الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنّ أحد الخلفاء - وكان ديِّناً - قانوناً يقضي ببناء مسجد في كل اثني عشر بيتاً، ونفذ قانونه، إلاّ أن الظرف والّلطف كان هو الغالب. وأكثر الناس كانوا يلتزمون بالعبادات الإسلامية التي ينص عليها الإسلام، ولكن لم يكونوا متعمقين في أصولها النسكية التقشفيّة. فلا دمشق ولا بغداد وحتى إنطاكية في أوج مجدها، لم تكن مركزاً للسرور مثل ما كانت قرطبة، في حين كانت أوروبا متدثرة بالخرافات الموحشة، ولم تكن في الدنيا قط بلاد أسعد ولا أجمل ولا أنعم عيشة من الأندلس في القرون الثلاثة: العاشر والحادي عشر والثاني عشر للميلاد.
وأعظم مزية يمكننا أن نمدح بها عرب الأندلس، هو أن نذكر أنّ شغفهم بالشهوات واستهتارهم بالّلذات، كان متّحداً على نسبة سواء مع ولوعهم بالتمتع بالعلوم العقلية والمعارف الدقيقة المحقّقة التي كانت منتشرة بصورة أوسع مما كانت عليه في روما أو أثينا. ولم يكِن في الدّنيا كلها، ولا هو كائن اليوم، بلد يكرم فيه العلماء والأدباء ويُكافَؤون بالجوائز مثل ما كان في الأندلس. ولم يكن في الدنيا بلد غير الأندلس، يحوي خزائن الكتب العجيبة والمدارس والكليّات العامرة، وجمعاً عظيماً من خيرة الكتّاب البلغاء، وذوقاً عاماً في المباحث العقلية مثل ما كان في الأندلس، والحلقات أو الدوائر الصغيرة من الرجال والنساء المهذبين الذين كانوا في إيطاليا يبحثون في الفنون والآداب في بدء النهضة، إنما كانت تقليداً ضئيلاً للعرب.
4 - علوم العرب وآدابهم:
هناك حقيقة محزنة ودليل يملأ النفس غمّاً وأسىً، يدلّ على أنّ الفكر البشري لا يزال ناقصاً وبعيداً عن الترقّي الحقيقي، وذلك أن الذين يعرفون كيف يعيشون في كل عصر قليل، وبعد مضي ملايين السنين على وجود الإنسان، وستة آلاف سنة على حدوث المدنيّة والشعور بالوجود، ونحن الآن نختصم في ما هو المثل الأعلى للمعيشة، وأكثر الناس لا يعرفون كيف
يستعملون نعمها استعمالاً موزوناً. وتبعة ذلك معظمها يعود إلى النصرانية، ولكن الطبقة العليا من اليونان والمثقفين والمفكرين وصلوا إلى قريب من المثل الأعلى. وعندهم أنّ الحكمة كلّ الحكمة أن نعرف كيف نعيش، ذلك إنما يكون بترقية الجسم والعقل والأخلاق بعناية سواء وحماسة سواء. لا يفضّل واحد من هذه الثلاثة على قسيميه بشيء، وحتى أثينا كانت فيها معركة مستمرة لا نهاية لها بين الفلاسفة الإشراقيين أتباع زينو، أعداء الاستهتار الّلد وخصومهم السايبراتيين أنصار الاستهتار بالشهوات وزعمائه، حتى أبو قراط نفسه لم يكن يعطي للجسم حقه خلافاً لما يعتقده فيه عامة الناس. ولا نقول: إنّ العرب وصلوا إلى درجة الكمال، لكن مثلهم الأعلى كان معقولاً وممتازاَّ، والنصارى الذين يطعنون فيهم ينقبون في تواريخهم الواسعة، وفي الأكثر في التواريخ الخسيسة التي ألّفها أعداؤهم الإسبانيون غير الموثوق بهم، حتى إذا ظفروا على سبيل الندور بشيءٍ من القسوة أو الخيانة أو الفجور، أخذوه فرحين. وأطالوا في شرحه، بقصد التشّفي والتّشنيع. وكلّ مدنية تشعّ على ثلاثين مليوناً من النفوس السعيدة المغتبطة، لابد أن يوجد فيها أمثال تلك الهفوات النادرة، ولكن إنما يستغلها ويتجاهل الأخلاق الحسنة التي كانت غالبة عليهم، المؤلفون المخادعون الذين يُضلِّون مَن يقرأ كتبهم، بذكر أعمال استثنائية وقعت على سبيل الشذوذ والندور. لقد قرأت جميع التآليف التي أُلّفت في سيرة العرب مستندة على ما كتبه المعاصرون لهم، فرأيت يقيناً لا ريب فيه، أن أخلاقهم كانت سامية. ومن فضائلهم أنّهم تجاهلوا الزهد والتقشف، وتمتعوا في حياتهم بجميع اللذات التي يقضي بها الاستعمال الحكيم للنساء والشعر والموسيقى. وأما غيرتهم على شرفهم وشهامتهم، فهناك ألف قول وألف عمل يجليها لك في أكبر التآليف التي أُلّفت في تاريخهم، وقد ظهرت آثارها في شهامتهم المعروفة في الحروب.
