الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الرّجل
كان طارق مع موسى بن نصير في رحلته الطويلة من الأندلس إلى دمشق، وقد احترق طارق بنار موسى كما ذكرنا، فسحب من قيادته في الأندلس، وأصبح مع موسى رجلاً بلا غد، له رصيد في الفتح وتاريخ، ولكن السّلطة تخلّت عنه إلى الأبد.
وقد توفي موسى سنة سبع وتسعين الهجرية (1)(718 م) وهو في الحج برفقة الخليفة سليمان بن عبد الملك (2)، وكانت وفاة موسى بوادي القُرى (3)، ولم يعد من حجه إلى دمشق.
ولا ندري هل كان طارق مع موسى في رحلة حجه، أم بقي في دمشق؟ كما لا ندري أبقي في دمشق بعد رحيل موسى عن هذه الدنيا، أم رحل طارق إلى إفريقية أو الأندلس؟.
وعلى كل، فكان لطارق عَقِب لهم ذكر في الأندلس، وكانوا ينكرون ولاء طارق لموسى إنكاراً شديداً (4)، ويذكر قسم منهم أنه من قبيلة صَدِف العربية من حضرموت، ويذكر قسم آخر، أنه من موالي قبيلة صَدِف وليس بمولى موسى بن نصير. كما يذكر قسم منهم، أن طارقاً من بني ليث من قُضَاعة (5)،
(1) تاريخ العلماء ورواة العلم بالأندلس (2/ 144) وجذوة المقتبس (317) وبغية الملتمس (442) والحلة السيراء (2/ 334) والعبر (1/ 115 - 116) وشذرات الذهب (1/ 113) ونفح الطيب (1/ 254).
(2)
الإمامة والسياسة (2/ 101).
(3)
وادي القرى: وادٍ بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، كثير القرى، أنظر التفاصيل في معجم البلدان (8/ 375).
(4)
نفح الطيب (1/ 254) برواية الرازي.
(5)
أنظر: نفح الطيب (1/ 254) برواية الرازي و (1/ 239) وأخبار مجموعة (6).
كما ذكرنا ذلك في الحديث على: نسبه وأيامه الأولى، فلا ندري هل عاد طارق إلى الأندلس بعد موت موسى، أم رحل إليها عقبه، أو رحل إليها قسم منهم، ومتى؟
ومن المرجح أن عقبه هم الذين رحلوا إلى الأندلس، لأن طارقاً لو رحل إليها، لذكر رحيله المؤرخون، ولما سكتوا عنه.
ومن الواضح، أن طارقاً نَفْزاوِيّ من البربر ومن إفريقية، كما ذكرنا ذلك من قبل، ولم يدّعي أنه عربي، ولكن من جاء بعده من ولده ادّعى ذلك.
وقد ولد مسلماً، إذ كان أبواه وجده مسلمين، فهو من أسرة اشتهرت بسبقها إلى اعتناق الإسلام، إذ أسلم والد طارق أيام عُقبة بن نافع، والتحق طارق بعد وفاة والده بخدمة المسلمين، وكان إذ ذاك صغير السن، ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الحماسة والغيرة على الدين الإسلامي، جعله من أشد المقربين إلى موسى بن نصير (1). ولا نعلم بالضبط متى تم اتصال طارق بموسى ولا بمكانه، ولكننا نعلم أنه ولاّه مقدمته في فتح مدينة طنجة، فلما فتحت هذه المدينة ولاّه موسى على إدارة وقيادة هذه المدينة، وكان ذلك في حدود سنة تسعين الهجرية (708 م) وأبقى معه عدداً قليلاً من العرب لنشر الإسلام بين البربر (2).
وقد ظهر اسم طارق لأول مرة، بعد خروج موسى من القيروان لفتح مدينة طنجة، فولاّه موسى مقدمته، مما يدل على تبادل الثقة بين موسى وطارق، ولا تكون هذه الثقة إلاّ نتيجة لتجربة عملية طويلة، نجح فيها طارق بالنسبة لموسى، فحصل على ثقة موسى الكاملة به، فولاّه قيادة مقدّمته، فهل كانت
(1) الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي - فتح العرب للأندلس - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (43 - 44) العدد الثاني - السنة العاشرة - رمضان 1397 هـ - مؤسسة مكة للطباعة والإعلام.
(2)
ابن حبيب (222) وفتح مصر والمغرب (204 - 205) وابن الأثير (4/ 540) ووفيات الأعيان (5/ 320).
هذه التجربة التي نجح فيها طارق في إفريقية والمغرب حسب، وقد مكث موسى فيها سنوات قليلة، أم أن هذه التجربة سبقت قدوم موسى إفريقية والمغرب، واستمرت بعد ذلك في إفريقية والمغرب؟؟
والجواب على ذلك صعب، لأن المصادر المعتمدة لا تيسر الجواب الواضح، إذ لا نصوص تدلّ عليه أو تشير إليه، فمثل هذه الثقة لا تتكوّن بسهولة وسرعة، فمن المحتمل أنّ طارقاً اتصل بموسى في مصر قبل توليه، إفريقية والمغرب، وليس ذلك ببعيد الاحتمال، ولكن لا دليل عليه من النصوص المتيسرة في المصادر المعتمدة.
