميلة على الأواني المنزلية. وكانت لهم مهارة عظيمة في دهن الأواني الخزفية، وكانوا حاملي لواء زخرفة داخل البيوت والقصور وزينتها، وبلغوا في ذلك درجة عالية لم يعرفها أحد في الدنيا غيرهم، وكانت لهم معادن كافية من الرخام والمرمر، ومع ذلك كانوا يجلبون المرمر من اليونان وإيطاليا وإفريقية. وكانت سفنهم تجلب المقادير العظيمة من خشب السدر والعاج والأبنوس وأحسن التوابل والطيب الذي يمدهم به الشرق، وكانوا يجلبون من هناك الذهب والفضة والمجوهرات والمحار والحجر الشفّاف وحجر اللآزورد وجلود السلاحف وكل مادة معروفة من مواد الزينة.

ص: 190

وكانت خزائنهم المالية عظيمة بالنسبة إلى عصرهم، إلى حدّ أنهم كانوا يسيطرون على الدنيا كلّها من الوجهة المالية، وقد عرفوا كيف ينفقون أموالهم على فنون المعيشة، إلى حدّ لم يصل إليه إلاّ قليل من الأمم. وقصور الأشراف وأصحاب المناصب والأدباء، كانت تقارب في الفخامة والسعه قصور الخلفاء، وحتى منازل أرباب الحوانيت كان لها جمال ورفاهية محتها أعاصير النكبة التي أنزلها الإسبانيون بالأندلس. وعلاوة على ذلك، مئات من الحمامات المحشاة أطرافها بالمرمر والفسيفساء، والحدائق العامة البديعة التي كانت ممتدة على شاطئ الوادي الكبير، كانت نعمة ورفاهية للناس جميعاً من الخليفة إلى أدنى الطبقات. وفي كل أمر من تفاصيل معيشتهم، أبدَوْا سلامة ذوق لا يمكننا نحن أن نأتي بها. والعشرون ضاحية التي كانت حول المدينة، لم تكن أسماؤها:(بوت فيل Potts Ville) و (نيوتن Newton)، بل كانت أسماؤها هكذا: وادي الفردوس، والوادي الجميل، وحديقة العجائب، وهكذا. ولقد صدقوا، فإنها كانت كذلك، وكانت مبثوثة بينها المنازل البيض المشرفات، وحولها غابات الأترج والنخيل والسرو الواسعة وروضات الأزهار الفضَّة الباقية طول السنة، تجري من تحتها الأنهار والجداول فالبحيرات والعيون، والمخابئ، والمغارات، وصفوف الأشجار، وكل فكرة عند الفلاحين المتخصصين في الغرس والزراعة، وقد استعملت هناك مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين. وإذا عبرت النهر على الجسر العجيب الذي يبلغ طوله (1200) قدم وارتفاعه فوق الماء (90) قدماً، تجد ضاحية حفت بالحدائق البهيجة والروضات الجميلة، تسحر الألباب ببهائها، ولو لم يكن هناك سواها، لكانت المثل الأعلى في المدن.

وإذا انقضى العمل في كلّ يوم، كانت قرطبة ترى معترك ضحك وغناء وذنوب يفوح عطرها، ومباحثات عقلية دقيقة وموسيقى شجيّة بجميع الآلات التي كانت معروفة لذلك العهد. وكان العباد والزهاد في قرطبة كثيراً، لأنها كانت تحوي أعظم المعابد العلميّة والدينية وفطاحل العلماء في الدنيا، وقد

ص: 191