الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمين، وقد أدّى طريف ورجاله واجبهم الاستطلاعي المزدوج على أتم ما يرام، وكان استطلاعه تمهيداً لوضع خطة فتح الأندلس موضع التنفيذ العمليّ في ميادين القتال (1).
الإنسان
لم نَعُد نسمع عن طريف، بعد هذه السريّة الاستطلاعيَّة الموفقة التي قادها مستطلعاً أحوال الأندلس سكاناً وأرضاً للمسلمين، وبدأ عملياً تطبيق خطة فتح الأندلس، ومهّد لهذا الفتح تمهيداً موفقاً.
ولكنه ظهر مرة أخرى من جديد، على مسرح الحوادث في المغرب، ولعب دوراً خطيراً في الثورة التي قادها مَيْسَرة البربري المَدْغَرِي (2) في المغرب الأقصى (3)، وكانت أول حركة خارجية قام بها المغرب على المسلمين، وكان ذلك سنة سبع عشرة ومائة الهجرية (4)(735 م).
وقائد الثورة ميسرة المدغري، نسبة إلى قبيلة مَدْغَرة، وهي من القبائل البترية من البربر، يُلقبه بعض المؤرخين بـ: الفقير (5)، وربما كان هذا لقبه بين أتباعه نسبة إلى فقره وزهده، بينما يلقبه آخرون بـ:
(1) أنظر عن عملية طريف الإستطلاعية: نفح الطيب (1/ 253) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان (5/ 320)، وأنظر التاريخ الأندلسي (46).
(2)
أنظر التفاصيل في: ابن الأثير (5/ 190 - 194) والبيان المغرب (1/ 52 - 54).
(3)
المغرب الأقصى: في ساحل البحر المحيط غرباً إلى تلمسان شرقاً، ومن سبتة إلى مراكش ثمّ إلى سجلماسة وما في سمتها شمالاً وجنوباً، أنظر تقويم البلدان (122) وأحسن التقاسيم (215 - 236) والأعلاق النفيسة (347 - 353) والمسالك والممالك لابن خرداذبة (85 - 93) ومختصر كتاب البلدان (78 - 88) وصفة المغرب (2 - 29) والمسالك والممالك للاصطخري (33 - 38) وهو المملكة المغربية في الوقت الحاضر، أنظر تاريخ المغرب العربي (12).
(4)
ابن الأثير (5/ 191).
(5)
فتوح مصر والمغرب (218).
الحقير (1)، استهانة به، وهؤلاء خصومه من أعداء الخوارج. وكان الرجل في مبدأ حياته بسيطاً عمل سقّاء يبيع الماء في سوق القيروان، مركز الإشعاع الديني، حيث العلماء والفقهاء وأهل الزهد والورع والتقوى. وكان بين هؤلاء مَن يدعو إلى العودة بالإسلام إلى نقائه الأول، ويقف في وجه الإجراءات التي تخلّ بمبدأ: الإخاء والمساواة بين جميع المسلمين، فكانوا كما يبدو يروِّجون عن غير قصد لمبادئ الخوارج، أي لمبادئ الثورة على الدولة (2).
وقد كان ميسرة يسعى إلى تحقيق المساواة في الأعطيات بين العرب والبربر في الجيش الإفريقي، فقصد ميسرة على رأس وفد من المغاربة يبلغ حوالي عشرين رجلاً دمشق للفت نظر هشام بن عبد الملك إلى مطالب المغاربة، فطال مقامهم بباب الخليفة دون جدوى. وتتلخص مطالب المغاربة؛ في أن أمير المغرب عندما يغزو بجنده العربي وبالمغاربة، فإنه يحرم المغاربة من نصيبهم من الغنيمة ويقول:"هذا أخلص لجهادكم"، وإذا حاصر مدينة قال:"تقدَّموا" وأخّر جنده، وأراد ميسرة ومن معه أن يعرفوا: أعن رأي أمير المؤمنين هذا أم لا (3)؟!. وموضع الشكوى في هذه الرواية هو: تمييز العرب على المغاربة، مما يتضمن عدم تطبيق مبدأ المساواة والإخاء بين المسلمين، مما يعتبره بعضهم خروجاً على مبادئ الإسلام.
وعاد ميسرة وجماعته من الشام بعد أن خاب رجاؤهم في إنصاف الخليفة، فخرجوا من المعارضة الصامتة إلى الثورة المسلحة. وبدأت الثورة في طنجة في موطن مدغرة قبيلة ميسرة، حيث أعلن نفسه إماماً وبايعه الناس (4). وسرعان ما انضمت إلى قبيلته جميع قبائل المنطقة من غمارة ومكناسة وبرغواطة، وكانت دعوة الخوارج منتشرة في قبيلة برغواطة بفضل طريف
(1) البيان المغرب (1/ 52).
(2)
ابن الأثير (5/ 191).
(3)
أنظر التفاصيل في الطبري (4/ 254 - 255) وابن الأثير (3/ 92 - 93).