وليس ظهورها بأقلّ من ذلك في تمسامحهم مع السكّان والزوّار من النصارى ما داموا مستقيمين في سلوكهم، وفي معاملتهم ليهود بمقتضى
الأخوة التامة، وكرمهم الذي هو كنار على عَلَم على المرضى واليتامى والأرامل والفقراء، وكانوا يلتزمون بأوامر القرآن الإنسانية في الإحسان إلى المرضى والمحتاجين. وقد التزموا بتلك الأوامر تديناً وكرماً أكثر من التزام النصارى بمواعظ عيسى في مجلس وعظه بالجبل. وإذا درست التواريخ حقّ دراستها، ترى أنما يتبجّح به النصارى من كونهم متمسكين بأعمال الخير والأخوّة التي جاء بها الوحي، تراه يتضاءل ويتلاشى أمام ما عمله العرب المسلمون من ذلك. كان عصر ملوك الرواقيين أتباع زينو في روما عصراً عظيماً في الخيرات والمبرّات، وكان عصر المسلمين في الأندلس عصراً عظيماً في الإحسان والبر وأعظم منهما عصرنا هذا الحالي. وأما نصيب النصارى من عمل الخير والإحسان إلى المحتاجين من النوع البشري في سجلات التاريخ في القرون التسعة عشر الأخيرة فضئيل ناقص إلى حد يجعله مسخرة للساخرين. والحاصل أن الطاعنين في العرب لا يستطيعون أن يغمزوهم إلاّ بالانهماك في الشهوات، ولكن ذلك العيب المزعوم، سيكون مزية فخر إذا علمنا أنّ العرب كانوا يزنون مطالب النفس والعقل كليهما بقسطاس مستقيم، وجيلنا الحاضر على ما ورثه من تجارب ستة آلاف سنة من سير حكامها وروايات أديانها، حتى اجتمع له في ذلك ما لم يجتمع لجيل قبله، منقسم إلى فريقين - ما عدا البؤساء الكومستوكيين (1) -: فريق يجدّون في تهذيب النفس وترقية العلوم العقلية والفنون العالية، ويحتقرون الشهوات ويواجهونها بوجه عبوس. والفريق الثاني قوم ذوو دماء حارة، انهمكوا في الخمر والفسق، وأطلقوا لأنفسهم العنان، وأعطوها أقصى ما تريد من
(1) طائفة في أمريكا أسّسها أنتوني كومستوك ( Anthony Comstok)(1844- 1915) ، وكان متقشفاً، وكان جندياً في الحرب الداخلية الأمريكية، وكان يريد أن يصلح أخلاق الجيش، ثم دخل في سلك الإنشاء وصار زعيماً للثورة على فساد الأخلاق، ولكنه كان جاهلاً، لأنه كان يعظم أمر الجزئيات ويهمل الكليات، ومن المعلوم أنه لم ينجح فيما حاوله.
شهواتها، حتى صاروا كالأنعام بل أهم أضلّ سبيلا. وكلا الفريقين معجب بنفسه، وكلّ حزب بما لديهم فرحون، وكلّ منهما يعيب الآخر ويرميه بالمثالب، وكلاهما في ضلال مبين.
