الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د - سير القتال:
فرّق نهر بَرْباط بين الجيشين المتحاربين مدى أيام ثلاثة، شُغلت بالمناوشات البسيطة بين الجيشين، وقد كان جيش القوط في الضفة الشمالية من النهر، وكان طارق في الضفة الجنوبية منه. وفي اليوم الرابع التحم الجيشان، ونشبت بينها معركة عارمة. وظهر لذريق في وسط الميدان في حلل ملوكية، فوق عرش تجرّه الخيول المطهّمة، وهو منظر أثار سخرية جيبون (1) ولاذع تهكّمه، إذ يقول عنه:"ولقد يخجل ألاريك (مؤسس دولة القوط) عند رؤية خلفه لذريق، متوّجاً باللآلى، متَّشِحاً بالحرير والذهب، مضطجعاً في هودج من العاج"(2).
وأظهر البربر المسلمون من غُمارة قدرة عظيمة على القتال، فقد كانوا من المختارين من بين أفراد تلك القبيلة المعروفين بالإقدام والشجاعة، ومن المدرّبين على التّعابي العسكرية أحسن تدريب. وكان طارق قد قدّم نفراً من السُّودان (3) أمام جيشه، ليتلقوا بما عُرف عنهم من الصبر والثبات الصدمة
(1) جيبون: أدورد جيبون (1737 - 1794 م)، مؤرخ إنجليزي قضى طفولة سقيمة، ولم يدرس دراسة منظّمة، ولكنه كان نهماً في قراءاته. تعلّم بأكسفورد ولوزان قام بزيارة لروما أمدّته بفكرة تأليف كتابه الضخم الخالد:(تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها) الذي ظهر في ستة مجلدات (1776 - 1783)، فحظي على الفور بالثناء والانتشار. كان شكل جيبون غير الوسيم مثاراً للسخرية بين الأوساط العالية التي غشيها. قابل بالسخط والاستنكار الثورة الأمريكية، ولكنه أظهر رضاءه عن الثورة الفرنسية التي خضبت أديم فرنسا بالدماء الغزيرة، انظر الموسوعة العربية الميسرة (675).
(2)
تشير معظم الروايات الإسلامية إلى هذا المنظر، فيقول الطبري نقلاً عن الواقدي:"فزحف الأدرينوق في سرير الملك، وعلى الأدرينوق تاجه وقفازه وجميع الحلّة التي كان يلبسها الملوك"، انظر الطبري (6/ 468) ونفح الطيب (1/ 112) والبيان المغرب (2/ 9).
(3)
لم يذكر هؤلاء السود من المؤرخين المحدثين إلا سافدرا الإسباني، مع أنهم قاموا =
الأولى من الجيش القوطي، التي تكون عادة صدمة مدبّرة تؤثر في المعنويات للمتقاتلين، فترتفع معنويات المنتصر، وتنهار معنويات المنكسر.
وأظهر فرسان القوط قدرة قتالية عظيمة في أوائل المعركة، وثبتوا لضغط العرب والبربر والسُّودان المسلمين ثباتاً عظيماً، وكبّدوا المسلمين خسائر بالأرواح كبيرة.
وكان قوّاد الفرسان من القوط، أعداء لذريق، غاضبين عليه وناقمين منه، وكان يليان ورجاله نشطين طوال المعركة في تخذيل الناس عن لذريق وصرفهم عنه، وكانوا يؤكِّدون للذين حول لذريق أن المسلمين لم يُقبلوا إلى هذه البلاد للفتح والاستقرار، بل للقضاء على لذريق والظّفر بالغنائم، وأنهم إن خذلوا لذريق اليوم صفت لهم بعد ذلك. ولم يلبث أثر هذا الكلام أن ظهر بين رجال لذريق، وكان كثير منهم كارهاً له ناقماً عليه، فلم يلبث فرسانه وهم خيرة جنده، أن خرجوا من المعركة وتركوه لمصيره (1).