(4)
ابن الأثير (5/ 191) وفتوح مصر والمغرب (218).
رئيسها (1)، ولا نعرف متى اعتنق طريف مذهب الخوارج هل كان قبل نهاية القرن الأول الهجري، أم بعد نهايته في بداية القرن الهجري، ومن المرجح أن يكون في بداية القرن الثاني، لأن نهاية القرن الأول، كان بالنسبة للبربر ومنهم طريف، مليئاً بالأحداث الجسام، وعلى رأسها فتوح الأندلس، وما أعقبها من ترصين الفتوح، وتوطيد أقدام الفاتحين، وترسيخ جذور الفتوح والفاتحين. أما بداية القرن الثاني الهجري، فقد أصبح البربر أكثر تفرغاً، وبدا التناقض بينهم وبين العرب يطفو على السطح، فكان لا بد من أن يملأوا فراغهم بعمل ما، فكان هذا العمل تلك الثورة العارمة للبربر على العرب.
وبعد القضاء على ثورة ميسرة ومَن كان معه من الخوارج الصُّفريّة سنة أربع وعشرين ومائة الهجرية (2)(741 م)، تفرق أصحابه في البلاد، فلجأ طريف إلى بلاد تامَسْنا على ساحل البحر المحيط بين مصبّي وادي سَلا وأم الربيع حيث تستقر قبيلة برغواطة البربرية، وهناك تزعم بربر المنطقة من برغواطة (3).
وكان طريف من جملة قواد ميسرة ومَن جاء بعده في ثورة الخوارج الصُّفرية بالمغرب (4)، فلما انتهت تلك الثورة بالإخفاق، حلّ طريف ببلاد تامَسْنا (منطقة مدينة الرباط الحالية، وما حولها)، فقدَّمه البربر على أنفسهم، فوُلِّي أمرهم، وكان على دين الإسلام. وبقي أميراً على البربر في تلك البلاد - ليس على برغواطة حسب - بل على جميع بربر تلك البلاد، حتى تُوفي. وترك أربعة أولاد، فَوَلِيَ الأمر بعده صالح بن طريف، وكان مولده سنة عشر ومائة الهجرية (728 م)، فتنبَّأ فيهم، وشرع لهم ديانة، وسمَّى نفسه: صالح المؤمنين، وعهد إلى ابنه إلياس بديانته، وأمره ألاّ يُظهر ذلك إلاّ إذا قوي أمره، وحينئذٍ يدعو إلى مذهبه، ويقتل مَن خالفه من قومه. وخرج صالح إلى
(1) فتوح مصر والمغرب (254).
(2)
البيان المغرب (1/ 56).
(3)
البكري (138) والبيان المغرب (1/ 223).
(4)
البيان المغرب (1/ 57).
المشرق، وزعم أنه يعود إليهم في دولة السابع من ملوكهم، وزعم أنه هو المهدي الأكبر الذى يخرج في آخر الزمان لقتال الدجّال، وأنه يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوْراً، وتكلم لهم في ذلك بكلام كثير نسبه لموسى عليه السلام ولسَطيْح الكاهن (1) وغيره (2).
وقد كان ابتداء أمر صالح خلفاً لوالده طريف سنة أربع وعشرين ومائة الهجرية (3)(741 م)، أي في سنة عودة طريف من حرب الخوارج متعاوناً معهم وقائداً مرؤساً لهم في ثورتهم على الدولة، ويبدو أن طويفاً لم تطل مدّته رئيساً على تلك المنطقة من بلاد المغرب، فخلفه ابنه صالح الذي استغل شدّة جهل (4) البربر في تلك المنطقة النائية، فزعم لهم ما زعم، وصدَّقوا مزاعمه لجهلهم في حينه.
لقد كان طريف أبا ملوك برغواطة البربرية، وهو من ولد شمعون بن يعقوب بن إسحاق عليهم السلام (5)، ومن الواضح أن طريفاً لم يكن يعرف هذا النسب، ولم ينتسب إليه، وأن أولاده الذين حكموا البربر بصفة دينية منحرفة، هم الذين ادّعوا لأنفسهم هذا النسب، لإعطاء انحرافهم الديني مسحة النّسب إلى الأنبياء، قد يقنع البربر في جهلهم حينذاك، ولكنه لا يقنع البربر الذين كانوا على درجة من العلم بهذا الانحراف، لذلك اقتصر انحراف عَقِب طريف على برغواطة، فنُسب هذا الانحراف إلى قبائل الإقليم، فعرف بـ: زندَقة بَرْغَواطة (6).
(1) أحد كهّان اليمن في الجاهلية، واسمه ربيع بن ربيعة، أنظر ابن الأثير (1/ 418 - 419).
(2)
أنظر التفاصيل في البيان المغرب (1/ 223 - 224)، وانظر البكري (138) والاستبصار (198).
(3)
البيان المغرب (1/ 57).
(4)
البيان المغرب (1/ 57) والاستبصار (197).
(5)
البيان المغرب (1/ 223)، واسحاق هو ابن إبراهيم عليه السلام.