ومن المزايا التي اختص بها العرب، أنّهم يرون أنّ السعادة وكمال النعمة إنما هي المعيشة التي كانت تكفل حفظ النفس والعقل في التهذيب على السواء. وكانت الدرجة العليا التي أدركوها في الشعر ناشئة عن ذلك الرقيّ الموزون. وكل الطبقات من أصحاب الحوانيت إلى الخلفاء كانوا ينشئون وينشدون الشعر. وكثيراً ما ترى جماعة من الرجال والنساء في ليالي الصيف في حديقة غنّاء، تعبق روائح رياحينها في ساحات البيوت الجميلة، جالسين يتباحثون في الأشعار، ويتنازعون بلطف في المساجلة في منتوجات أفكارهم. وكان ولعهم بالموسيقى ودرسهم لها يساوي شغفهم بالعلوم والآداب، وكانت الأندلس حقيقة في تلك الأيام أرض غِناء وغرام وأزهار ونوافح طيب.
ولكن هذا الشغف بالموسيقى كان مزدوجاً مع شوق أعظم منه إلى استقراء العلوم العقلية إلى حدّ كدنا نعجز عن فهمه. فأين يوجد في عالمنا شخص يداني زرياب القرطبي (1) الموسيقي الشهير الذي كان مرتبه (000 ، 40) دينار ذهباً في كلّ سنة، وكان يعرف عشرة آلاف صوت من نغمات الغناء. وأنا لا أدري، هل ذلك فوق مقدرة المغنين في عصرنا أم لا؟؟ ولكن أعلم أنّ ما عندهم هو جزء مما كان عند زرياب، وكان عالماً بالعلوم العالية في ذلك الزمان، كالجغرافية والطب والفلسفة مثلما كان عالماً بالموسيقى، فاخترع عطوراً جديدة وأدهاناً لتجميل الّلون، وجلب الأغذية والعقاقير، ووضع طرازاً صحياً للملابس، وأصلح النظام السياسي، وأوجد في الناس تهذيباً
(1) أصله من بلاد فارس، سافر إلى العراق وتتلمذ على إسحاق الموصلي، وقرّبه هارون الرشيد، ثم سافر إلى الأندلس، ودخل قصر عبد الرحمن الثاني، وتوفي بالأندلس في حدود سنة 852 هـ.
في الوجهة الاجتماعية، وكانت نوادره وحكمه تروى حكماً وأمثالاً في جميع بلاد الأندلس.
وأين يوجد حتى في هذا العصر الحديث، ملك مثل الحَكَم الثاني، الذي كان له شغف في العلوم، حتى إنّه كان له رجال يجمعون الكتب من جميع النواحي في إسبانيا وأوروبا، حتى صارت خزائنه الخاصة تحتوي على أقلّ تقدير (000، 400) وبعض المؤلفين يقولون (000، 900) كتاب خطّي، وقد أضافوا إلى الأشعار العربية والفارسية تراجم أشعار اليونانيين. وترجموا إلى العربية كتب أرسطو وأفلاطون وأقليدس وسائر كتب المتقدمين. وألّفوا كتباً كباراً تبهر العقول في الطب والجغرافية والفلسفة والفلك والكيمياء والتاريخ. ومؤرخو ذلك العصر يريدوننا أن نعتقد أنّ الحَكَم كان عالماً بمضامين الخمسمائة ألف كتاب التي كانت تشتمل عليها خزائنه. وكانت تآليفه محلّ الإعجاب في جميع العالم، ولم يكن مستبداً أرستوقراطياً من الوجهة العقلية، وأنشأ في قرطبة عشرات المدارس غير ما كان بها من قبل، وأمر أخاه (وزير المعارف) أن يسهّل على جميع الناس اكتساب العلوم. والمؤلفون الذين يتجاهلون الحَكَم الثاني ويخوضون فيما وقع من عبد الرحمن الأول من القسوة على سبيل الندور والقلّة ويفيضون في قسوة عبد الرحمن الثالث، يخدعون قرّاء كتبهم.
وهذه الغيرة على بث العلم كانت عامّة في ملوك العرب، ونظام التعليم عندهم يذكر بما كان من ذلك فى روما الوثنيّة، ويبشّر بنظام التعليم في هذا الزمان. وكان ذلك وادياً خصيباً في صحراء الجهل الكبرى التي امتدت من القرن الرابع إلى القرن التاسع عشر، لأنّ النصارى الإسبانيين أخربوا مدارس الأمة، كما فعل أسلافهم النصارى. وسكوت الذي هو أقوى برهاناً وأكثر تفصيلاً، أخبرنا مراراً أن المعارف كانت منتشرة في جميع الطبقات: "كان في كلّ قرية مدارس كافية لحاجة أهلها، وكان التعليم فيها قائماً على أفضل التسهيلات وأنفعها، كل الأطفال الذين قعد بهم العدم عن التعليم، كانت
الحكومة تعتني بهم وتؤسس لهم مدأرس مجانية على نفقتها (الفصل الثالث - ص:497) ".
