الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مندسين وعملاء بينهم، يُظهرون غير ما يُبطنون، فلا يمكن الاعتماد على مثل هؤلاء في الحرب، إذ قد ينقلبون على المسلمين في وقت من الأوقات الخطرة في الحرب، أو يثبطون عزائم المسلمين المجاهدين، أو يهربون فيسري الهرب بالعدوى بين المقاتلين، أو ينقلون أسرار المسلمين إلى أعدائهم، ومثل هذه الاحتمالات قائمة بالنسبة للقوط النصارى غير المجربين من المسلمين، ولم يحظوا بالثقة الكاملة بهم. ومن المحتمل أنّ المسلمين استقبلوا أعداء لذريق في مواضع آمنة، واكتفوا بتحييدهم بالنسبة للذريق، ونقلوهم إلى الخلف بعيداً عن الجبهة، انتظاراً لنتيجة المعركة المتوقعة، وهم بعيدون عن أخطار الحرب، آمنون على أنفسهم وعلى أموالهم وأملاكهم، وحسب المسلمين منهم أنهم لم يحاربوا في صفوف لذريق، ولم ينصروه في ميادين القتال، وكان حيادهم نصراً لا ريب فيه للمسلمين.
4 - خطبة طارق وحرق السُّفن
أ - الخطبة:
أولاً: الرّفض:
كان ممن احتار في أمر خطبة طارق المشهورة، الأمير شكيب ارسلان رحمه الله، فقال: "تلك الخطبة الطنّانة، التي لو حاول مثلها قِسّ بن ساعدة أو سَحْبان وائل، لم يأت بأفصح ولا بأبلغ منها، ولقد كنتُ أُفكِّر مليّاً في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي .. هذا لغز من ألغاز التاريخ، لا ينحل معناه بالسهولة
…
"، وحقيقة هذا اللّغز، لدى أمير البيان، أنّ طارقاً بربري، والخطبة تُعد من روائع الخطب العربية، ولم يستطع التوفيق بين هذين الأمرين المناقضين، وقد حاول ولكنه لم يسترح لمحاولاته، وأخيراً زال عندما جزم الاستاذ عبد الله كنّون بأنّ هذه الخطبة من جملة انطباع البربر بالطابع العربي
البحت (1).
ويرتاب في نسبة هذه الخطبة لطارق الأستاذ عبد الله عنان، فيقول:"على أنه يسوغ لنا أن نرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، فإن معظم المؤرخين المسلمين، ولا سيما المتقدمين منهم، لا يُشير إليها، ولم يذكرها ابن عبد الحكم ولا البلاذري، وهم من أقدم رواة الفتوحات الإسلامية؛ ولم تُشر إليها المصادر الأندلسية الأولى، ولم يُشر إليها ابن خلدون، ونقلها المقري عن مؤرِّخ لم يذكر اسمه، وهي على العموم أكثر ظهوراً في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين. وليس بعيداً أن يكون طارق قد خطب جنده قبل الموقعة، فنحن نعرف أن كثيراً من قادة الغزوات الإسلامية الأولى كانوا يخطبون جندهم في الميدان، ولكن في لغة هذه الخطبة وروعة أسلوبها وعبارتها، ما يحمل على الشك في نسبتها إلى طارق، وهو بربري لم يكن عريقاً في الإسلام والعروبة. والظاهر أنها من إنشاء بعض المتأخرين، صاغها على لسان طارق، مع مراعاة ظروف المكان والزمان"(2).
كما يرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق الدكتور أحمد هيكل، ويبني شكّه على: أن طارقاً بربري حديث عهد بالإسلام والعربية، لأنه لم يرتبط بموسى بن نُصير إلاّ عندما ولى هذا الأخير قيادة المغرب سنة تسع وثمانين الهجرية، وبين هذا التاريخ وتاريخ الفتح في سنة اثنتين وتسعين الهجرية مدّة وجيزة، يُستبعد معها أن يجيد طارق العربية، بحيث تسمح له بإلقاء الخطب ونظم الشعر.
كما أن المصادر الأولى، عربية وأندلسية، قد سكتت عن هذه الخطبة، ولم تُشر إليها، ولا تنص عليها سوى المصادر المتأخرة كثيراً عن الفتح، مثل نفح الطيب.
(1) دكتور عبد السلام الهراس - دعوة الحق - العدد الخامس - السنة الحادية عشرة 1388 هـ - ص: 126، وانظر: النبوغ المغربي (1/ 22 - 23).
(2)
دولة الإسلام في الأندلس (47).
ثمّ إن أسلوب الخطبة، بما فيه من الصنعة والزُّخرف، لا ينتسب إلى عصر طارق الأدبي، وإنما إلى عصر متأخر جداً عن القرن الأول. ولذلك يرى أن هذه الخطبة هي أقرب إلى خصائص أواخر العصر العباسي وربما إلى ما بعد ذلك.
كما أن ورود هذه العبارة في الخطبة: "وقد اختاركم أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً"، مما يزيد من حظ الشك ويقوي الارتياب، لأن الجنود لم يكونوا عرباً، بل كانوا برابرة.
واعتماداً على هذه الأدلة الأربعة، يخلص الدكتور أحمد هيكل، إلى حكم؛ يرجّح فيه أن تكون الخطبة وضعت على لسان طارق من بعض الرواة المتأخرين كثيراً عن الفتح، والمتأثرين كثيراً بأسلوب أواخر العصر العباسي، وربما العصر المملوكي.
ويرى بعد ذلك، أن طارقاً قد يكون خطب جنوده، وقد يكون قد تغنى انتصاراته مفاخراً مباهياً، ولكن المعقول أن يكون فعل ذلك بلغته البربرية، التي كان يجيدها، والذي كان جنوده يفهمونها (1).
ويرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، الدكتور عبد الرحمن علي الحجي، ويبني شكّه على: أن تعرض القليل جداً من مؤرخينا الأندلسيين المتأخرين - دون المتقدمين - للخطبة، قد يشير إلى عدم شيوعها وعدم معرفة المؤرخين لها، وهو أمر يمحو أو يقلل الثقة بواقعيتها. كما لم تذكر المصادر الأندلسية، لا سيما المبكرة منها، هذه الخطبة. ولم تكن الخطبة بما فيها في أسلوب ذلك العصر (القرن الأول الهجري)، وغير متوقع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة. والمعاني التي تناولتها الخطبة لا تتلاءم والروح الإسلامي العالية، التي توفرت لدى الفاتحين، ومقدار حبهم للإسلام وإعلاء كلمته، ورغبتهم في الاستشهاد من أجل ذلك .......
(1) انظر كتاب: الأدب الأندلسي (80 - 83) ئقلاً عن مقال مجلة دعوة الحق - العدد الخامس (126 - 127).
ويلاحظ في الخطبة عديد من الأخطاء، ويلاحظ بها التناقض في المعاني، وبعض ما فيها مخالف لحقائق تاريخية، كاستعمال:(اليونان) التي ربما جاء ذكرها للسّجع، فالمؤرخون الأندلسيون اعتادوا أن يستعملوا في هذه المناسبة القوط أو الرّوم (1)، وكذلك: العلوج والعجم، أو المشركين والكفار (2)، وليس لدينا نص يحتوي على مثل هذا الاستعمال. ثم: "وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين
…
" (3)، فالذي انتخبهم موسى بن نصير وليس الوليد.
وكان المتوقع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أو وصايا وأحداث ومعاني إسلامية أخرى، تناسب المقام، كالمعهود (4)، ثم إن طارقاً وأكثر الجيش كانوا من البربر، مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم، إذ من المتوقع ألّ تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوى عالٍ (5). كما أن وضوح تنافي الجُمل الأخيرة من الخطبة:"ولم يعوزكم بطل عاقل "، "واكتفوا إليهم من فتح هذه الجزيرة بقتله
…
"، وأسلوب الفتح وحقيقته وأهدافه، فضلاً عن مجانبتها لخططه العسكرية ودقتها التنظيمية ومطالبها الفنية، دليل أن طارقاً لم يقل هذه الخطبة.
ويرى بعد ذلك، أن كل ما تقدم، لا يمنع أن يكون طارق جيد الكلام، وأنه خطب جنده، يحثهم على الجهاد (6).
ويرتاب الدكتور أحمد بسّام السّاعي في نسبة هذه الخطبة إلى طارق بن
(1) انظر: نفح الطيب (1/ 264 و 269) والإحاطة (1/ 100).
(2)
انظر: نفح الطيب (1/ 259 و 261 و 270 و 271) والبيان المغرب (1/ 14).
(3)
ابن خلكان (5/ 321 - 322) ونفح الطيب (1/ 240).
(4)
انظر: تحفة الأنفس (29 - 33).
(5)
انظر:. تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس (78).
(6)
التاريخ الأندلسي (58 - 61).
زياد، فيرى: أن أسلوبها ليس أسلوب ذلك العصر - سنة اثنتين وتسعين الهجرية - أي أواخر القرن الأول الهجري، فالسّجع الذي انتظم كثيراً في عباراتها، والذي كان يتتالى على مدى خمس جُمل أحياناً، لم يعرفه العرب في أساليب تلك المدة الزمنية. ثم إن طارق بن زياد، كان أول عهده بالإسلام والعربية عام تسع وثمانين للهجرة، وهو العام الذي استولى فيه موسى بن نصير على المغرب، فاستولى الإسلام على قلوب أهلها، واستولت لغته العربية على ألسنتهم، فهل يُعقل أن يكون قد اكتسب في هذه السنوات الثلاثة اللسان العربي الفصيح والملكة البلاغية الرفيعة التي تؤهله لإلقاء مثل هذه الخطبة التي احتلت تلك المكانة الرفيعة بين خطب فصحاء العرب؟ أما العربان الذي ذكرهم طارق في خطبته:(وقد انتخبكم الوليد من الأبطال عرباناً)، فلم يكونوا في حقيقة الأمر، وتبعاً للمصادر التاريخية الموثقة، عرباناً، بل كان معظم أفراد الجيش الذي جهز منه طارق حملته من برابرة المغرب. وإذاً، فلا بد من الوقوف وقفة شك كبير أمام هذا التنافر بين الواقع التاريخي بجوانبه المتعددة، وواقع الخطبة التي بين أيدينا.
ومما يزيد هذا الشك رسوخاً، تلك الحقيقة التاريخية التي عُرفت عن الجيوش الإسلامية عامة - ولاسيما في تلك القرون الأولى من حملات الإسلام - وهي أن هذه الجيوش لم تكن تغزو للغزو والغنائم التي ينالها الغزاة عامة، بل كانت تغزو في سبيل فكرة وعقيدة.
ثم يقول: "
…
ومع ذلك، فنحن لا نملك أن نجزم بأنها ليست لطارق بن زياد حقاً" (1).
وكان بطرس البستاني، قد شكك في نسبة هذه الخطبة إلى طارق، فهو يرى أن طارقاً كان فارسي الأصل متعرِّب لا بربري، حديث العهد بالعربية والإسلام، وأنّه كان حسن الكلام، فما هو تأثير خطبته في جيش من البرابرة
(1) مجلة العربي الكويتية - العدد 293 - نيسان (أبريل) 1983 م- (96 - 97).