الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصارى والعرب في إسبانيا - 1879"، هو أيضاً تأليفٌ نفيس بأسلوب عالٍ، يدلّنا على أن المرأة النصرانية حتى هي أيضاً تأثرت بما كان للعرب من مدنية وحضارة. وكتاب واشنطون رفنج الذي أدى خدمة جليلة في استمالة الناس إلى هذا العنصر الحي في نشوء المدنية يُقرأ الآن، وهو معدود من أحسن المصادر الأدبية. وأما فنونهم وما بقي من مدنيتهم، فَكُتُبُ كالفرت الموسومة: " آثار العرب في إسبانيا " وكتاب: " الحمراء "، وكتاب: " قرطبة "، وكتاب: "طليطلة"، وكتاب: "إشبيلية" وغيرها أفضل وأنفع ما كتب في ذلك. وكتاب دوزي: "الإسلام الإسباني"، نشر بالإنجليزية عام 1913 م، ومع أنه من أوائل ما نشر من الكتب الحديثة، فلا تزال قيمته عند الناس عظيمة، وهو مع ذلك كتاب كبير، ولعل تأليف: لين بول (العرب في إسبانيا) وتأليف كالفرت: (آثار العرب) أسهل تناولاً وأكثر مناسبة، وأوصي بقراءتهما من يريد أكثر مما تسع هذه النبذة الصغيرة.
ولست بصدد ما يسمى: التاريخ، إذ حدثت في مدة من الزمن اضطرابات في الأمور، وكثر عزل الولاة وتبديلهم بغيرهم. واشتد فيها التحاسد والتنافس، وفسدت سيرة الخلافة في دمشق، فكثر تدخلها في أمور الولاة، فوقعت فتن عظيمة بين البربر والعرب الذين جنوا ثمرات الفتح، وكانت تقع غزوات بين قبائل العرب الذين جاءوا من مختلف البلدان، وآخر الأمر ظهر هناك شاب عربي من ذرية الخلفاء سنة (756 م)، فقبض على زمام الأمور، واتخذ قرطبة عاصمة له، وجعل نفسه أميراً وكان في الحقيقة ملكاً لمملكة العرب في إسبانيا، وهذا الأمير والأمراء الثلاثة الذين جاءوا من بعده، هم الذين أسسوا هذه المدنية التي نحن بصدد شرحها.
2 - العرب في أوج مجدهم:
عظمة غرناطة التي هي أشهر مدن العرب في الأندلس اليوم، يرجع عهدها إلى زمان متأخر جداً، وسنبحث الآن في مدنية العرب التي كانت في أواسط
القرن العاشر الميلادي، وكانت أوروبا في ذلك الزمان، قد بلغت الدرك الأسفل في الانحطاط. وكانت روما متلوِّثة برجس الفساد، وكانت الجهود العظيمة التي بذلها شارلمان لإصلاح قسم كبير من القارة المذكورة قد خابت، وكانت فرنسة نهباً مقسماً لغارات قبائل الشمال، كما كانت إنكلترا كذلك تعاني من غارات الدانماركيين عليها، وكان القسيسون في كل بلد يعيثون فساداً، ولا يبالون مثقال ذرة بما نسميه: مدنية. أما إسبانيا، فكانت بخلاف ذلك، كانت مزدهرة بالعمران، وكانت حديقة تفوق الوصف في النتاج، وكان فيها تسعة من أمهات المدن، ثلاثة آلاف مدينة متوسطة، وعشرات الألوف من القرى. وكان على شاطئ نهر الوادي الكبير فقط إثنا عشر ألف قرية. ومع أن السير في ذلك الزمن لم يكن سريعاً، فقد قال المؤرخون: كان السائر في بلاد الأندلس لا يسير مسافة يوم، إلا ويمرّ على ثلاث مدن، وأما القرى فكانت لا تنقطع تقريباً، وكانت على أحسن حال من العمران، ومدينة قرطبة عاصمة ملكهم، كان عدد سكانها لا يقل عن مليون نسمة. وإشبيلية في وقت من الأوقات تحوي خمسمائة ألف نفس، ومدينة المرية خمسمائة ألف نفس أيضاً، وكان في غرناطة أربعمائة وخمسة وأربعون ألفاً، وفي مالقة ثلاثمائة ألف نفس، وفي بلنسية مائة وخمسة وعشرون، وفي طليطلة مائتا ألف.