وعلى هذا نقول: إنّه تعذّر أن يوجد فلاّح أندلسيّ لا يعرف القراءة والكتابة، فى حين كان ملوك بقية أوروبا لا يقدرون أن يكتبوا أسماءهم في توقيعاتهم، وكذلك أشراف الروم من أعلى الطبقات لم يكونوا يقتدرون على القراءة والكتابة، وتسع وتسعون في كلّ مائة من أهل الممالك النصرانية كانوا أميين تماماً، وكانوا على غاية من الجهل لا يمكن تصورها، أضف إلى ذلك أنّ المعارف عند العرب كان معناه أوسع بكثير جداً مما كان في روما الملكيّة، وكان لهم من الغيرة على العلوم مثل ما كان لهم من الغيرة على الشعر.
وكانوا يعتنون بالتعليم العالي ويعضدونه أكثر من التعليم الابتدائي، فقد كان في قرطبة ثمانمائة مدرسة، وكان التلاميذ يأتون من أقاصي الأرض ليتعلّموا فيها، وكانت للفقراء منهم دور إقامة أعدّتها الحكومة مجاناً لهم، ولهم في فيها أرزاق من بيت مال الدولة تقوم بحاجتهم من طعام وشراب ولباس، وكانوا يعطون زيادة على ذلك شيئاً من الدراهم معلوماً لكل واحد منهم، ولم يكن هناك اختصاص في التعليم إلاّ لمن يريد التخلّص من بعض التبعات. وقد قال اسكوت:"إنّ الجامعات والكليات الأندلسية كانت متسامحة ترحب باليهود والنصارى والمسلمين على حد سواء". وللعرب مثل سائر: "افترق العالم فريقين: فريق لهم علم بلا دين، وفريق لهم دين بلا علم"(1).
مَن ذا الذي لم يقرأ يوماً من الأيام، في مدرسة العمر العجيبة، تأسيس الجامعات الأولى الذي ألهمته النصرانية - بزعمهم - في القرنين الثاني عشر والثالث عشر؟ وإني سائل والعجب آخذ مني كل مأخذ: كم واحداً ممن قرأ كتابي هذا، قرأ قط أنّ إسبانيا المحمديّة كانت قبل ذلك بثلاثة قرون، كانت
(1) يريد بذلك قول الشاعر:
أصبحت فيمن له دين بلا أدب
…
ومن له أدب خالٍ من الدين
بقيت فيهم غريب الشكل منفرداً
…
كبيت حسان في ديوان سحنون
متعطشة حرى - ولا حرارة المحموم للعلم - للعلم الحقيقي - لا لترهات مكاتب القرون الوسطى القشريّة، وكان العلم هناك بلا شك - عند العرب - مائة مرّة أكثر انتشاراً، وكان هو الملهم الحقيقي لحركة المدارس والجامعات التي قامت في القرون الوسطى؟ فانظر كيف يكتب التاريخ إلى اليوم منيعاً فيه هوى الدين يعني النصراني.
ولم تكن حريّة الفكر في الأندلس، التي أقلّ ما يقال فيها إنّها كانت حالها أعلى وأجلّ بكثير منها في الممالك النصرانية، لم تكن هي وحدها تغذي حبّ العلوم والولوع به، بل كان يثيره إجلال العلماء الذي زال من الدنيا بزوال دولة الأندلس، ولم يرجع بعد إلى الدّنيا، ولم يكن الخلفاء يقتصرون على إكرام أكابر العلماء بالجوائز والصلات العِظام من المال، بل كانوا يتخذونهم أصدقاء خاصة وأصفياء ويولّونهم أجل المناصب في الدولة والقصر. وكان لملوك العرب رأي صائب، ينبغي أن يكون قدوة لجميع المدنيات؛ وهو أنّ الرجال اللائقين بتدبير المملكة وإدارة شئونها ليس البلغاء في الأقوال أو المَكَرة ذوي الكيد والدسائس، بل رجال العلم الذين برهنوا على كفاياتهم بسمو أفكارهم وثقوب أذهانهم. ولم يكن العلماء في الأندلس يعيشون في المعامل المظلمة، ونظر الناس واعتبارهم منصرف إلى الأشراف والأجناد ورجال السياسة. بل كان العلماء من أكثر النّاس مالاً ونعمة، وكان النّاس لهم أشدّ حسداً، ولم يكونوا يحسدونهم على قصورهم الملكية وكثرة خدمهم وحشمهم، بل على علمهم. وهذا يدلنا على أنّ الأمّة كلها كانت محتفلة بالعلم والأدب عارفة قدرهما. ولم تكن النساء محرومات من المشاركة في ذلك، وتجد في تأليف سكوت كثيراً من فضليات الأديبات منهنّ. وترى أنّ النساء كن يساجلن الرجال في المحافل العامة، حيث كان الحائزون قصب السبق في النّظم والنثر ينالون جوائز عظيمة.
