الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن الواضح، أنه يمكن أن نستنتج من هذا الوصف لقوات القوط، أن لذريق وهو القائد العام كان مترفاً جداً، ولا يمكن أن يقاتل المترَف كما يقاتل الرجال، لأنه يحرص على ترفه أكثر مما يحرص على الموت. كما أن الجيش القوطي كان على حالة إدارية متميِّزة، يحمل الأموال والكساء، وتحمله الخيول، ولا تنقصه مادة إدارية تؤثر في نشاطه القتالي. كما يمكن استنتاج أن القوط قد أعجبتهم أنفسهم، فضمنوا لهم النصر على المسلمين، والإعجاب بالنفس قبل نشوب القتال، لا يؤدي إلى خيرٍ أبداً. ويبدو أن إعداد الحبال للأسرى قبل المعركة، كان محاولة من لذريق لرفع معنويات القوط، مما يدل على أنّ معنوياتهم قبل الإشتباك لم تكن عالية، ولا نصر لقوات لا تتحلى بالمعنويات العالية.
ثانياً. موقف المسلمين:
لما علم طارق بأخبار حشود القوط الكثيفة لقتال المسلمين، كتب إلى موسى بن نصير يستنجده، فأرسل إليه جيشاً قرابة خمسة آلاف مقاتل، بقيادة طريف بن مالك (1)، حملتهم سفن صنعها المسلمون، ولعل يُلْيَان قدّم التسهيلات لعبور هذا المدد إلى الأندلس، فأصبح تعداد الجيش الإسلامي في الأندلس اثني عشر ألف مقاتل، جلّهم من البربر المسلمين (2). وفي ذلك يقول صاحب أخبار مجموعة: إنّ طارقاً، "كتب إلى موسى يستمده ويخبره أن قد فتح الله الجزيرة واستولوا عليها وعلى البحيرة، وأنه قد زحف إلى ملك الأندلس بما لا طاقة له به. وكان موسى مذ وجّه طارقاً أخذ في عمل السفن، حتى صارت معه سفن كثيرة، فحمل إليه خمسة آلاف، فتوافى المسلمون بالأندلس عند طارق اثنا عشر ألفاً"(3).
(1) العبر (4/ 254) ونفح الطيب (1/ 233).
(2)
نفح الطيب (1/ 1/ 231 و 239).
(3)
أخبار مجموعة (7).
ويبدو أن نيّة طارق، كانت السير مباشرة إلى قرطبة عاصمة بِيْطِي (1)(بيتِس)( Baetis) لأنه تقدّم بحذاء الساحل حتى أدرك جزيرة طريف، ومن ثَمَّ اتجه إلى الشمال في سهل قليل الارتفاع، ومرّ بين جبلي (سيليا دل بابا) و (سييرا دل رِتين)، واقترب من بحيرة الخندق (لاخاندا) الواسعة التي تحصر بينها وبين (سييرا دل رتين) سهلاً متسعاً بعض الاتساع حصيناً، لأنّ البحيرة تحميه من ناحية والجبل من ناحية أخرى، واستمر حتى أدرك نُهير البرباط الذي يخترق بحيرة الخندق (لاخاندا)، وكانت بهذا الموضع في تلك الأيام بليدة صغيرة زالت الآن، يسمّيها العرب: بكَّة، ولهذا سمّوا هذا النُّهير: وادي بِكّة، وحرّفه بعضهم إلى لِكَّة أو وادي لِكَّه، ونقله الإسبان خطأ، فسمّوه: وادي لِيتَه (2).
وهنا عرف طارق من عيونه المنتشرة في كل مكان، أن لذريق سائر إليه بجنده، وأنه وصل إلى قُرطبة واستقر فيها قليلاً لاستكمال حشد جيشه، ثم تقدم جنوبيها، وأقام معسكره عند شَذُوْنَة (3)( Sidonia) واستعدّ لقبول المعركة في سهل البرباط، على مقربة من قرية ( Casas Viejas) الحالية (4).
وفي هذا الموضع الذي وصل إليه طارق، وصل المدد الذي تعداده خمسة آلاف مقاتل إلى طارق، وهو المدد الذي بعث به موسى بن نُصير إلى الأندلس. فقويت بالمدد نفس طارق ونفوس من معه. والغالب أن قسماً كبيراً من المدد كان من الفرسان، لأن المصادر تحدّثنا أنّ قوّة طارق الأولى
(1) بيطي: هو الاسم القديم لنهر الوادي الكبير ( Guadalquivir) ، انظر جغرافية الأندلس وأوروبا (58).
(2)
أقرب ما قيل، إن وادي لكه، تحريف للفظ ( Lago-Lacus) أي البحيرة، والمقصود هنا بحيرة الخندق، أُنظر التفاصيل في: فجر الأندلس (71) الهامش (1).
(3)
شذونة: مدينة بالأندلس، تتصل نواحيها بنواحي موزور، أُنظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 244). وفي ابن خلدون (4/ 117)، أنّ الجيشين التقوا بفحص شريش، والصحيح أنّها وقعت في فحص شذونة، لأنّ شريش بعيدة عن ميدان المعركة.
(4)
فجر الأندلس (71 - 72).
كانت كلها من الرّجالة، في حين سنرى للمسلمين قوّة من الخيالة في المعركة الحاسمة (1).
