الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يونيو 713 م) بعد قتال طويل، هلك فيه نفر كبير من حامية البلدة بسبب كمائن أخفاها موسى في مقاطع الصخر أمام مخارج البلد، وقد استُشهد أثناء محاولات نقب السور نفر من المسلمين، سقطت عليهم دبابة كانوا قد اختفوا تحتها لينقبوا طبقة من السور مبنية من شيء يشبه التُرابة (1) الصلبة. ولم يسلِّم أهل البلد إلاّ بعد أن عاهدهم موسى على:(أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقِيَّة للمسلمين، وأموال الكنائس وحليِّها لها)، وهي شروط سيكون لها أثر في تحديد العلاقة بين المسلمين والقوط فيما بعد (2).
وأقام موسى في ماردة أكثر من شهر، يرتِّب أحواله، وينظِّم أمورها، ويريح رجاله، ويكمل نواقصهم في السلاح والتجهيزات ووسائط النقل من الحيوانات، استعداداً لاستئناف الفتوح.
ج - لقاء القائدين:
من الواضح أن موسى أحسّ أن عناصر المقاومة القوطية في ناحية ماردة، كانت أقوى مما لقي المسلمون في أماكن أندلسية أخرى، وعرف أن فلول القوط وأنصار لذريق بخاصة، كانوا يتجمعون في تلك المناطق الجبلية الوعرة
(1) الترابة: الإسمنت.
(2)
وردت هذه العبارة الهامة عن ذلك الاتفاق في: أخبار مجموعة (18) ونفح الطيب (1/ 171)، وقد أورد هذان الكتابان تفاصيل مهمة مما فعله المسلمون حتى استطاعوا الاستيلاء على هذا الحصن المهم. ومن ذلك قصة المسلمين الذين استشهدوا تحت الدبابة التي كانوا يختبئون تحتها لنقب سور البلد، وذكروا أن هذا الموضع يسمى إلى وقتهما:(برج الشهداء) لهذا السبب. ويذكران أيضاً حيلة موسى مع أهل ماردة وتلوينه شعره من أبيض إلى أحمر إلى أسود إرهاباً لهم، وانظر تفصيل فتح ماردة في: الرازي نشر جلينجوس (78) وأخبار مجموعة (16 - 18) وابن الأثير (4/ 565 - 565) والبيان المغرب (2/ 14 - 15) والنويري (22/ 28 - 29) وفجر الأندلس (93) والفتح والاستقرار العربي الإسلامي (196) والتاريخ الأندلسي (74 - 78).
ظنّاً منهم أنّ المسلمين إذا وصلوا إليها، فإن طبيعتها الجبلية الوعرة ستساعد المقاومة القوطيّة على الدفاع الرصين، حيث يمكن التسرب منها إلى نواحي قَشْتَالة (1) واسترامادور إذا أخفقوا في الدفاع، وفعلاً لاقى موسى عقبات في طريقه من ماردة إلى طُليطلة، فخفّ طارق للقاء موسى بالظاهر، ونجدته بالواقع، حتى يخفف الضغط على قوات موسى من جهة، وليجبر المقاومة القوطية على مجابهة قوات موسى وقوات طارق في آن واحد، ويضطرّها على الانسحاب.
والذي أخّر طارق عن الخروج للقاء موسى، منذ عبوره إلى الأندلس، حتى هذه الأيام، يمكن تفسيره بأن موسى، رأى أن مقام طارق بطليطلة يؤمِّنه من عمل يقوم به قوطها، فلما فرغ من أمر ماردة، وأراد السير نحو طليطلة، أحسّ أن الطريق طويل محفوف بالمخاطر، لأن فلول القوط كانت تتجالب (2) وتتجمّع في تلك النواحي. فلما رأت موسى يأخذ في الطريق وجدت الفرصة سانحة لاعتراضه ومنازلته في معركة لها ما بعدها، وكان هذا هو السبب الذي حفّز طارقاً إلى المسير للقاء موسى. ولا يعقل سكوت طارق عن الذهاب إلى مولاه موسى طيلة أشهر الشتاء رغم وجوده على مقربة منه، إلاّ بأنّ موسى لم يطلب إلى طارق المجيء إليه إلاّ في تلك الأيام، حينما أحسّ ببعض ما كان يدبّر حوله في هذه المناطق الجبلية الوعرة.