ولا ينبغي للإنسان أن يغلو ويتجاوز الوسط إلى الطرف الآخر، فيزعم أنّ العلم في الأندلس كان قاصراً على زخرف العقول والتطفّل الظريف، وأن
الماهر في نسج الألفاظ، كان أسعد الناس حظاً بعيش الترف والكسل! كلا، فإنّ نشاط العلماء في أعمالهم كان مدهشاً، فقد وصلت إلينا أمثلة رائعة من بدايات علومهم التي تفوق نهايات غيرهم. وجريدة أعمال المشهورين من علمائهم بلغت من العظمة إلى حد يكاد المرء ألاّ يصدِّقها، ولكن سكوت أخبرنا بأن كتّاب العرب - مع سعة خيالهم وإبداعهم في الوصف وتأنّقهم فيه - صادقون فيما يذكرونه من الحوادث.
وقد نسبوا إلى ابن الطفيل ألفاً ومائة كتاب في الفلسفة والتاريخ والطب، وأنّ ابن حزم ألّف أربعمائة وخمسين مجلداً في الفلسفة والقانون (الفقه)، وكانت لهم معلومات عدّة تزيد مجلدات إحداهن على خمسين مجلداً. وعدد المؤرخين منهم يزيد على ألف على ما قيل، فللّه كم ضاع من علم وأدب كان طعمة للنيران التي أوقدتها أيدي الرهبان حين:"طرد الإسبانيون الكفار من أوروبا"، كما يزعم المدرسون. وكان قسم من تلك الكتب في علم الكلام، فلا تستحق أن تعتبر هنا. وكان علماء المسلمين قد جاءوا الأندلس من كل رجا من أرجاء الدنيا. وأحياناً كان يتسرب إليها المتعصبون من أهل إفريقية، فيؤيدون السلفيين الجامدين، وينشأ غمام مظلم في سماء الوجهة العقلية الإسبانية بتافه قول من قال:"إنّ الضعف الوحيد الذي كان في أهل الأندلس إنما أتاهم من قبل دينهم". ومن الواضح أنّ أكثر علمائهم اختصاصاً بأمور الدين هم الفلاسفة، وإنّهم صرحوا جهرة بذم علم الجدل الكلامي حتى الإسلامي منه. وكانوا يعرفون جميع ضروب الفلسفة: هنديّة كانت أم يونانية، إلاّ أنّ أرسطو كان هو المعلّم الأكبر في نظرهم. ولما تكلم الشاعر الكاثوليكي دانتي في القرن الثالث عشر على الفلسفة لم يذكر ولا رجلاً واحداً نصرانياً، إلاّ ذكر بعده ابن سينا وابن رشد، وساوى بينهما وبين المعلم الأكبر في الشرف، حين سمَّى الجميع "آل بيت الفلسفة"، وذلك يدلنا على أنّ الفضل في النهضة الفكرية في أوروبا يرجع إلى العرب الذين أحيوا فلسفة اليونان بعد دروسها، قبل النهضة الأخيرة الأوروبية بأربعة قرون.
وكان أرسطو يكره الهراء الذي يسمى فلسفة إفلاطون في الإلاهيات وما وراء الطبيعة، وكان أرسطو أفضل من عرفت العرب من الحكماء المتقدمين، وأعظم تحقيقاً للمسائل العلمية. وإنه ليزيدنا إعجاباً بهذه الأمة - أمّة الشعراء وعشاق الجمال، أنهم قدَّسوا أرسطو حتى كادوا يؤلهونه. وما بلغ عمر ابن سينا ستة عشر سنة، حتى صار من كبار العلماء، وصار وزيراً عظيماً وهو ابن ثلاثين. وأفيروس واسمه الحقيقي: ابن رشد، هو الذي ألّف الشرح الشهير لكتاب أرسطو. وذكره دانتي (1) في كتابه: الكوميديا الإلهية، وهو الذي أثنى عليه حتى الراهب سافونارولا ( Savonarolla) وقال فيه:"رجل كانت له عبقرية ربانية، وكان مكباً على الدرس ومنهمكاً فيه، حتّى إنّه لم يترك الدرس إلا ليلتين في حياته: ليلة عرسه، وليلة وفاة والده".
