الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجهل العربية في مجموعه، ولم يزل على طفولته في الدين الجديد، تعني فئة قليلة من العرب بتعليمه القرآن وفرائض الإسلام كما يتعلمها كل شعب غريب إذا أسلم وكان يجهل العربية. ولا يبعد أن يكون فيه من البرابرة الذين لم يتركوا دينهم القديم، وإنما هم مرتزقة حاربوا مع المسلمين رغبة في الغزو والغنيمة .....
ومما يحمل على الشك في خطبة طارق قوله لجيشه: "وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عرباناً"، فجمعُ العربان ليس من اللغة الفصحى، ولا يصح أن ينطق به خطيب في صدر الإسلام. ثم كيف يجعلهم عرباً وهم
…
من البرابرة، ليس فيهم إلاّ ثلاثمائة من العرب؟ فلا يعقل أن يتوجه بخطبته إلى الفئة القليلة دون السواد الأعظم، والبرابرة أحوج من العرب المسلمين إلى التحضيض والإغراء.
ثم يقول: "فالخطبة كما يتبين لنا مصنوعة .... ، فما ينبغي الركون إليها ولو أثبتها بعض المؤرخين"(1).
تلك هي موجز أمثلة من آراء الرافضين من العرب المسلمين وغير المسلمين أيضاً، ذكرناها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهي في نقاطها الجوهرية تضرب على وتر واحد، تكاد تتفق في المعاني وتختلف في الألفاظ.
ثانياً: القبول:
تصدى الأستادْ عبد الله كنّون مفنِّداً بعض أدلة الرافضين، ومجمل ما ذكره: إنّ طارقاً البربري، نشأ في حصن العروبة والإسلام، فأبوه هو الذي أسلم بدليل اسمه:(زياد) ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وانتقل إلى المشرق حيث نشأ ولده في كنف موسى بن نُصير. ولا غرابة في نبوغ طارق البربري في العربية، فقد نبغ فيها أمثاله كعِكْرِمة البربري وسلمان
(1) بطرس البستاني - معارك العرب (1/ 55 - 56) - بيروت - 1944 م - ط1.
الفارسي. وليس في الخطبة من الصنعة البيانية ما يمنع نسبتها لطارق، لأن بلاغتها في معانيها، والمعاني ليست وقفاً على عربي ولا عجمي.
ثم يضيف: نعم قد تكون الخطبة تعرّضت لبعض التصرف بالزيادة أو النقصان من الرواة، غير أن هذا لا يسوّغ نفي أصل الخطبة، وليس بحجة للتشكيك في نصّها الكامل (1).
ويردّ الدكتور عبد السلام الهرّاس على الدكتور أحمد هيكل فيذكر: أنه لا يشاطر الدكتور هيكل في حكمه الذي بناه على حيثيات لا يعتمد البعض منها إلاّ على افتراضات، والبعض الآخر يعتمد على أساس النص الوارد في: نفح الطيب. فكون طارق مثلاً حديث عهد بالإسلام، لم يتصل بموسى بن نصير إلاّ عند تولية هذا قيادة المغرب سنة تسع وثمانين الهجرية - أمر لا يمكن التسليم به، لأن طارقاً ابن لمسلم وهو زياد، وحفيد لمسلم وهو عبد الله، حسبما ذكره ابن عذاري في نسبه، فله على الأقل أبوان في الإسلام، وهكذا لم يعد هذا القائد البربري حديث عهد بالإسلام، ولم تعد المدّة التي قضاها في الإسلام لا تتعدى ثلاث سنوات. ومالنا لا نفترض - وهو أقرب إلى المعقول - أن أباه - وجدّه هو الذي كان في المشرق - فنشأ الابن والحفيد في بيئة عربية صرف، أتاحت له حذق لغتها والنبوغ فيها، والفوز بثقة بلاط دمشق ليتولى مكانة مرموقة في الدولة الأموية، مما أهّله لقيادة جيش الفتح. ثم إنّ أحداً من القدماء لم يقل بأن طارقاً خطب بالبربرية، أو نفى الخطبة بالعربية. أما كونها لم ترد إلاّ في المصادر المتأخرة كثيراً، كنفح الطيب، فليس الأمر كذلك، إذ وردت في مصادر أقدم بكثير من عصر المقري، فقد أوردها ابن خلِّكان وهو من القرن السابع الهجري، ووردت في تحفة الأنفس لابن هذيل وهو من القرن الثامن الهجري، وأهم من هذا أن صاحب الإمامة والسياسة قد أثبتها وهو من رجال القرن الثالث الهجري، كما وردت قطعة منها في كل
(1) النبوغ المغربي (1/ 22 - 23) نقلاً عن مجلة: دعوة الحق - العدد الخامس (127).
من: (ريحانة الألباب) للمواعيني (توفي 575 هـ=1168 م)، وكتاب:(استفتاح الأندلس)، لعبد الملك بن حبيب (1).