واستمرت المعركة هائلة مضطرمة بين الجانبين أربعة أيام، ثم انهزم القوط وقُتل منهم خلق عظيم، أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبّسة بالأرض. (2)
= بدور خطير جداً في الفتح. Saavedra. op. cit.P.71
(1)
تجمع المصادر العربية على ذلك، وتؤكد أنّ خيانة لذريق وسط المعركة، إنما وقعت بناء على تدبير سابق محكم بين آل غيطشة والمسلمين: وقد ناقش سافدرا هذا الموضوع، وانتهى إلى أنّ الذي قام بترتيب المؤامرة كانا أخوي غيطشة: شيشبرت بن أخيكا، وأبة بن أخيكا، وكان أحدهما على خيل لذريق في هذه المعركة. وقد تعجّب سافدرا من أنّ لذريق يعهد في أمر مهم كهذا لواحد من أعدائه، ولكن فاته أن بعض المصادر العربية تذكر أنّ لذريق سعى في الصلح مع آل غيطشة قبل المعركة الحاسمة، وهذا واضح من قول ابن القوطية "فلما دخل طارق بن زياد الأندلس أيام الوليد بن عبد الملك، كتب لذريق إلى أولاد الملك غيطشة - وقد ترعرعوا وركبوا الخيل - يدعوهم إلى مناصرته وأن تكون أيديهم واحدة على عدوِّهم
…
"، ابن القوطية- افتتاح الأندلس (2 - 3)، وانظر الهامش (1) من كتاب فجر الأندلس (74).
(2)
المقري برواية الرازي (1/ 121).
ويقال: إن انتصار طارق كان بسبب تعرّض لذريق للخيانة، وتذكر الحوليات اللآتينية، أن المسلمين عبروا إلى الأندلس، وهزموا الجيش القوطي بسبب خيانة أولاد غيطشة (1). وتشير بعض المصادر العربية أيضاً إلى أن مباحثات جرت في طنجة قُبيل الفتح بين طارق بن زياد وأحد أولاد غيطشة (2). بينما يقول آخرون إن هذه المباحثات جرت قُبيل بدء المعركة بوقت قصير، عندما أصبح طارق فعلاً في إسبانيا، فعرض أولاد غيطشة، أن يتخلوا عن لذريق، ويؤيّدوا طارقاً برجالهم، شريطة أن يضمن لهم كل ممتلكات والدهم التي تبلغ ثلاثة آلاف ضيعة، وهي التي سُميت فيما بعد بصفايا الملوك، وذلك بعد أن يُخضع إسبانيا جميعها للمسلمين (3).
وقد أورد مؤرخون عرب آخرون، تفسيرات أكثر احتمالاً وواقعية، بشأن هذه المسألة، ولا تعرض مصادرهم لأية مباحثات بين طارق وأولاد غيطشة. ويقتصر الأمر على أن أولاد غيطشة وبعض نبلاء القوط، قرّروا التخلي عن لذريق في ساحة المعركة. لأنهم اعتقدوا أن المسلمين لا ينوون الاستقرار في البلاد، بل إنهم جاءوا من أجل الغنائم، وبعد أن يندحر لذريق، فإن العرش سيعود إلى أصحابه الشرعيين، أي أولاد غيطشة (4).
وقد كان الجيش القوطي نفسه مؤلفاً في معظمه من العبيد المجندين (5)، وهم من المرتزقة المضطرين على القتال اضطراراً، إذ لا ناقة لهم في الحرب ولا جمل، فهم يقاتلون بقدر خشيتهم لأسيادهم، وبقدر ما تدرّ عليهم مهنتهم من مكاسب مادية، قد لا تُسمن ولا تغني من جوع في أغلب الأحيان.
(1) Alfonso 111.p.612 و Chronicon Albeldense،p.193
(2)
البيان المغرب (2/ 6).
(3)
افتتاح الأندلس (5) والروض المعطار (9 - 10) ونفح الطيب (1/ 258).
(4)
أخبار مجموعة (7 - 8) فتح الأندلس (6 - 7) وابن الأثير (4/ 563) وابن الشباط برواية عريب (106 - 107) والنويري (22/ 27) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 231 - 232 و 257 - 258).