وكان ابن رشد، وهو من فلاسفة العرب، طبيب الأمير ورئيس قضاة قرطبة، وقد خدم فلاسفة العرب العلم والفلسفة سواء، وكان على ذلك المتخصصون في العلوم هم الذين خدموا العالم أعظم خدمة، ولا سيما الرياضيات والفلك والكيمياء والطب.
والفصول الطوال الثمانية والعشرون التي يحتوي عليها كتاب اسكوت ليست إلاّ إشارة مختصرة لأعمال العرب العظيمة، ولا ينصفهم بأعمالهم إلاّ مجلّد ضخم.
وكان علم الهيأة من أجلّ علومهم التي هذّبوها، وكان علماء الفلك في بغدادهم الوارثين لعلوم بابل والإسكندرية، وانتقل ذلك إلى الأندلس. وكانت بيوت العبادة - المساجد - تستعمل مراصد لمراقبة حركات الأجرام السماويّة، كما كان في بابل، فكانوا يرصدون النجوم على رؤوس المنائر. ولعل الكلدانيين علماء الفلك منهم، قد اكتشفوا كلّ ما يمكن اكتشافه بالعين المجردة، ولكن علماء الفلك من عرب الأندلس، كانت لهم آلات ذات دقّة
(1) أنظر لمحة من سيرته في الموسوعة العربية الميسّرة (778).
وإحكام، مركّبة على رؤوس المنائر. ولم يكن عندهم (تلسكوب) طبعاً، وإن كانوا هم الذين وضعوا أساس علم النور والمرئيات، وروجر بيكن ( Roger Bacon 1214-1292) الفيلسوف العالم الإنكليزي، مدين لهم بأكثر مما يتصوّر المعجبون به من الكاثوليكيين. وكانت عندهم عشرة أنواع من الاسطرلاب، وعدّة آلات أخرى عدا ما عندهم من الكرات الأرضية والسماويّة، وقد اكتشفوا أنّ (الصّاعقة)، وتسمى في غير إسبانيا من بلاد أوروبا:(النجم الثاقب) كتلة كثيفة تدخل جوّ الأرض. ولهم رأي صائب في ارتفاع الهواء وقلّة كثافته ووضعوا جداول لحركات النجوم، ووضعوا أوّل استنباط مدقّق لطول السنة، وأدركوا الشذوذ الواقع في مدار الأوض، ووضعوا رقوماً لتعاقب الاعتدالين.
والكيمياء الأولى لفظ عربيّ، وكذلك الجبر. وهناك ألفاظ أخرى عربية تذكرنا بما للمسلمين علينا من فضل في الوجهة العلمية. لقد استنبط العرب المسلمون قواعد الكيمياء. ولو أنّ مدنيتهم أُبقي عليها، واستمرّ تقدّم ثقافتهم، لكنا اليوم نعيش في عالم أعجب وأرقى مما نحن فيه. والعرب هم الذين اخترعوا البارود لا أهل الصين كما يتوهّم العامّة، ولست أعني أنّ اختراع البارود نعمة، وإنما ذكرته آيةً على خصب عقول العرب، وأنّه من ثمرات علومهم، وهم أوّل من صنع البندقيات، وصُنعت المدافع في غرناطة في القرن الثالث عشر. ولا شك أنّ الكيمياء القديمة هو الصورة الابتدائية للكيمياء الحديثة. ولقد كان فيها ضياع عظيم للأوقات في تتبع الأوهام، ولكن من الواضح أنّ العلم لا بدّ له أن يجتاز ذلك الطور قبل أن يصل إلى تحليل المركبات المادية وردِّها إلى عناصرها الأولى.
