الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالجبال" (1). وحسب حزب غيطشة، أن الفرصة قد سنحت لهم، لإعلان واحد منهم ملكاً مكان الطاغية المهزوم (2)، وفعلاً بذل وَقِلَة (أخيلا) جهداً كبيراً لكي يستصدر من مجلس طليطلة قراراً، باعتباره ملكاً على الأندلس، خلفاً للملك لذريق، ولكن الأمر لم يستقر له، لأن الشائعات كانت تملأ الجو بأن لذريق لم يُقتل ولا يزال حياً يرزق. وعمل حزب غيطشة من جهة أخرى، على تشجيع طارق، للاستمرار في التقدم فاتحاً، حتى يتمّ لهم القضاء على لذريق وأنصاره نهائياً، وما كان طارق بحاجة إلى تشجيع أحد للنهوض بالفتح، فقد سار قدماً في تطبيق خطته العامة لفتح الأندلس. أما يليان، فقد ثبت بقواته في ناحية الجزيرة الخضراء (3).
ذلك هو الموقف العام بالنسبة للمسلمين من جهة، وبالنسبة للقوط من جهة أخرى، قبل أن يستثمر المسلمون انتصارهم على القوط في المعركة الحاسمة، لتحقيق أهدافهم في الفتح.
ب - فتوح المدن الثانوية:
كانت المعركة الحاسمة، وما جرى بعدها من مطاردة طارق للقوط الهاربين، حول مدينة شَذُوْنَة، دون أن يفتح المسلمون هذه المدينة. ويبدو أن أهلها ومَن لاذ بها من القوط الهاربين وحامية المدينة من الجيش القوطي المحلي، قد قرروا الدفاع عن المدينة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وبدأ
(1) نفح الطيب (1/ 163) برواية الرازي.
(2)
Saavedra.op.cit.p.76، وللرازي إشارة هامّة تؤيّد هذا الرأي، فقال:"إن يليان قال لطارق: قد فضضت جيوش القوم ورعبوا، فاصمد لبيضتهم، وهؤلاء أدلاء من أصحابي مهرة، ففرِّق جيوشك معهم في جهات البلاد، واعمد أنت إلى طليطلة، فاشغل القوم عن النظر في أمرهم والاجتماع إلى أولي رأيهم "، مما يدلّ على أنّ كبار القوط كانوا يدبرون شيئاً في عاصمتهم، وأن يليان نصح طارقاً بالإسراع إلى طليطلة رأساً ليتدارك الأمر، انظر نفح الطيب (1/ 114) برواية الرازي.
(3)
البيان المغرب (2/ 10).
طارق يجني ثمار جهاده وانتصاره في وادي لَكُّةْ، فبدأ بحصار شذونة ( Sidonia) وفتحها عَنْوَة بعد حصار.
ومضى إلى ميدنة المَدُور (1)( Almodovar) وهي مدينة مَوْرور ( Moron)(2) فافتتحها أيضاً.
ثم عطف طارق على مدينة قَرْمُوْنَة (3)( Carmona) ففتحها أيضاً.
واتجه طارق نحو مدينة إِشْبِيْلِيِة (4)( Sevilla، Seville) فتم له فتحها صلحاً، إذ صالحه أهلها على الجِزْيَة.
وزحف طارق إلى مدينة إِسْتَجّة (5)، فعسكر حول المدينة، وضرب حولها الحصار. وقد أبدت حامية المدينة، مقاومة مستميتة للدفاع عنها، وكانت المدينة تمثل المركز الأول للمقاومة، إذ كانت فلول القوط قد تجمعت هناك (6). وبعد معركة قاسية، حقق المسلمون نصراً آخر على الرغم من مقتل وجرح العديد من رجالهم (7)، وغنموا في هذه المعركة العديد من الخيول
(1) المدور: حصن حصين مشهور بالأندلس، بالقرب من مدينة قرطبة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 417)، وانظر ابن الشباط (109) برواية عريب، ونفح الطيب (1/ 260) برواية الرازي.
(2)
التاريخ الأندلسي (13) وجغرافية الأندلس وأوروبا (64).
(3)
ورد اسمها في معجم البلدان (7/ 62): قرمونية، وهي كورة بالأندلس، يتصل عملها بأعمال إشبيلية غربي قرطبة وشرقي إشبيلية، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 62)، وانظر: تاريخ الأندلس (135 - 138) نص ابن الشباط حول فتحها.
(4)
إشبيلية: مدينة كبيرة عظيمة بالأندلس، ليس بالأندلس أعظم منها، وبها قلعة ملك الأندلس، وهي قريبة من البحر، يطلّ عليها جبل (الشرف)، وهو جبل كثير الشجر والزيتون، وهي على شاطئ نهر عظيم تسير فيه المراكب، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 254) وتقويم البلدان (174 - 175).
(5)
إستجة: اسم كورة متصلة بأعمال (ريّة)، بينها وبين قرطبة عشرة فراسخ، وأعمالها متصلة بأعمال قرطبة، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 224).
(6)
أخبار مجموعة (9) ونفح الطيب (1/ 244).