(5)
Thompson.pp.265-267،cit. LV،V.3.4.7.19
ويبدو أنه لم يكن هناك أي أمل في أن يتمكن هذا الجيش القوطي من مقاومة الهجوم الإسلامي، وأن دور أسرة غيطشة في ترجيح كفة المسلمين، قد تعرّض إلى كثير من المبالغة (1). وكانت صفوف الجيش القوطي تتألف من أتباع آل غيطشة وأتباع حلفائهم من الزعماء والأمراء الناقمين على لذريق، والذين تظاهروا بالإخلاص في وقت الخطر، وكلهم يتحيّن الفرصة للإيقاع بالملك المغتصِب لذريق (2)، فكانت الخيانة تمزق جيش القوط شرّ ممزّق. واستمال يليان والأسقف أوباس وهما في صف المسلمين كثيراً من جند القوط، وبثّا بدعايتهما في الصفوف الموالية للذريق كثيراً من عوامل الشقاق والتفرقة، فأخذ كل أمير يسعى في سلامة نفسه (3). وكان ذلك كافياً ليوقع الفوضى في جيش لذريق، فاضطرب نظامه ولاذ مَن بقي منه بالفرار وأسياف المسلمين في أقفيتهم، وقد قتل من القوط في تلك الأيام عدد عظيم، ولم يعثر للذريق على أثر. وتذهب المصادر العربية إلى أنه أراد أن يعبر وادي البرباط على عجل، فغرق فيه، ولم يعثر المسلمون إلاّ على خفّه (4). وتقول بعض الروايات النصرانية، إنه بقي في ميدان القتال حتى قُتل مدافعاً عن عرشه وأُمّته، وتقول بعضها: إنه فرّ عقب الهزيمة على ظهر جواده، ولكنه غرق في مياه النهر. وتميل الروايات الإسلامية إلى تأييد غرقه، وتقول: إن ملك القوط مات غريقاً، وإنهم عثروا على جواده وسرجه الذهبي، ولم يعثروا على إنسان بجثته. وتزعم بعض الروايات النصرانية، أن لذريق استطاع أن يلوذ بالفرار، ولكنه قُتل بعد ذلك، أو انه فرّ إلى بعض الأديار في البرتغال
(1) الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (169).
(2)
ابن الأثير (4/ 563) ونفح الطيب (1/ 121) ودوزي (1/ 272).
(3)
دولة الإسلام في الأندلس (44).
(4)
لا يقطع ابن عذارى في البيان المغرب بموت لذريق، ويكتفى بقوله:"ولم يعرف للذريق موضع ولا وجدت له جثة، وإنما وجد له خفّ مفضّض، فقالوا: إنّه غرق، وقالوا: إنّه قُتل، والله أعلم"، انظر البيان المغرب (2/ 10) وفجر الأندلس (74).
وترهّب، وعاش متنكراً حيناً من الدهر. وينفرد صاحب كتاب: الإمامة والسياسة، بين المشارقة برواية أخرى، وهي: أن طارقاً ظفر بجثة لذريق، فاحتزّ رأسه، وبعث به إلى موسى بن نُصير، وبعث به موسى بن نصير إلى الخليفة في دمشق، ويتابعه في ذلك مؤلف أندلسي هو صاحب كتاب: تحفة الأنفس (1)، هذا إلى روايات كثيرة.
والمرجح من هذه الروايات كلها، أن لذريق فقد حياته في الموقعة التي فقد فيها ملكه، وأنه مات قتيلاً أو غريقاً على الأثر (2).
تلك مجمل ما جاء في المصادر والمراجع، حول أهم أسباب انتصار طارق على لذريق، آثرت ذكرها باختصار غير مُخِلّ، مع الإشارة إلى مصادرها ومراجعها، لكي أناقش آراءها، وأُبدي ما أراه حولها.
والمتتبِّع لسير القتال في هذه المعركة الحاسمة، يجد أن القتال كان ضارياً بين الجانبين المتحاربين: المسلمين من جهة، والقوط من جهة أخرى. فثبات البربر من غُمارة، وإظهارهم القدرة العظيمة على القتال، دليل على أن زخم القوط في المعركة كان شديداً، ولا يقاتل بهذه الشدّة رجال تنخر بين صفوفهم الإشاعات الضارّة، ويتآمرون على السُّلطة القائمة المتمثلة بِلِذريق ملكاً وقائداً عاماً.