والوقع أن حشود القوط تربصت بالمسلمين في تلك المنطقة، ولبثوا يتحينون الفرصة للانقضاض على جيوش المسلمين. ولم يكن موسى ليستطيع السير من ماردة إلى طليطلة وهؤلاء في طريقه، فكان لابد له من القضاء عليهم، ولهذا استدعى طارقاً ليلقاه في منتصف الطريق بين ماردة وطليطلة، فسار طارق نحو مائة وخمسين ميلاً، وانتظر مولاه في وادي الأرّوكامبو ( Arrocampo) في مكان يسمى المعرض ( Almaraz) بين التاجة ونهر
(1) قشتالة: إقليم عظيم بالأندلس، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 93).
(2)
البيان المغرب (15).
التيتار ( Tietar) قرب طلبيرة غربي طليطلة. (1)
أما موسى فسار في طريق ماردة سلمنجة بحذاء نهر أُطلق عليه اسمه، وهو نهر موسى ( Valmuza)(2) .
وإذا كان حدث شيء بين القائدين، فلا يعدو أن يكون مناقشة بعض القضايا، أو استفهامه من طارق خطته وإبداء الملاحظات عنها، "وعلى توغله بالمسلمين، وتغريره بهم"(3)، حيث اندفع بهذه السرعة إلى قلب البلاد. وحين:"خرج إليه طارق وتلقّاه، فتعتّب عليه موسى وقال له: ما دعاك إلى الإيغال والتّقحّم في البلاد بغير أمري؟ "(4). فاعتذر له طارق بخطته العسكرية أمام الظروف المحيطة والضرورة الداعية لأسلوبه القتالي (5). وقد تمكن طارق من حسم القضية مع سيِّده، وأظهر نواياه الحسنة، وعرض على موسى كل ما أصابه من غنائم وكنوز في فتوحاته (6). ويبدو أنه كان موفقاً أيضاً في
(1) فتح مصر والمغرب (207) وأخبار مجموعة (18) وفتح الأندلس (11) والبيان المغرب (2/ 16) والرسالة الشريفية (193) ونفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 271)، وفجر الأندلس (99)، وقارن: Saavedra.P.98
(2)
وتعيين اتجاه موسى على هذا النحو، يعيننا على تحديد المكان الذي التقى فيه بطارق على وجه التقريب. فابن عذارى يقول: "اتفق الأكثرون على أنّ التقاءهما كان على طليطلة (لما بلغه مسير موسى إليه، فلقيه بمقربة من طلبيرة)، كما قال الرازي، وذكر الطبري أنه كان على قرطبة. ولما كانت بعض المراجع الأجنبية تقول بأنّ الّلقاء وقع عند ناحية تسمى ( Almaraz) وهو لفظ عربي الأصل يرجع إلى أصله العربي:(المعرض) وهو مكان على مقربة من طلبيرة، فإننا نستطيع القول بأنّ الّلقاء بين موسى وطارق وقع هناك، انظر البيان المغرب (2/ 17) وأخبار مجموعة (18) و Saavedra.op.cit.p.98 و Rodericus Tolitanus. de rbus Hispaniae.1.111.cap.XXIV.
(3)
البيان المغرب (1/ 16).
(4)
تاريخ الأندلس (25 مقدمة المحقِّق) و (149 نص ابن الشباط) والحلة السيراء (2/ 334).
(5)
التاريخ الأندلسي (90).
(6)
أخبار مجموعة (19) وابن الأثير (4/ 565) والبيان المغرب (2/ 16 - 17) والنويري =
إقناع موسى بوجهة نظره في الفتح، وبضرورة استقرار المسلمين الدائم في البلاد المفتوحة، وهذا الأمر واضح جداً من التفاهم المتبادل، والتعاون المشترك الذي ساد بين القائدين خلال فتوحاتهما المشتركة (1):"ثم إن موسى اصطلح مع طارق، وأظهر الرضى عنه، وأقرّه على مقدمته، وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه، وسار موسى خلفه في جيوشه"(2)، كما ذكرنا ذلك.