(7)
ابن الشباط برواية عريب (112) والرازي (67 - 68) وابن القوطية (9) وأخبار مجموعة (9 - 10) وفتح الأندلس (7 - 8) وابن الأثير (4/ 513) والبيان المغرب برواية الرازي =
التي كانوا في حاجة ماسة إليها، وتفرق من بقي من فلول القوط إلى المدن الأندلسية الأخرى.
ومن الطريف، أن طارقاً ظفر بالعِلْج صاحب إسْتَجَّة، فقد كان مُغترّاً سيئ التدبير، فخرج إلى النهر وحده لبعض حاجاته، فصادف طارقاً هناك قد أتى لمثل ذلك، وطارق لا يعرفه. ووثب عليه طارق في الماء، فأخذه وجاء به إلى معسكر المسلمين، فلما كاشفه اعترف له بأنه أمير المدينة، فصالحه طارق على ما أحبّ، وضرب عليه الجزية، وخلّى سبيله، ولعلّه عاون في استسلام المدينة للمسلمين، فقد كانت في موقع حصين، يساعدها على الدفاع المدبّر، كما كان فيها حماة من القوط الهاربين ومن أهل المدينة بأعداد لا يستهان بها، ساعدهم على الدفاع المديد، ولكن المسلمين فتحوها أخيراً بعد أن تكبدوا خسائر لا يستهان بها من الشهداء والجرحى.
وازدادت خشية القوط من المسلمين، وبشكل خاص عندما تبين لهم أن هيمنة طارق أصبحت مؤثرة وفعّالة في مناطق عديدة من بلاد الأندلس. وقد كان بعضهم يعتقد أول الأمر، أن هدف طارق، هو الحصول على الغنائم والعودة إلى الشمال الأفريقي، كما فعل طريف بن مالك من قبله، ولكنهم حين رأوا تقدمه السريع، هجروا مناطق السهول من البلاد، ولجأوا إلى الجبال وبقية المدن الحصينة الأخرى (1). وأصبحت حالة القوط ممزّقة بعد موت لذريق (2)، نتيجة من نتائج انتصار المسلمين الحاسم، وعمد دوق ( Duke) كل منطقة إلى الاستقلال بناحيته، وضرب الخوف والارتباك أطنابها في صفوف القوط، فاتخذت البلاد المهمّة مثل قُرْطُبَة وطَلَيْطُلَة وماردة والبيرة لها حكاماً ...............................................................
= (2/ 8) ونفح الطيب برواية الرازي (1/ 260).
(1)
أخبار مجموعة (9 - 10) وابن الأثير (4/ 513) والبيان المغرب (2/ 8 - 9) برواية الرازي، ونفح الطيب (1/ 260) برواية الرازي.
(2)
Chr. 754،P.147. (no.36) حولية سنة 754 م.
مستقلِّين (1).
والواقع أن لهذه المدن، ولغيرها، في أيام لذريق وأسلافه من ملوك الأندلس، حكاماً مستقلين، ولكنهم كانوا يرتبطون بالملك ويخضعون لأوامره وتوجيهاته، فلما قضى المسلمون على لذريق، كما قضوا على معظم جيشه الذي هو جيش المملكة المسئول عن حمايتها والدفاع عنها، وليس جيشاً محلياً مسئولاً عن حماية منطقة معينة والدفاع عنها، لم يبق في الأندلس ملك يجمع شمل الحكام تحت سيطرته ورايته، ولم يبق جيش للملك يفرض سيطرته على الحكام وعلى مناطقهم، ويعين الملك على فرض سيطرته، ويسيطر على أرجاء البلاد كافة ويجمع شملها ويوحِّد كلمتها، فأصبح حكام المدن الأندلسية والمناطق الأندلسية بطبيعة الحال حُكاماً مستقلين، كل واحد منهم هو المسؤول الأول عن حماية مدينته أو منطقته والدفاع عنها، إذ لم يبق من يدافع عنهم بعد القضاء على الملك وجيشه، بفضل انتصار المسلمين على القوط في معركة وادي لَكُّهْ الحاسمة، وليس كما يحاول إظهاره بعض المؤرخين الأجانب، بأنه أثر من آثار يليان وحزب غيطشة في القوط، لا أثر من آثار انتصار المسلمين على القوط.
واستبان لطارق كثرة مَن معه من المجاهدين، وصعوبة الاستفادة منهم جميعاً في حملة واحدة، وضعف مقاومة القوط المندحرين، فاستمع إلى نصيحة يليان بأن يفرِّق جنده في بعوث جانبية قائلاً له:"قد فتحت الأندلس، فخذ من أصحابي أدلاّء، ففرِّق معهم جيوشك، وسر معهم إلى مدينة طُلَيْطُلَة" ففرق جيوشه من إِسْتِجَّة (2).
ووجه طارق من إِسْتِجَّة سرايا جنده إلى عدّة جهات، فبعث جيشاً بقيادة مُغِيث الرُّومي مولى الخليفة الوليد بن عبد الملك لفتح مدينة قُرْطُبَة ( Cordoba) في سبعمائة فارس، فاستطاع مغيث فتح المدينة دون مشقة كبيرة بفضل
(1) الرازي نشر جاينجوس (69)، وقارن: Livemore.P.288
(2)
فتح الأندلس (8).