وقد أظهر فرسان القوط في اليوم الرابع من المعركة، - بعد أن حمي الوطيس - قدرة قتالية عظيمة، وثبتوا لضغط المسلمين الشديد، ولا يمكن أن يُظهر مثل هذه القدرة متآمر أو مقاتل تعصف بإرادته القتالية الإشاعات
(1) الإمامة والسياسة (2/ 75 - 76) وانظر دولة الإسلام في الأندلس (45).
(2)
يقول ابن الأثير (4/ 214): إنه غرق في نهاية المعركة، ويقول المقري في نفح الطيب (1/ 121): إنّه رمى بنفسه إلى النهر مختاراً، وقد ثقلته الجراح، ويقول ابن الأبار في الحلة السيراء (31) إنهم عثروا على جواده وسرجه الذهبي وإحدى نعليه، وغاب شخصه فما وجد، وهذه هي أيضاً رواية: أخبار مجموعة (6)، أنظر التفاصيل في الفقرة (2) من الهامش في كتاب: دولهْ الإسلام في الأندلس (45).
الضّارة.
كما أن تصدّي السُّودان المسلمين البطولي العزوم للقوط، يدلّ على أنّ القوط كانوا يقاتلون في المعركة كما يقاتل الرجال.
وكان تعداد جيش المسلمين في هذه المعركة - كما ذكرنا - اثنى عشر ألف مجاهد، استشُهد منهم في المعركة ثلاث آلاف مجاهد، أي أنّ خمسة وعشرين بالمائة من جيش المسلمين استُشهدوا في هذه المعركة، وهي نسبة عالية جداً، إن دلت على شىءٍ فإنما تدل على شدّة مقاومة القوط في المعركة، وأنهم قاموا بواجبهم في القتال. فقد قسم طارق الغنائم بعد هذه المعركة على تسعة آلاف من المسلمين (1)، أي أن هؤلاء هم الذين سلموا، وقُتل الباقون.
أما التركيز على إشاعة أن المسلمين جاءوا من أجل الغنائم إلى الأندلس وليس من أجل الفتح، فهم قدموا ليرحلوا ولم يأتوا ليبقوا، فمن الصعب تصديقها، لأن ورثة غيطشة اشترطوا أن يستعيدوا قراهم وضياعهم بعد الفتح، فلماذا يشترطون مثل هذا الشرط على المسلمين، إذا كان المسلمون سيعودون بالغنائم إلى قواعدهم في الساحل الأفريقي، ويعود العرش وملك الأندلس إلى ورثة غيطشة الشرعيين؟!
ثم إن المسلمين قدموا إفريقية من أمد طويل، بدأ قبل سبعين سنة (أي سنة 22 هـ) ولم يرحلوا عنها، بل توسّعوا في فتوحهم بالتدريج، فلماذا يرحلون عن الأندلس بعد فتحها؟
ومن الواضح أن أخبار المسلمين في شمالي إفريقية، كانت معروفة لدى حكّام الأندلس بخاصة، وأهل الأندلس بعامة، فهم لا يمكن أن يتقبلوا بسهولة الإشاعة التي تزعم: أن المسلمين جاءوا ليرحلوا لا ليبقوا.
ومع ذلك، فيمكن أن يعتذر بمثل هذه الإشاعة الهارب، عن جريمة هربه من المعركة، مع الادِّعاء بأنّ هربه كان نكاية بالملك لذريق وانتصاراً لآل
(1) نفح الطيب (1/ 163)، وانظر فجر الأندلس (75).
غيطشة والناقمين عليه من النبلاء، وإرضاءً للمسلمين المنتصرين.
وإذا كان قادة فرسان القوط، قد خرجوا من المعركة بمن معهم من الفرسان - وهم خيرة جند لذريق - وتركوه لمصيره، فمن أين غنم المسلمون الخيل؟ لقد غنم المسلمون خيلاً كثيرة، حتى لم يبق منهم راجل، فمن أين غنم المسلمون هذا العدد الضخم من الخيول، إذا كان الفرسان القوط قد انسحبوا من المعركة بالتواطئ مع المسلمين؟ وهل يمكن أن يغنم المسلمون خيول مَن تواطأوا معهم على نصرتهم؟
وقد قتل في المعركة شيشبرت أخو غيطشة، وكان أبرز قادة فرسان القوط، فكيف قُتل وهو قد تخلى عن لذريق طمعاً في الغنيمة والسّلامة؟!