(6)
د. سعد زغلول عبد الحميد - تاريخ المغرب العربي - (417) دار المعارف بالقاهرة - =
وكان سبب انضمام طريف إلى الخوارج وثورتهم، هو انحراف بعض ولاة الدولة عن العدل ومبادئ الإسلام، فقد تولّى عُبَيْدَ الله بن الحَبْحَاب (1) إفريقية والمغرب كله لهشام بن عبد الملك بن مروان. واستخلف ابن الحبحاب على طنجة ابنه إسماعيل، وجعل معه عمر بن عبد الله المُرادِي (2).
وأساء عمر بن عبد الله المرادي السِّيرة، وتعدى في الصدقات والعُشُر، وأراد تخميس البربر، وزعم أنهم فَيْءٌ للمسلمين، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله، وإنما كان الولاة يُخَمِّسون مَن لم يُجِبْ للإسلام، فكان فعله الذميم هذا سبباً لنقض البلاد ووقوع الفتن العظيمة (3). فلما سمع البربر بذلك نقضوا الصلح على ابن الحبحاب، وتداعت عليه بأسرها مسلمها وكافرها، وعظم البلاء. وقدّم مَن بطنجة من البربر على أنفسهم مَيْسَرة السقّاء ثم المدغريّ، وكان خارجياً وصُفريّاً وسقّاء، وقصدوا طنجة، فقاتلهم عمر بن عبد الله فقتلوه، واستولوا على طنجة، وبايعوا مَيْسَرة بالخلافة، وخوطب بأمير المؤمنين (4)، وكثر جمعه بنواحي طنجة من البربر وقوي أمره، وكان ذلك سنة سبع عشرة ومائة الهجرية (5)(735 م).
والخوارج الصُّفرية، هم أتباع زياد بن الأصفر، وهم في آرائهم أقل تطرّفاً من الأزارقة وأشدّ من غيرهم (6). وقد خالفوا الأزارقة في مرتكب الكبيرة،
= 1965 م.
(1)
عبيد الله بن الحبحاب: مولى بني سلول، وكان رئيساً نبيلاً، وأميراً جليلاً، بارعاً في الفصاحة والخطابة، حافظاً لأيام العرب وأشعارها ووقائعها، أنظر البيان المغرب (1/ 51).
(2)
ابن الأثير (5/ 191).
(3)
البيان المغرب (1/ 51 - 52).
(4)
يقصد بها: الإمامة، كما هو معروف عند الخوارج، وخاصة في ذلك الوقت المبكر.
(5)
ابن الأثير (5/ 191).
(6)
أنظر ما جاء عن المبادئ التي تجمع الخوارج كتاب: تاريخ المذاهب الإسلامية (1/ 75 - 78).
فالأزارقة اعتبروه مشركاً، ولم يكتفوا بتخليده في النار، بل زادوا أنه يُعد مشركاً. أما الصُّفرية فلم يتّفقوا على إشراكه، وقد اعتنق مذهبهم كثير من الصالحين شرقاً وغرباً (1).
وبالنسبة لطريف، فإن ثورة البربر كانت عارمة، لم يتخلف عنها أحد، فما كان بإمكانه أن يتخلف وحده عنها، وقد جرفته روح الجماعة. كما أن شعار الثورة في مقاومة الانحراف لا غبار عليه، فلا يرضى الإسلام أن يُخَمّس البربر المسلمون ولا يرضى المسلمون الصالحون من الفقهاء والمحدثين بهذا التّخميس، كما أن التفرقة بين المسلمين على أساس الجنس لا يقرُّه الإسلام كما هو معروف.
أما اتِّهام طريف بانحرافه عن الإسلام (2)، فقد كذبه مَن اتَّهمه بهذه التهمة في كتابه الذي اتّهمه فيه (3)، كما لم تأخذ بهذا الاتهام المصادر المعتمدة الأخرى، فقد نسبت زندقة برغواطة إلى صالح ابن طريف لا إلى طريف (4)، فالتهمة الموجهة إلى طريف ولدت ميِّتة، لم يصدقها أحد، ولم يأخذ بها أحد.
ويبدو أن طريفاً، كان قادراً حازماً (5)، كان كريماً مضيافاً شهماً غيوراً مؤمناً تقياً، ولو لم تكن هذه الصفات الإنسانية فيه، لما ارتضته برغواطة رئيساً عليها، ثم أصبح على قبائل بلاد تامسنا في المغرب الأقصى رئيساً عليهم من الناحيتين الدينية والدنيوية في آن واحد وبلا منازع.
وعلى الرغم من أن المصادر المعتمدة، بخلت في الحديث عنه إنساناً
(1) الشيخ محمد أبو زهرة - تاريخ المذاهب الإسلامية (1/ 88 - 89) - القاهرة - بلا تاريخ.
(2)
البيان المغرب (1/ 57).
(3)
البيان المغرب (1/ 224).
(4)
البكري (134) والاستبصار (197).
(5)
فجر الأندلس (66).