شجاعته وصدق المجاهدين المسلمين (1).
وأرسل جيشاً إلى مدينة مالَقَة (2)( Malaga) وآخر إلى كورة إَلُبِيرَة (3)( Elvira) حيث افتتح مدينتها غَرْناطة (4)( Granada) وكذلك إلى كورة تُدْمير (5)( Tudmir) وكانت قاعدتها أُورْيُولة (6)( Orihuela) التي حلّت مدينة مُرْسِيَة (7)( Murcia) محلّها قاعدة لكُوْرَة مُرْسِيَة بدلاً من تُدْمير (8).
وقد حدثت معارك عديدة في هذه المناطق، فاستطاع المسلمون فتح عدة مدن فيها (9)، يقول الرازي: "ففرّق طارق جيوشه من إِسْتِجَّة، فبعث مغيثاً الرومي مولى الوليد بن عبد الملك إلى قُرْطُبَة - وكانت من أعظم مدائنهم - في سبعمائة فارس، لأن المسلمين ركبوا جميعاً خيل العجم، ولم يبق فيهم راجل، وفَضَلت عنهم الخيلُ، وبعث جيشاً آخر إلى مَالَقَة، وآخر إلى غَرْناطة
(1) نفح الطيب (1/ 261).
(2)
مالقة: مدينة بالأندلس عامرة من أعمال (ريّة)، سورها على ساحل البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية، انظر التفاصيل في معجم البلدان (7/ 367).
(3)
إلبيرة: كورة كبيرة من الأندلس، واسم مدينة أيضاً، بينها وبين قرطبة تسعون ميلاً، وفيها عدة مدن منها قسطيلية وغيرهما، انظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 322) و2/ 330).
(4)
غرناطة: أقدم مدن كورة إلبيرة من أعمال الأندلس وأعظمها وأحسنها وأحصنها، يشقها نهر قَلُوم ويعرف الآن بنهر حدارة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (6/ 280).
(5)
تدمير: كورة بالأندلس تتصل بأحواز كورة جَيَّان، وهي شرقي قرطبة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (2/ 371 - 372)، وانظر ما جاء حول الفتح في: البيان المغرب (2/ 9 - 11) والإحاطة (1/ 101) ونفح الطيب (1/ 259 - 265).
(6)
أوريولة: مدينة قديمة من أعمال الأندلس من ناحية تدمير بساتينها متصلة ببساتين مرسية، انظر معجم البلدان (1/ 373).
(7)
مرسية: مدينة بالأندلس من أعمال تدمير، انظر التفاصيل في معجم البلدان (1/ 24 - 25).
(8)
الروض المعطار (34 و 62 و 181) ونفح الطيب (1/ 259 - 265).
(9)
التاريخ الأندلسي (64).
مدينة إِلْبِيْرَة، وسار هو في معظم الجيش إلى كورة جَيَّان يريد طُلَيْطلة" (1).
ثم ينقل المَقَّري عق الرازي ما يتعلق بفتح تُدْمير، فيقول:"وأما مَن وُجِّه إلى مَالَقَة ففتحوها، ولجأ علوجها إلى جبال هناك ممتنعة، ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجه إلى إِلْبِيْرَة، فحاصروا مدينتها غَرْناطة، فافتتحوها عَنْوَة"(2)، "ومضى الجيش إلى تُدْمِير، وتُدْمِير: اسم العِلْج صاحبها، سُميت به، واسم قصبتها: أُورْيُولَة، ولها شأن في المَنَعَة، وكان ملكها عِلْجاً داهية"(3). وهذا يعني، أن سرية مَالَقَة التحقت بعد فتح مَالَقَة بسرية إِلْبيْرَة، وافتتحا تُدْمِير سويّة، فتكون على هذا عدد السرايا التي أرسلها طارق ثلاثاً، بدلاً من أربع (4).
وقد اعترض بعض المؤرخين المحدثين، على عملية طارق في فتح جنوب شرقي الأندلس وكبار مدائنه مثل مالَقَة وغرْناطة، وأُورْيُولَة، وادّعوا أن ذلك غير صحيح، لأن المسلمين لم يفتحوا هذه النواحي إلاّ في ولاية عبد العزيز بن موسى بن نُصير (5). وذكروا: أنه لا يستبعد أن يكون طارق قد بعث سرايا صغيرة إلى هذه النواحي وغيرها لمجرد الاستطلاع لا للفتح، وكان الجند عنده قد كثروا، ففرّق أعداداً منهم في جماعات من رجال يليان يدلونهم على الطريق (6).
(1) نفح الطيب (1/ 260 - 261) والإحاطة في أخبار غرناطة، ابن الخطيب (1/ 101).
(2)
نفح الطيب (1/ 263) والإحاطة (1/ 101).
(3)
نفح الطيب (1/ 264).
(4)
التاريخ الأندلسي (65).
(5)
انظر ترجمته في كتابنا: قادة فتح الأندلس والبحار.
(6)
فجر الأندلس (77).