ومع ذلك، فلا يمكن إنكار أن آل غيطشة ومَن يشايعهم من النبلاء، كانوا ناقمين على لذريق الذي اغتصب عرش غيطشة، فهم يطمعون أن يستعيدوا عرشهم بزوال لذريق، وبرحيل المسلمين عن الأندلس، وكان رحيل المسلمين عن الأندلس من الأماني التي يتعللون بها ولا يعتقدونها.
وقد ورد نص في: أخبار مجموعة، يفيد هذا الاتجاه ويشير إليه:" ..... ومعهم يليان - أي مع المسلمين - في جماعة من أهل البلد، يدلّهم على العورات، ويتجسس لهم الأخبار، فأقبل إليهم رُذريق (لذريق)، ومعه خيار أعاجم الأندلس وأبناء ملوكها، فلما بلغتهم عدّة المسلمين وبصائرهم، تلاقوا بينهم - أي أولاد الملوك - فقال بعضهم لبعض: هذا ابن الخبيثة قد غلب على سلطاننا، وليس من أهله، وإنما كان من سفالنا، وهؤلاء قوم لا حاجة لهم بإيطان بلدنا، إنما يريدون أن يملوا أيديهم، ثم يخرجون عنّا، فانهزم بنا بابن الخبيثة إذا لقينا القوم، فأجمعوا لذلك. وكان رُذريق قد ولّى شيشبرت ميمنته وأبة ميسرته، وهما أبناء غيطشة (1)، الذي كان ملكاً قبله، وهما رأس مَن أدار عليه الانهزام"(2)، فالاتفاق على الهزيمة لم تكن مع
(1) هما إخوة غيطشة وليسا ابنيه، كما ذكرنا ذلك من قبل.
(2)
أخبار مجموعة (7 - 8).
طارق، بل كانت بينهم لا يعرف عنها طارق شيئاً، لذلك اقتتل الطرفان المتحاربان اقتتالاً شديداً (1)، حتى ظنّوا أنه الفناء (2)، فلم تكن بالغرب مقتلة أعظم منها (3)، واستمرت المعركة ثمانية أيام، ولا يمكن أن تستمر معركة من المعارك ثمانية أيام، وهي مدّة طويلة جداً بمقاييس ذلك الزمن، إلاّ إذا كانت المعركة ضارية إلى أقصى الحدود، وإلاّ إذا كان الجانبان المتحاربان قد بذلا جهوداً قتالية جبارة في المعركة:"فالتقيا يوم الأحد، وصدق المسلمون القتال، وحملوا حملة رجل واحد على المشركين، فخذلهم الله وزلزل أقدامهم، وتبعهم المسلمون بالقتل والأسر، ولم يعرف لملكهم لذريق خبر، ولا بانَ له أثر، فقيل: إنه ترجّل وأراد أن يستتر في شاطئ الوادي، فصادف غديراً فغرق فيه فمات"(4). في حين تذكر بعض المصادر، أن لذريق فرّ من الميدان، والتقى بالمسلمين في معركة أخرى، شمالي الأندلس، فقتل فيها (5)، لكن هذا الرأي ضعيف لا تدعمه الأدلة والمصادر المعتمدة الأخرى.
يمكن أن نستنتج، بعد عرض ما جاء في المصادر والمراجع العربية وغير
العربيّة، ومناقشة ما جاء فيها من معلومات، أنّ المعركة الحاسمة بين المسلمين بقيادة طارق، والقوط بقيادة لذريق، قد بذل خلالها الجانبان المتحاربان أقصى جهودهما المادية والمعنوية لإحراز النصر، وقد شُغل الجانبان بالمناوشات الاستطلاعية لمدة ثلاثة أيام، وفى اليوم الرابع حمي الوطيس بين الجانبين، واستمرت المعركة شديدة عارمة أربعة أيام، تكبّدت
(1) أخبار مجموعة (8) والبيان المغرب (7).
(2)
البيان المغرب (7).
(3)
البيان المغرب (7).
(4)
تاريخ الأندلس (48) و (135)، والبيان المغرب (2/ 7 و 8 و 9) ونفح الطيب (1/ 242 و 249 و 258 - 259).