ولهم فضل عظيم في السبق إلى خدمة الطبيعيات لمهارتهم في الرياضيات، ورسموا جداول للثقل النوعيّ أو الجاذبية الأرضية. وقدّروا تخميناً دقّة الجاذبيّة الشعرية - نسبة إلى الشعرة لدقتها - وهم المخترعون الحقيقيون لبيت الإبرة - المسماة عند العامّة بالبوصلة -. وأمّا أهل الصين فإنّما
أوصلوا إلى العرب علم مناسبات الإبرة المغناطيسية، والعرب هم الذين ركّبوها في دائرتها، وأتحفوا الملاّح بهذه الآلة التي لا ثمن لها عنده. واخترعوا الساعة الكبيرة ذات (البندول) والعجلة. وأتقنوا الميزان، وهم الذين أبدلونا الرقوم العربية بالرقوم الروميّة الثقيلة المتعبة، وهم الذين استنبطوا قواعد علم النور والمرئيات التي هذّبها فيما بعد روجر بيكن، ووضعوا قواعد الكهرباء التي بنى عليها جربرت ( Gerbert) مباحثه. وحتى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) قد اشتغلوا في أساسه، ووقفوا على السنّة الكونيّة في التفتّت، ودرسوا طبيعة الصخور.
وأما علم المعادن، فقد خدمه حكماء العرب في القرن العاشر. قال الدكتور وود ورد ( Woodward) في كتابه (تاريخ علم طبقات الأرض ( History of Geology) :" ومن الّذين ألّفوا في صورة المعادن وتركيبها الطبيب ابن سينا، على حين كان العرب هم قادة العلوم في الغرب". وقال الأستاذ فوربز ( Forbes) في كتابه: تاريخ علم الهيأة ( History of Astronomy)" وابن رزفلة من أهل طليطلة أضاف تحسيناً عظيماً إلى الجداول الشمسية". وقال الأستاذ ميال ( Miall) في كتابه: تاريخ علم الحياة ( History of Biology) : " عند الكلام في العلوم على وجه عام، لقد تقدمت العلوم بسرعة تحت حكم الخلفاء". وقال السير ادوارد ثورب ( Sir Edward Thorbe) في كتابه: تاريخ الكيمياء ( History of Chemistrys) : " لقد تقدم علم الكيمياء الحديثة تقدماً معتبراً"، والحقيقة أنك لا تجد علماً من العلوم إلاّ والفضل الأكبر فيه للمسلمين من أهل المغرب وأهل الأندلس. وأعظم من ذلك كله أنّ لهم الفضل علينا في إحياء العلوم وبثّ روحها وعزمهم العظيم على أن يجدوا قواعد صحاحاً لسنن الطبيعة الحقيقية، وإن كانت منعت من التقدم بضعة قرون بسبب ضغط الكنيسة، ولكن لم يمكن محوها من ذهن الإنسان.
وسجية الإنسانية الكاملة التي كانت متمكنة من العرب المسلمين، حملتهم على أن يعنوا عناية خاصة بعلم الطب، وكان علم الكيمياء عندهم في أوّل
الأمر إنما هو علم إضافي لتكميل علم الطب، أي علم العقاقير. ووجد العرب المسلمون في هذه الوجهة أمامهم عقبة كئوداً بسبب المتعصبين في التصدي لتشريح أموات البشر، ولكن لا نشك في أن كبار مدرسي الطب العرب شرّحوا الحيوان، بل لا نستبعد أنهم شرحوا أجساد الأناسيّ خفية. وعلى كلّ حال فخدمة الأطباء العملية، كانت قد ارتفعت هناك إلى مستوى عالٍ، وكانت بقيّة أوروبا في الحضيض الأسفل. وكان أكثر العلماء كيفما كان علمهم ماهرين في الطب، ويروى أن دور الأطباء، حتى أكابر الأغنياء منهم، كانت مفتوحة في كلّ وقت للفقراء، وهم الذين أدخلوا كثيراً من العقاقير إلى أوروبا.
ولم يكونوا في خدمة التاريخ، أقلّ حماسة منهم في خدمة العلوم والفلسفة والشعر. وتقدم علم تخطيط البلدان (الجغرافية) عندهم تقدّماً أساسياً، لأن العرب كانوا ملاّحين شجعاناً حذّاقاً في الملاحة في وقتهم. فكانت رحلهم واسعة على قدر طموحهم وولعهم الشديد بحبّ الاستطلاع والتنقيب. وليس فضلهم في خدمة علم النبات بأقلّ مما سبق، لأنّ الخلفاء بعثوا العلماء لمراقبة الأعشاب والبقول عن كثب في جميع نواحي إسبانيا. وكانت حدائقهم فنيّة على مقتضى علم النبات تحتوي على طرائف الشرق والغرب. وكانت عندهم أيضاً طرائف أنواع الحيوان، لدرس علم الحيوان، ولهم ملاحظات وتنبيهات في التاريخ الطبيعي تختلف عن القصص الجاف الذي يرويه أهل البلدان الأخرى.