وييدو أن تقدم المسلمين الموفق في الأندلس إلى هذه اللحظة، قد أنعش الآمال في أنفس أعداء لذريق، فانضم منهم إلى المسلمين نفر كبير أعانوهم بالقوة والرأي (2). وتسامع بذلك نفر من جند لذريق الغاضبين عليه، فبدأت نفوسهم تحدّثهم لانتهاز الفرصة للانقلاب عليه في حالة اشتباكه بالمسلمين، ويقال: إنّ شيشبرت وأبّه أخوي غيطشة، كانا على رأس هذا الفريق الذي عزم على الخيانة، وإنهما انتظرا اللحظة المواتية ليتخليا عن لذريق، ويتركاه يلقى جزاءه على ما فعل بغيطشة (3).
ويبدو أن لذريق كان يشعر بما يدور حوله، وكان يدرك أن نفراً من جنده يدبر له الخيانة، فأحب قبل أن يلقى المسلمين، أن يتعرّف على ما لديهم من القوّة، فبعث طليعة من فرسانه لتناوشهم، فلم يكد المسلمون يرونها حتى انقضوا عليها انقضاضاً شديداً، فولّت هاربة، وأنبأت لذريق بحال المسلمين وما هم عليه من الحمية والتشوق للقتال، فكاد يسقط في يديه (4).
ولابد من التوقف قليلاً، لمناقشة التحاق القوط النصارى بالجيش الإسلامي، قبل المعركة الحاسمة، ومعاونتهم للمسلمين وتعاونهم معهم في
(1) يذهب سافدرا -اعتماداً على المصادر المسيحية ئ- إلى أن عدد جيش طارق بلغ قبل المعركة الحاسمة خمسة وعشرين ألفاً، بسبب من انضم إليهم من النصارى من أنصار غيطشة وأعداء لذريق من أهل البلاد، أي أنّ من انضم إليه من النصارى يبلغ ثلاثة عشر ألفاً، وهذا مستبعد. بيد أنّ هذا لا يمنعنا من القول بأن بضعة آلاف من النصارى انضموا إلى المسلمين، أنظر فجر الأندلس (72) الهامش (1).
(2)
البيان المغرب (2/ 11) ونفح الطيب (1/ 162)، ويفهم مما ورد في نفح الطيب، أنّ الذي دبّر الخيانة لم يكن أبناء غيطشة وأخواه فقط، وإنما نفر عظيم من القوط كانوا غضاباً على لذريق.
(3)
افتتاح الأندلس (3) والبيان المغرب (2/ 8) ونفح الطيب (1/ 163) وأخبار مجموعة (6).
(4)
نفح الطيب (1/ 163).
تلك المعركة، على جيش لذريق من القوط النصارى، في مثل ذلك الموقف الحرج الخطير للغاية، في بلاد هي بلاد القوط النصارى وليست بلاد الجيش الإسلامي، بحجة عداوتهم للذريق، هذا الالتحاق القوطي بالمسلمين يمكن تصديقه بحجّة أن الملتحقين هم أعداء لذريق، وعدو عدوِّك صديقك كما يقول المثل العربي المشهور، ولكن ليس من المعقول أنّ طارقاً أشركهم في القتال.
ومن الواضح، أثه يمكن أن نستنتج من هذا العرض لموقف المسلمين، أن طارقاً كان كأحد رجاله مأكلاً ومشركاً وسكناً، فلم يكن مترفاً، بل كانت حياته أقرب إلى التقشف منها إلى الترف. وكان حذراً كل الحذر يقظاً كل اليقظة، يعرف عن عدوه حركاته وسكناته، ولا تخفى عليه من أمره خافية. وكان يعدّ لكل أمرٍ عدّته ولكل معضلة حلّها، لا ينام ولا يُنيم. وكان المسلمون في حالة إدارية أقل بكثير من الجيش القوطي، ولكثهم اعتادوا على الحياة القاسية ولم يعرفوا الترف والرخاء، فكانت حالتهم الإدارية غير المتميّزة ليست مشكلة بالنسبة إليهم. ولم يكن المسلمون قد أعجبتهم كثرتهم، فهم يعلمون أن عدوهم متفوق عليهم عَدَداً وعُدَداً، ولكنهم متفوقون على عدوهم بقيادتهم ومعنوياتهم العالية. ولم يهتم المسلمون بالمظاهر الخارجية والدعاية، كما اهتم القوط بهما، فلم يعدوا الحبال لربط الأسرى، ولم يتباهوا بالمظاهر الخلابة، بل كانوا في نفسية متواضعة لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار.
لقد كان تعداد جيش طارق اثني عشر ألفاً (1) من المجاهدين الصادقين، وانضم إليهم يليان في قوة صغيرة من صحبه وأتباعه (2)، وهؤلاء هم الذين شهدوا المعركة الحاسمة مع المسلمين على القوط. أما أعداء لذرليق الذين انضموا إلى المسلمين قُبيل تلك المعركة نكاية بلذريق، فمن الصعب تصديق أن المسلمين أشركوهم بالمعركة الحاسمة معهم على لذريق، لاحتمال وجود
(1) نفح الطيب (1/ 231 و 239) وأخبار مجموعة (7).
(2)
دولة الإسلام في الأندلس (42).