51) تاريخ الأندلس (29 وما بعدها).
خلالها الجانبان خسائر فادحة بالأرواح، مما يدل على ثباتهما الرّاسخ العنيد في القتال. وقد ثبت قلب القوط ثباتاً أفضل من ثبات الميمنة والميسرة، ويبدو أن قائدي الميمنة والميسرة اللذين كانا مع لذريق في الظاهر وعليه في الباطن، آثرا الانسحاب في اليوم الرابع من الاصطدام العنيف بين الجانبين، وفي اليوم السابع من حصول التماس المباشر بينهما، فأصبح قلب القوط يقاتل وحده، مما جعل المسلمين يكتسحونه بسهولة، لأن قواتهم ركزت عليه، وكانت من قبل تقاتله وتقاتل الميمنة والميسرة. وقد استطاع آل غيطشة تنفيذ مؤامرتهم على لذريق، بعد أن كبد المسلمون ميمنة القوط وميسرتهم خسائر فادحة، بحيث أوشكت الميمنة والميسرة على الانهيار تحت ضغط قوات المسلمين، إذ لم يكن بالامكان تنفيذ مؤامرتهم قبل أن يكبد المسلمون الميمنة والميسرة خسائر فادحة بالأرواح، لأن لذريق وهو في قوته لا يمكن أن يسكت على المتآمرين، إذ يقابل تآمرهم بالقوة، ويصفي المتآمرين جسدياً قبل أن ينجحوا في تصفيته.
ولا أرى، أن آل غيطشة كان لهم صلة بطارق، ولا علم لطارق بمؤامرتهم، إذ لم يثبت أنهم اتصلوا به قبل المعركة أو في أثنائها، فقد كتموا نواياهم، ولم يظهروها لأحد، وإلاّ سهل على لذريق اكتشافها في الوقت المناسب، وسهل عليه وضع حد نهائي لها قبل فوات الأوان.
وحين وجد لذريق أن المسلمين، قد أجهزوا على القلب الذي يقوده، لم يكن أمامه إلاّ الهرب تحت ضغط مطاردة عنيفة، فغرق في وادي الوحل أو قتل، والنتيجة واحدة هي أنه لم يبق بعد تلك المعركة الحاسمة على قيد الحياة.
وهكذا خسر لذريق، في هذه المعركة جيشه، كما خسر روحه.
وقد طارد المسلمون فلول القوط بعد انسحابهم من ميدان المعركة مطاردة عنيفة. فأبادوا من لم يستسلم من القوط، وبذلك جرت معارك محلية بين المسلمين وبين القوط، هي معارك استثمار الفوز، في جنوبي مدينة شَذُوْنَة
وشماليها، فسُمِّيت هذه المعركة الحاسمة بعدّة أسماء مختلفة، هي أسماء تلك المعركة الحاسمة وأسماء تلك المعارك المحليّة: معارك المطاردة، مثل معركة البحيرة، ومعركة وادي بكّه، ومعركة وادي لكه، ومعركة وادي البرباط، ومعركة شريش (1)، ومعركة السّواني، ومعركة السّواقي (2)، فهي معركة شَذُوْنَة بأسرها التي تقع في جنوبي غربي الأندلس (3).
ولا مجال لتصديق، أن لذريق هرب بعد هذه المعركة نحو الشمال، واصطدم بالمسلمين بموقعة جديدة (4)، لأن لذريق خسر قوّاته الضاربة في معركة وادي لكّه، ولم تكن لديه قوات احتياطية ليقاتل بها المسلمين، كما أن مطاردة المسلمين بعد المعركة كانت شديدة، بحيث لم يفسحوا المجال لنجاة الهاربين من ساحة القتال وتجمعهم بقيادة واحدة مسئولة، لتجديد القتال مع المسلمين من جديد.
وجرى القتال بالنسبة للقوط، بالنظام الخماسي للقتال: المقدمة، والمؤخرة، والميمنة والميسرة، والقلب، وهو نظام أصلح لإجراء الحركة المرنة بسهولة ويسر، وأكفل للثبات بوجه الهجمات، وأمنع لمباغتة العدو.