وقد أضاف الشيخ عبد الله كنّون إلى المصادر الخمسة التي ذكرت خطبة طارق في صفحاتها والتي ذكرها الدكتور عبد السلام الهرّاس مصدراً جديداً، فذكر أنه يضيف إلى هذه المصادر مصدراً آخر لا يقل عن: ابن خلكان، تثبتاً وتحرِّياً وثقة، وهو من أهل القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجريين؛ الإمام أبو بكر الطرطوشي، صاحب كتاب:(سراج الملوك). وقد ذكر خطبة طارق غير شاعر بأدنى شك في صحة نسبتها إليه، وأورد طرفاً منها في الباب الحادي والستين من كتابه المذكور، الذي عقده لذكر الحروب وتدبيرها وحيلها وأحكامها (2).
وأضاف الأستاذ عبد العزيز الساوري مصدراً سابعاً إلى المصادر المذكورة، هو كتاب: صلة السِّمط وسمة المرط في شرح سمط الهدى في الفخر المحمّدي، للمؤرخ التونسي محمد بن على بن محمد الشباط المصري التوزري، الذي عاش في القرن السابع الهجري، وتُوفي بمدينة توزر سنة إحدى وثمانين وستمائة الهجرية (1282 م). فقد ذكر هذا العالم الحجة خطبة طارق مسلِّماً غير شاعر بأدنى شك في صحة نسبتها إليه (3).
وأستطيع أن أذكر، بعض ما يمكن أن يعتبر رداً عملياً على الرافضين نسبة خطبة طارق إليه، فمن الواضح أن طارقاً لم يتصل بموسى بن نصير سنة تسع وثمانين الهجرية، بل لابد أن يكون اتصاله به قبل ذلك، فأبو طارق وجدّه
(1) مجلة دعوة الحق - العدد الخامس (127 - 128).
(2)
سراج الملك (154) - الطبعة الأزهرية - القاهرة، انظر مجلة: دعوة الحق - العدد السادس والسابع - السنة الحادية عشرة - صفر 1355 هـ - ص: 111.
(3)
تاريخ الأندلس لابن الكردبوس ووصفه لابن الشباط - نصان جديدان - ص: 154 - 155 تحقيق د. أحمد مختار العبادي - معهد الدراسات الإسلامية - مدريد - 1971 م، نقلاً عن مجلة: دعوة الحق - العدد (225) ص: (100 - 101).
مسلمان، وقد عاش في بيئة إسلامية، ومثل هذه البيئة لها صلة مباشرة قوية بالعربية الفصحى تكلّماً وتعلّماً. وحتى في هذه الأيام، في القرن الخامس عشر الهجري لا نجد بيئة إسلامية شرقاً وغرباً، إلاّ فيها مَنْ يُتقن العربية الفصحى، فإذا أضفنا أن والد طارق وجده مسلمان، في أيام الفتوح والاتصال المباشر بين الأقوام والأمم، تحت ظل الإسلام، فلا نستبعد أن والد طارق وجده انتقلا إلى بلاد العرب، وكان معهما طارق، فأتقن العربية الفصحى. وحتى لو لم ينتقل إلى المشرق، فإن إسلامه يشجعه على قراءة القرآن وتفهم الحديث وأقوال الدعاة العرب المسلمين، فكثير ممن نراهم في الهند وباكستان والاتحاد السوفياتي مثلاً، ممن يتقنون العربية الفصحى، لم ينتقلوا إلى البلاد العربية، بل تعلموا العربية الفصحى في عقر دارهم. وأذكر أنني كنت في زيارة رسمية للباكستان سنة (1384 هـ-1964 م)، فصلّيت الجمعة في مسجد كراجي الكبير، وكان خطيب الجامع يخطب بالعربية الفصحى، ولم يخطب بالأوردية اللغة المحلية، فقيل للخطيب:(لماذا لا تخطب بلغة قومك؟)، فقال: (لا أخطب بغير لغة القرآن ولغة النبي صلى الله عليه وسلم، فما يدرينا أن طارقاً خطب بالعربية الفصحى في مثل ذلك الموقف العصيب، الذي يكون فيه المرء أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، وهو يوقن بأن النصر من عند الله، فهو بهذه النية يخطب بهذه اللغة تبركاً وتقرباً إلى الله ورسوله.
وقد عملت في الجندية ردحاً طويلاً من الزمن، وخطبت الضباط والجنود في الوحدات الصغرى والوحدات الكبرى بالتدريج، حسب تقدمي رتبةً ومنصباً. وكثيراً ما كانت الوحدة التي أقودها مؤلفة من غير العرب، كالأكراد مثلاً، فكنت ألقي خطابي بالعربي، وأضع مع مَن لا يفهم العربية مَن يترجم لهم كلامي نصّاً وروحاً، وهذا ما فعله طارق حين خطب بالعربية الفصحى في رجاله البربر، فلم ينس أن يجعل بينهم مَن ينقل إليهم كلماته، وليس ذلك صعباً بل هو سهل ميسور.
