الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستطيع القضاء على الفتنة وإقرار الحق لذويه عما قريب، فاجتمع منهم نفر وائتلفوا، واعتبروا أنفسهم:(مجلس شيوخ وكبراء) وأن له الحق في أن يقرر في شئون دولة القوط كما يرى، ثم اختاروا واحداً منهم اسمه: رودريك: (لُذَريق)، وانتخبوه ملكاً خلفاً لغيطشة، واستعدوا لنصرته والقضاء على منافسيه بحدّة السيف.
وتجمع النصوص كلها، على أنّ هذه الجماعة التي بايعت لذريق، كانت جماعة من كبار القوط وأعيانهم، وأنهم أرادوا باجتماعهم هذا، إنقاذ دولة القوط وتقويم ما انهار من بنيانها، فإذا أضفنا إلى ذلك ما سبقت الإشارة إليه، من أنّ رخشندش أراد أن يستعين بالرومان الإسبان ليثبت أمر أخيلا، استطعنا أن نستنتج أن المسألة لم تكن مجرد خلاف على العرش بين زعماء القوط، بل كان فيه لون من ثورة أهل البلاد على القوط، ورغبتهم في التخلص من كبرائهم ونبلائهم. ولعل هذا الاستنتاج، يتيح لنا أن نقرر ما تحاول الكثرة الغالبة من مؤرخي الإسبان - قدامى ومحدثين - نفيه وإنكاره، وهو أن دولة القوط، لم تكن في نظر أهل البلاد دولة قومية، بل ظلت في نظر غالبيتهم دولة أجانب، لقي الناس في ظلهم كثيراً من الأذى، وحاولوا التخلص منهم مرات كثيرة.
ج - لُذَرِيق:
الخلاف شديد حول أصل لذريق، فمن قائل: إنه كان زعيماً قوطياً كبيراً ذا علم بأمور الحرب والسلم، ومن قائل: إنه ينحدر من أصلاب ملكية، وأن جدّه الملك شِنداسفنتو، ومن قائل: إنه ابن تيودفريدو دوق قرطبة الذي كان غيطشة قد عاقبه على ثورته عليه بسمل عينيه. ومهما يكن من أمرٍ، فإن المراجع الإسبانية اللاتينية القديمة، تجمع على أنه كان رجلاً قادراً، وأنه كان قبل اعتلائه العرش حاكماً لولاية بيتيكا، وأن الذين بايعوه على العرش فعلوا ذلك في قرطبة عاصمة ولايته.
ولم يسِر لذريق إلى طليطلة مباشرة بعد إعلانه نفسه ملكاً، بل تريَّث بعض الوقت ليتيسر له جمع أنصاره وملاقاة رَخَشَندش ورجاله في موقعة حاسمة. وكان قد أعلن نفسه ملكاً في ربيع سنة (710 م)، قبل الهزيمة المسماة عادة بهزيمة: جواداليتي (وادي لَكُّهْ) بسنة، وكان ذلك في السنة الخامسة من حكم الوليد بن عبد الملك بن مروان في دمشق، كما يقول:(النص اللاتيني المجهول المؤلف). ويذهب راوية آخر إلى أنه ذهب إلى بَطَلْيَوْس، دون أن يذكر لنا السبب في الذهاب إلى ذلك البلد البعيد. والثابت أنه سار إلى طليطلة بعد أشهر من إعلان نفسه ملكاً على رأس جيش كبير، فيه جلّة قواد القوط ونبلائهم، وهزم رخَشَندش في واقعة حاسمة، قتل فيها هذا الأخير وتفرق أتباعه. أما أبناء غيطشة، فلم يجدوا مفرّاً من مغادرة البلاد فراراً من الغاصب، ففروا إلى إفريقية، وصادر لذريق أملاكهم معتبراً إياهم ثائرين على العرش، والقانون القوطي يقضي بمصادرة أملاك كل ثائر على العرش.
ويبدو أن لذريق، ظل يخشى طيلة أيام حكمه القصيرة، عودة أبناء غيطشة إلى البلاد، ومحاولة استعادة عرشهم بمساعدة أنصارهم الكثيرين، ومن ثم حرص على أن ينفر الناس منهم، بالمبالغة في تصوير أعمال أبيهم ومظالمه، وأعانه على ذلك القساوسة، لأن غيطشة كان لا يجيبهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم من القضاء المبرم على يهود. فلا غرابة أن نجد عند معظم المؤرخين الإسبان اللاتين صوراً بغيضة جداً لهذا الملك وأولاده، وما كانوا يدبرون للبلد وأهله من سوء. وقد تصدى نفر من المؤرخين الإسبان المحدثين الدفاع عن غيطشة وأبنائه، بيد أن هذا الدفاع عن غيطشة وأبنائه، والإصرار على تبرئة لذريق من كل عيب، وتصويره فى صورة بطل وطني جاهد المسلمين من بلاده، وبذل كل ما يملك لينجو ببلاده من خطرهم، كل هذا الجهد لا يمنعنا من تعرف شخص لذريق وأحوال عصره تعرفاً معقولاً، هو أقرب ما يكون إلى الصواب.
ومن الواضح، أن الرجل كان يشعر باضطراب الأمر عليه، وأنه ظل حياته
متخوفاً من وثبة تكون من أحد أعدائه الكثيرين، لأن هؤلاء الأعداء لم يكونوا أولاد غيطشة وحدهم، بل كانوا في واقع الأمر جلّة الشعب الإسباني الروماني ويهود إسبانيا.
ومصداق ذلك، أن لذريق لم يكد الأمر يستقر له، حتى يرغم رجال الدين على إصدار قرارات يتهمون فيها غيطشة بكل شر، ويصورونه للناس بصورة جبَّار ظالم، أراد بالناس وبالكنيسة كل أذى، وأن لذريق لم ينهض إلاّ لإنقاذ الناس من شره وشر أولاده وكل مَن كان يلوذ بهم. وقد أجاب رجال الدين طلبه، فحفلت قرارات مجامعهم الدينية في عصر لذريق، بأسوأ الاتهامات لغيطشة وبنيه ويهود.
ومصداق ذلك أيضاً، أن لذريق قضى معظم أيام حكمه القصير، يحارب الثائرين عليه في كل ناحية، وأنه قام بحملات متتابعة على الباسك في الشمال، وطوائف من الثائرين في الشرق والجنوب.
وربما كان من دلائل سوء الحال في عهد لذريق، أنه كان في حاجة مستمرة ملحّة للمال، لأن البلاد كانت مضطربة في أيامه، لا يكاد يطيعه في نواحيها إلاّ إقليم صغير.
والغالب أن حاجة لذريق إلى المال، هي التي دفعته إلى السطو على الذخائر الغالية، التي كان ملوك القوط قبله، قد كدّسوها في كنيستي سان بدرو وسان بابلو، فقد جرت عادة كل ملك منهم أن يودع إحدى الكنيستين تاجه وبعض ذخائره، وكانت هذه الذخائر مكدّسة في حجرتين مغلقتين في الكنيستين، فلما اشتدت حاجة لذريق للمال، حدّثته نفسه بأخذ بعض هذه الذخائر، للانتفاع بها. وقد حذّره القس من أن يفعل ذلك، ولكنه لم يصغ، ومضى ففتح مستودع الذخائر. ويبدو أنه ذهل من كثرة ما وجد من الذهب والجوهر. فلم يجرؤ على أخذ شيء، لأن رهبة المكان منعته من أن ينفذ ما أراد. وتحدث الناس في ذلك وتناقلوه، حتى أصبح أسطورة في أفواه الناس، ورواها المسلمون على صورة لا تخلو من