أما المسلمون، وكان أكثرهم من البربر، فقاتلوا بأسلوب: الكر والفر. قال ابن خلدون: "إن الكر والفر هو قتال البربر من أهل المغرب "(5)، ولا يزال البربر يقاتلون بهذا الأسلوب حتى اليوم، في قتالهم غير النظامي،
(1) شريش: مدينة كبيرة من كورة شذونة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5/ 260).
(2)
فتوح مصر والمغرب (9 - 10) وابن القوطية (7) وفتح الأندلس (7) وأخبار مجموعة (206) وابن الأثير (4/ 562) وابن الشباط برواية عريب (106) والبيان المغرب برواية الرازي (8) والنويري (22/ 27) والحميري (169) وابن خلدون (4/ 254) ونفح الطيب برواية ابن حيان (1/ 249) و (1/ 258).
(3)
الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (168).
(4)
Saavedra.pp.68-69 - F.Simonet.op.cit.،p.23-29. وانظر الرازي، نشر سافيدرا ص: 154.
(5)
ابن خلدون (2/ 823).
المرتبط بقياداتهم غير النظامية. أما الذين ارتبطوا بالجيوش الحديثة، فقد أصبحت أساليبهم القتالية أساليب حديثة، أسوة بغيرهم كما هو معروف.
وأسلوب الكر والفر، هو أن يهجم المقاتلون بكل قوتهم على العدو: النّشّابة منهم، والذين يقاتلون بالسيوف ويطعنون بالرماح، مشاةً وفرساناً، فإن ثبت لهم العدو أو أحسّوا بالضعف نكصوا، ثم أعادوا تنظيمهم وكرّوا، وهكذا يكرّون ويفرّون حتى يكتب لهم النصر أو الاندحار (1).
واستطاع المسلمون إحراز النصر على القوط، بالرغم من تمتع القوط بمزايا عسكرية يتفوقون بها على المسلمين، منها أن تعداد القوط كان ثمانية أضعاف تعداد المسلمين، ومنها أن غالبية جيش القوط كانوا من الفرسان، وكان غالبية جيش المسلمين من المشاة، والفرسان يتفوقون على المشاة بسرعة الحركة وبالتأثير الحاسم في القتال، وكان القوط في حالة إدارية: إعاشةً وكساءً وغطاءً، متميزة على المسلمين الذين كانوا في حالة إدارية متواضعة. كما أن قيادة القوط لم تكن واهنة كما يتوهم قسم من المؤرخين، فقد كان لذريق يهتمّ بالمظاهر الخلاّبة، ولكنه كان طموحاً شجاعاً، كما أنه قائد ميداني، دأب على قيادة رجاله بنفسه، ولم يتخل عن قيادتهم لغيره من قادته المرءوسين. فكان يقود رجاله في حرب الخارجين عليه من الأسبان في الشمال، قبل إنزال المسلمين إلى برّ الأندلس، وقاتل المسلمين بنفسه، كما أنه لم يكن من العائلة المالكة في أسبانيا، فحملته قيادته وثقة الشعب به إلى القضاء على الملك غيطشة وتولى الملك خلفاً له بقيادته لا بنسبه وحسبه، فليس لذريق قائداً متخلّفاً، بل كان قائداً لامعاً بحق، فكانت قيادة القوط قيادة قادرة ذات كفاية عالية، كما كانت قيادة المسلمين كذلك متمثلة بطارق بن زياد.
إن انتصار المسلمين على القوط، ليس بسبب تعرض لذريق للخيانة، كما
(1) الرسول القائد (104) ط3، وعقبة بن نافع الفهري (50) - ط4.
تردّد ذلك بعض المصادر عن حسن نيّة أو عن سوء نيّة، بقصد إخفاء سبب النصر الحق، فقد انتصر المسلمون بعقيدتهم الراسخة، فكانوا يتميزون على القوط بمعنوياتهم العالية المتميزة، وهذه المعنويات العالية هي التي تجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله.
وليس معنى ذلك، أن الجيش القوطي خلا من الخيانة، فقد ظهرت الخيانة بعد اندحار القوط لا حين كانوا أقوياء، وبعد الاندحار تكثر الادّعاءات ويكثر الأدعياء.
وقد كان البربر قبل إسلامهم مستعبَدين للروم وللأسبان، فتبدل حالهم بالإسلام من حال إلى حال.