لقد كان عبور موسى إلى الأندلس لسبب حربي واضح، وكان باستدعاء طارق له، فجاء منقذاً لا منتقماً. كما كان توجه طارق للقاء موسى لسبب حربي واضح أيضاً، لأن قوات موسى أصبحت مهددة بحشود المقاومة القوطية. فقدم إلى موسى بمبادرة منه أو بطلب من موسى، وما حدث في سير الحوادث هو الدليل القاطع على سبب اللقاء بين القائدين.
فقد انقضَّت حشود المقاومة القوطية التي كانت في تلك المنطقة الجبلية الوعرة على جيش موسى في ناحية يسميها مؤرخو المسلمون: السَّواقي، وهي ( .... de los Cornejos) على مقربة من تمامس ( Tamames)(3) فردّ المسلمون على القوط بهجوم مقابل وثبتوا للقوط حتى أفْنَوْهم عن آخرهم (4).
ويبدو أن اشتباك المسلمين بالقوط في معركة السَّواقي، شجع نفراً من بقايا القوط وأنصارهم في طليطلة على نقض طاعة المسلمين، فانتهزوا فرصة خروج طارق وجنده منها، ووثبوا بها، فاضطرّ موسى إلى فتحها من جديد،
= (22/ 29) ونفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 273).
(1)
الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (181).
(2)
نفح الطيب برواية ابن حيّان (1/ 172).
(3)
فتح الأندلس (8) والإمامة والسياسة (2/ 156).
(4)
لا عبرة بمن ذكر أنّ لذريق قُتل في هذه المعركة، وأنّ قبره في فيزيو معروف حتى زمان الفونسو الكبير الذي ذكر في حولياته: أنه رأى وقرأ عليه لوحة تقول: هنا يرقد لذريق ملك القوط ( Hic requiescir Rudericus rex gothorum) ، فقد قضى لذريق نحبه في المعركة الحاسمة التي قادها طارق، كما ذكرنا، والقبر وما مسجل عليه مزوّر كما هو واضح، وكثيرة هي القبور المزورة كما هو معروف.
ودخولها دخول المنتصر (1).
أليس هذا الذي حدث في معركة السَّواقي، وفتح طليطلة ثانية، دليلاً قاطعاً، على أن المسلمين بقيادة طارق بعد تغلغلهم العميق في البلاد، أصبحوا في خطر جسيم، لانكشاف جناحيهم: الأيمن والأيسر، ولتهديد خطوط مواصلاتهم الطويلة الواهنة، فكان عبور موسى هو لدرء هذا الخطر الجسيم، كما أن بقاء طارق في طليطلة دون فتح جديد، ودون لقاء موسى، بالرغم من مضي مدة طويلة من الزمن على عبور موسى، هو لتثبيت حشود المقاومة القوطية في أماكنها دون التعرض بقوات موسى وقوات طارق لأطول مدة ممكنة. كما أن حركة طارق للقاء موسى في طريقه إلى طليطلة، وهو طريق جبلي وعر فيه حشود المقاومة القوطية المتربِّصة بالمسلمين، كان لمعاونة موسى على اجتياز الطريق المحفوف بالمخاطر سالماً آمناً، أو ضمان إحراز النصر على القوط إذا اشتبكوا بالمسلمين، لأن اشتباكهم بقوات موسى وقوات طارق أصعب عليهم من اشتباكهم بقوات موسى وحدها.
إن كل ما حدث يدلّ على أن القائدين كانا يعملان لمصلحة المسلمين العليا، لا لمصلحتهما الشخصية الضيقة، فلا مجال لتصديق ما زعمه بعضهم من حدوث مشادات بينهما، قد تصدق على إطفاء ما يعتلج في صدور الصبيان من حزازات، دون أن يخطر أمثالها ببال قائدين عظيمين.
وبالإمكان ذكر أدلّة جديدة، على أن موقف طارق والمسلمين في الأندلس، نظراً لاندفاعهم السريع في عمق البلاد، كان موقفاً خطيراً للغاية وواهناً إلى أبعد الحدود، وهو السبب في استنجاد طارق بموسى، وعبور موسى بنفسه إلى الأندلس، لمعالجة الموقف الراهن وملافاة أخطاره، ولو أن الأمر أصبح لا يحتاج إلى أدلة جديدة، ولكن استكمال البحث بالدرجة الأولى، هو الذي يحملني على ذكرها بإيجاز، ثم لتكون أدلة جديدة تضاف
(1) فتح الأندلس (12).