وكانت الحماسة للإسلام في البربر عظيمة جداً، وأكبر دليل على ذلك إنجازهم الرائع في الفتوح واستقتالهم في ميدان القتال، والاستقتال عادة يكون من أجل العقيدة. والحماسة العربية الفصحى متساوقة مع الحماسة للإسلام، لأن العربية الفصحى لغة الدين الحنيف، فلا يستغرب إقبال البربر على تعلم العربية الفصحى بحرص واندفاع، ليتفهموا القرآن وتعاليم الدين، وطالما رأينا مسلمين من غير العرب، يفهمون العربية ولا يحسنون الكلام بها، ومن الممكن أن يكون مسلموا البربر يومئذ كذلك.
ولا أدري إلى متى يبقى المؤرخون العرب والمسلمون، يثقون بما يقوله الأجانب أكثر من ثقتهم بما يقوله أبناء أُمتهم ودينهم؟
وفي دراستي لطارق بن زياد وفتح الأندلس، وهي هذه الدراسة التي تقرأ في هذا البحث، اكتشفت أن قسماً من مؤرخي الأجانب ادّعوا أنّ يليان شخصية أسطورية لا وجود لها في الواقع، فتابعهم في ذلك بعض مؤرخي العرب والمسلمين. وأخيراً جاء مَنْ يثبت، أن يليان شخصية حقيقية لا مجال للشك ولا للتشكيك فيها، فتابعهم في ذلك بعض مؤرخي العرب أيضاً، ورجع مَنْ بقي منهم على قيد الحياة عن متابعتهم الأولى!!!
ويزعم بعض مؤرخي الغرب من الأجانب، أن قصة اعتداء لذريق، على عفاف ابنة يليان وأثر ذلك في يليان من ناحية التعاون مع موسى بن نُصير وطارق بن زياد في فتح الأندلس، قصة أسطورية لا نصيب لها في الواقع، فتابعهم في ذلك كثير من مؤرخي العرب والمسلمين، مع أن القصة لا يُستغرب حدوثها قديماً وحديثاً، ولا أدري كيف يصدِّق مؤرخو العرب والمسلمين تشكيك المؤرخين الأجانب، ويكذِّبون المصادر العربية الإسلامية المعتمدة دون مسوِّغ منطقي معقول!!
بل لا أدري كيف يتابع قسم من مؤرخي العرب والمسلمين، ويقتبسون مزاعم قسم من المؤرخين الأجانب، وبخاصة ممن ثبت انحرافهم وتحريفهم، وثبتت عداوتهم العربية لغةً والإسلام ديناً، ولا يتابعون
المؤرخين العرب والمسلمين، فيقتبسون حقائقهم الثابتة، وبخاصة ممن ثبتت استقامتهم وعدلهم، وثبت إخلاصهم للعربية لغةً والإسلام ديناً!!
والمؤرخون العرب والمسلمون حقاً، يرصدون مؤتمرات: إعادة كتابة التاريخ، لقسم من البلاد العربية، فلا يُدعى إلى تلك المؤتمرات غير المستشرقين المنحرفين المحرِّفين المعروفين بعداوتهم للعربية لغةً والإسلام ديناً، وغير المستغربين المقلِّدين للمستشرقين، من مؤرخي العرب والمسلمين الذين لا صلة لهم بالعربية لغة والإسلام ديناً، وصلتهم بالمستشرقين المنحرفين المحرِّفين صلة عضوية أنستهم مؤرخي العرب والمسلمين القُدامى والمحدثين.
والتقيت أحدهم في المجمع العلمى العراقي، فسمعته يُباهي بإصدار مؤتمرهم مجلدات في التاريخ، فقلت له:(لقد أضفتم مجلدات جديدة إلى مجلدات كايتاني، فاتقوا الله في العرب والمسلمين يا أبناء العرب والمسلمين).
ومن المذهل حقاً، أن نجد من يشايع المنحرفين من المستشرقين في انحرافهم من مؤرخي العرب والمسلمين، ومن يوافقهم منهم على تحريفهم، يفخرون بالانحراف والتحريف، ما دام قادماً من الأجنبي، وكأن ذلك علامة من علامات التحرر وسِمة من سِمات الانطلاق، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
إنني مع الذين ينسبون هذه الخطبة لطارق، على الذين يرفضون نسبتها إليه، أو يشكون في نسبتها إليه، أو يشككون في نسبتها إليه، لأن الأدلة مع من ينسبون هذه الخطبة لطارق، على الذين يرفضونها. كما أعلم منزلة الذين ينسبون هذه الخطبة لطارق صدقاً واستقامة وعلماً وتثبّتاً، فما ينبغي رفض ما يقولون دون مسوّغ، وبخاصة إذا علمنا أن الذين شكوا في تلك الخطبة أو شكلوا بها ابتداءاً من المؤرخين الأجانب، ثم سرى شكهم وتشكيكهم إلى مؤرخي العرب والمسلمين بحسن نيّة أو بسوء نيّة، فما ينبغي أن نصدّق كل
مستورد من الخارج، وإلاّ خسرنا كل شيء دون أن نربح شيئاً.
إن الاستعمار الفكري من أخطر أنواع الإستعمار، ولم نفعل شيئاً إذا لم نطهِّر عقولنا ونفوسنا معاً منه إلى الأبد.