وكان سر انتصار المسلمين في معاركهم الحاسمة: في غزوة بدر الكبرى، والقادسية، واليرموك، ونهاوند، هو سر انتصارهم في معركة وادي برباط أو وادي لَكُّهْ، فبالإسلام انتصروا، وقد رفعت تعاليم هذا الدين معنويات المجاهدين قادةً وجنوداً، وبعثت فيهم إرادة القتال التي لا تُقهر.
وكان هذا السر وراء فتوحاتهم شرقاً وغرباً، فقضت على الفرُس، وهزمت الرُّوم، وسارت رايات النصر من بلد إلى بلد، فأصبحت بلاد المسلمين لا تغيب عنها الشمس أبداً.
وبالإضافة إلى أن هذا الدين رفع المعنويات وبعث إرادة القتال، فقد أعطى الفرصة لظهور القادة المتميزين والجنود المتميزين أيضاً، لتستكمل حلقات عوامل النصر المعنوية والمادية المعروفة، وهي: المعنويات العالية، والقيادة المتميزة، والجنود المتميزين. وكانت تلك الحلقات متوفرة في المسلمين الفاتحين، فقد كان طارق قائداً متميزاً حقاً، برزت سماته القيادية طيلة أيام المعركة الحاسمة، كما برزت في إصراره الشديد على المطاردة المتّصلة التي لا هوادة فيها. كما كان جنود طارق جنوداً متميزين حقّاً، برزت سماتهم القتالية في إدامة التماس بالقوط، وإدامة قتالهم ليلاً ونهاراً بلا كلل ولا ملل، بدون إعطاء فرصة للقوط للاستراحة من عناء القتال، ودون أن يكترثوا
بتصاعد أعداد الشهداء الذين تساقطوا في ميدان القتال، فقد استشهد واحد من كل أربعة، ولابد أن يكون الجرحى أضعاف الشهداء فانتصروا على القوط بالشهداء المقبلِين، وانهزم القوط بالقتلى المدبِرين، وهذا هو الفرق بين الجيش الذي يتحلى بالمعنويات العالية المرتكزة على العقيدة الراسخة، والجيش الذي لا يتحلى بالمعنويات العالية.
وكما فتحت معركة القادسية الحاسمة أبواب العراق للمسلمين الفاتحين، وفتحت معركة اليرموك الحاسمة أبواب بلاد الشام لهم، وفتحت معركة نَهاوَند أبواب بلاد فارس، وفتحت معركة بابليون الحاسمة أبواب مصر للفاتحين، فقد فتحت معركة وادي لَكُّهْ الحاسمة أبواب الأندلس للمسلمين الفاتحين، فكانت معارك الفتح التي تلتها معارك ثانوية، لأنها معارك: استثمار الفوز، كما يطلق على أمثال تلك المعارك الثانوية التي تجرى بعد المعركة الحاسمة، معارك: استثمار الفوز، في المصطلحات العسكرية الحديثة، لأن الفاتحين يقاتلون فيها جيوشاً محليّة، تتّسم بصغر حجمها، وقلّة تدريبها، وجمع كثير من جنودها على عجل قسراً وبدون استعداد كافٍ ولا تدريب مناسب، وبضعف قيادتها المحلية، وبانهيار معنويات رجالها.
وليس معنى ذلك، أن المقاومة في معارك استثمار الفوز، مقاومة واهنة باستمرار، بل قد تشتد المقاومة أحياناً، كما سنلمس ذلك في معارك فتح الأندلس، التي تلت معركة الفتح الحاسمة، ولكن النصر يكون مضموناً، مهما اشتدت المقاومة وتأخر الفتح أياماً معدودات، ولن يكون ذلك شيئاً مذكوراً إلى جانب النصر المحقق المضمون.
وقد فتح طارق شطر الأندلس، وفتح موسى بن نُصير شطر الأندلس، ولكن ينبغي أن يعزى فضل الفتح كله لطارق، لأنه المنتصر في المعركة الحاسمة لفتح الأندلس، وما فتحه طارق، وما فتحه موسى، بعد تلك المعركة الحاسمة، كان من نتائج معارك استثمار الفوز، التي تثمر باستمرار النصر المحقق المضمون.