على كل حال، نجح طارق إدارياً في ولايته على طنجة، فقد أصبح موثوقاً به من البربر بخاصة، ومن أهل المدينة بعامة، وأصبح موضع حبّهم وولائهم، وقد تخطت شعبية طارق حدود ولايته إلى ما جاورها من الولايات، فكان سبباً من أسباب استمالة يُليان إلى المسلمين، مهما تكن الأسباب الأخرى، فاتصل يُليان بطارق، وكان طارق صلة ارتباط يُليان بموسى بن نصير، وسبباً من أسباب تسليم سَبْتَة للمسلمين سلماً بدون قتال، ومعاونة يُليان وتعاونه مع المسلمين في فتح الأندلس، كما ذكرنا ذلك.
ولا مجال للشك، فى أن اتصال يُليان بطارق وموسى، وتسليم سبتة للمسلمين سلماً، بعد أن استعصى عليهم فتحها بالقتال، وتعاون يُليان مع المسلمين ومعاونته لهم في فتح الأندلس، كان حسنة من حسنات طارق، تُعرف له وتُذكر بالشكر والعرفان.
كما كان التفاف البربر حول قيادته في طنجة أولاً، وفي الأندلس ثانياً، دليلاً على تمتعه بالخلق الكريم.
ولا أحد يدري أين ولد طارق؟ ولا أيامه الأولى قبل اتصاله بموسى بن نصير؟ ولا أيامه بعد رحيل موسى عن هذه الدنيا إلى جوار الله؟ كما لا يعرف أحد عن عدد أولاده ولا أسمائهم، ومتى جرى رحيل بعضهم أو رحيلهم إلى الأندلس، ولا يدري أحد هل رحل أولاد طارق إلى الأندلس، أم رحل
أعقابهم، كل ذلك غير معروف! كما لا يدري أحد متى مات وأين مات، وكم كان عمره يوم توفي؟.
وقد ذكرنا نص خطبة طارق في رجاله، قبل أن يخوضوا المعركة الحاسمة، معركة وادي لَكُّهْ، وتروى لطارق كذلك أبيات من الشعر، لا بأس من ذكرها هنا، وهي:
ركبنا سَفِيناً بالمجاز مُقَيَّراً
…
عسى أن يكون الله مِنّا قد اشترى
نُفُوساً وأمولاً وأهلاً بجَنَّةٍ
…
إذا ما اشْتَهَيْنَا الشَّيء منها تَيَسَّرا
ولسنا نُبالي كيف سَالت نُفُوسُنا
…
إذا نحن أدركنا الذي كان أَجْدَرا
وهذه الأبيات مما يُكتب لمراعاة قائلها ومكانته، لا لعلوّ طبقتها (1). وهي ليست من الشعر البليغ، ولكنها من النظم الموزون المقفّى، وهي إن دلّت على شىء، فإنما تدل على إيمان طارق العميق بالإسلام، ومبلغ حبّه للجهاد في سبيل الله واستعداده للتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله بالمال والنفس والأهل. ومن الواضح أن هذه الحماسة الدينية لطارق، كانت وراء اندفاعه الشديد في طريق الفتح.
وهذه الأبيات، في معانيها مقتبسة من قوله تعالى:((*إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي الْتَّوْرَاةِ وَالْلإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*)) (2).
"وكان طارق حسن الكلام، ينظم ما يجوز كتبه"(3)، إنه كان بليغ العبارة في نثره، قوي الأسلوب، متين التراكيب، كما يشهد على ذلك خطابه التاريخي، وإنه كان ينظم الشعر، ومهما قيل في ضعف شعره وقلّته، فإن نثره
(1) أنشد في المُسْهَب وابن اليَسَع في المُعْرِب لطارق من قصيدة قالها في الفتح، أنظر نفح الطيب (1/ 215).
(2)
الآية الكريمة من سورة التوبة (9/ 111).
(3)
نفح الطيب (1/ 231) برواية بشكوال.
وشعره يدلاّن على معايشة العرب معايشة طويلة، فلا يُستبعد أن يكون قد رحل إلى مصر أو بلاد الشام أو كان مع موسى في البصرة يوم كان هناك، ولكن لا دليل يثبت تلك المعايشة إلاّ نثره ونظمه، وقد تكون تلك المعايشة تمت في إفريقية مثلاً (تونس) في أحد حواضرها كالقيروان، التي كانت يومذاك تعج بالعرب الفاتحين وأبنائهم وذويهم ومواليهم.
ومن ثقة موسى به قائداً وإنساناً، وثقة البربر به ومحبتهم له واعتمادهم عليه:"لو أمر أهلها بالصلاة إلى أيّ قبلة شاءها لتبعوه، ولم يروا أنهم كفروا"(1)، وعدم اتهامه بنزاهته، يمكن أن نستنتج، أنه كان مسلماً حقاً، قوي الإيمان، راسخ العقيدة، مجاهداً صادقاً، قوياً أميناً، نزيهاً لم يتلوث بمال حرام، ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا عقاراً، دمث الأخلاق، حليماً كريماً سخياً، محباً للناس محبوباً منهم، شهماً غيوراً.
ولا أعرف قائداً فاتحاً، له في تاريخ الفتوح ما لطارق في تاريخ الفتوح، بخل عليه التاريخ إنساناً كما بخل على طارق الإنسان، فاقتصر تاريخه على مجده في الفتح، وهو مجد عظيم، دون أن يشمل تاريخه إنساناً، وقد عوّض عليه مجده في الفتح ما فاته إنساناً، وحسبه ما فتح عوضاً مجزياً.
(1) نفح الطيب (4/ 12).