وهذه الأخبار - وإن كانت مختصرة جداً - فهي كافية في دلالة القارئ على أنّ العرب المسلمين هم الذين وضعوا فاتحة هذه المدنيّة الجديدة في أهم نواحيها. والحق أقول: إنّ هلاك ثقافتهم الذي يبدئ ويعيد المقررون في تقريره ببلاغة، ويسمونه:"طرد الكفار"، قد أوقف رقيّ النوع البشري مدّة من الزمان. ومهما كان فلم يكن إطفاء أنوار علومهم كلّها، ولهم أوّلاً، ثم لليونانيين الأقدمين بواسطتهم، يرجع الفضل في إيجاد طلائع العلم من
النصارى كجربرت وروجر بيكن وألبرت الكبير ( Albert The Great) 1193-1280 م، وكروسست ( Robert Grosseteste) 1175 -1253 فهم الذين علّموهم.
فاقرأ مثلاً سيرة جربرت، تجده قد ولد في جنوبيّ فرنسة، وتعلّم في برشلونة ثمّ في جامعة قرطبة، فكلّ ذرّة من علمه المعتبر جاءت من العرب المسلمين. فتح جربرت مدرسة في إيطاليا، فقامت قيامة الرهبان وأثاروا الرعاع عليه، فأحرقوا مدرسته وكسروا أدواته وشتتوا شمل تلاميذه. والحكّام الماديون، لم يسعهم إلاّ أن يكرموا عالمهم النصراني الذي ليس لهم غيره، فبمساعدتهم صار أسقفاً، ومن مساخر التاريخ أنّه صار بعدُ بابا وسمّي:(سيلفستر الثاني) وكان ذلك في أسفل عصور البابويّة، وبعد أربع سنين مات، وهناك تهمة قويّة أنه مات مسموماً، فلعنت الكنيسة ذكراه، ثم هي اليوم تفتخر به.
لكنّ روح علوم العرب المسلمين الحقيقية لم يمكن قتلها، فثقب نور مدنيتهم المشرقة ضباب الخرافة والجهل، ونتج شيءٌ من الحياء ومكارم الأخلاق، وحرّك رغبة أوروبا في العلوم العقلية. وفي القرن الحادي عشر (التالي لعصر قرطبة الذهبي) أخذت أوروبا تخرج من بربريتها، ومعظم أسبابه التقدم السياسيّ الذي نشأ عنه التقدم الاقتصادي، فصارت القرى مدناً، والمدن الصغيرة أمصاراً، والعامة أحرزوا قسطاً من العلم، والأشراف طمحوا إلى المعالي. ولما حصلت اليقظة الفكريّة في الممالك النصرانية، كان لزاماً أن تؤثر فيهم المدنية الأندلسية الزاهرة آثارها.
وليس هناك موضع، أسفت على ضيق المجال فيه طبقاً لبرنامجي، مثل ما أسفت عليه في هذا الكتاب، لأن تاريخ العرب المسلمين العلمي عظيم، وخدمتهم للنوع الإنسانيّ عظيمة جداً ومهمة. وقد غمط أكثر المؤرخين حقّهم، ولعبت أيدي المؤلفين المتعصبين لدينهم - يقصد النصارى - دوراً عظيماً، ومكروا مكراً كبّاراً في إخفاء فضلهم، فوجب عليّ أن أقف وقتي
أؤلِّف على الأقل ستة كتب على الأقل، مثل هذا في الإشادة بآثارهم. ذلك ما قاله مؤلف نصراني هو العالم الشهير المصنف الكبير جوزف ماكاب ( Joseph Maccab) الذي ولد سنة 1867 م وألّف (250) كتاباً من أهم الكتب في الفكر الحديث، فبجّله الأمريكيون حتى جعلوه أكبر عالم في الدنيا.
ولست أجهل أنّ المعلومات الواردة في كتابه متيسرة في المصادر الأندلسية، ولكنني آثرت أن أنقلها عن كاتب غير عربي ولا مسلم، حتى لا يتهم بالتحيّز والانحياز، وإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرءٍ ما نوى.