ويقدر مجموع سكان الأندلس بثلاثين مليوناً، وزيادة السكان بهذا القدر العجيب، هي في حدّ ذاتها دليل على الدرجة العالية التي وصل القوم إليها من المدنيّة. وقد علم من الاستقراء، أن السكان إذا كانت صحتهم جيدة، وتدبير الصحة سائراً على أحسن حال، فإن عددهم يضاعف في ربع قرن. وهذا يدلّك على ما عمل العرب من الأعمال الجليلة، وتبين لك كيف أفسد الإسبانيون تلك الأعمال من بعد ونقضوها. وإذا علمت أن سكان إسبانيا في القرن العاشر بلغوا ثلاثين مليوناً، فيجب أن يبلغ اليوم مئات الملايين، فاعلم أنه اليوم لا يزيد عن اثنين وعشرين مليوناً. فرقم ثلاثين مليونا في القرن
العاشر، برهان ساطع على ما كان للعرب من العلم والحكمة. وخذ مثلاً انكلترا، فإن سكانها كانوا إذ ذاك مليونين أو ثلاثة. وكانت العناية بترقية الزراعة أساساً لعمران الأندلس.
والناس الذين لم يروا أسبانيا قط، يرون فيها رأياً مبهماً غامضاً، أغلبه مأخوذ من الروايات ورقوق الخَيَالة: أنها أرض خصب، خضرة نضيرة وازدهار دائم، وغناء وعشق لا ينتهيان. والأندلس، هي الناحية التي استوطنها العرب، إذ لم يهتموا كثيراً بالناحية الشمالية - لها صيت ذائع في ابتهاج القلوب وقرّة العيون والهوى العذري والورد وآلات الطرب، وهذه شهرة لا تستحقها. وأنا أحب الإسبانيين، فيمن أحبه من الأقوام الذين سحت في بلادهم، ولكن الطرب ليس من شمائلهم، وليست الأندلس أرض عشق وأزهار وغناء، وإسبانيا اليوم في بؤس وشقاء، مصابة بداء القسيسين، تحكم حكماً مرذولا، ترى في أرياضها في أكثر أيام السنة زربيّة محترقة رقيقة من النبات، والفلاحون المجهودون بكل مشقة يحصلون معيشة ضنكاً من الأرض، ومتى زالت منها الملكية والكنيسة واستبداد الجيش، يجدد فيها نظام السقي وتصير فردوساً مرة أخرى. أما اليوم، فهي محرومة من رأس المال والأعمال، ولا ريب أنها كانت فردوساً في القرن العاشر، حتى نتجت مثل ذلك النمو في السكان، وكان لأهلها ذكاء، فساعدوا به الطبيعة، وكانت الأنهار الصناعية والجداول، توزّع الماء وتروي الأرض، حيث الفلاح الإسباني المسكين اليوم، يرى المطر ينزل في رءوس الجبال، وتسيل به الأودية، وتجري رأساً إلى البحر. والقيعان الواسعة العقيمة اليوم، كانت في زمن العرب حدائق غلباً، كانت تؤتي غلاّت ذهبية، وحتى سفوح الجبال، قد سًطِّحت وألحقت بالأرض الزراعية. وفي كثير من البقاع، كانت الأرض تعطي أربع غلاّت مختلفة في سنة واحدة. وكانت الأقوات كثيرة ورخيصة جداً، وأضاف العرب جميع الوسائل الشرقية إلى الوسائل الرومانية في إسبانيا، فكان الآس يفوح بريحه العطرية، مقرونة بريح الورد والأترج،
والنخل باسقات في سطورها، تواجه القبة الزرقاء، وكانت جنّات، جنّات لا يوجد مثلها اليوم إلاّ في قليل من البلدان، وعلى هذا الأساس، قام هناك نظام تجاري صناعي في غاية الإتقان. ولا أريد أن أذكر تفاصيل هذا الأمر، وإنما أريد أن أذكّر بالسيوف الفولاذيّة التي تصنع في طليطلة، والأدوات الجلدية التي كانت تصنع في قرطبة التي كانت فيها أفضل الطرق في الدنيا، وكيف كان الأسطول التجاري المغربي يطوف البحار في طلب النوادر والتحف الرفاهية لمئات الألوف من الناس، وكان العرب رومانسيين جداً. فإنهم جلبوا العلماء والمهرة في الصناعة والنحّاسين وتجار الجواري الراقصات، وتجار الحرير، وتجار الجواهر من جميع أرجاء الأرض. ولم يكن الخراج مجحفاً، وكان في الغالب يتألف من عُشر الغلاّت وعُشر ما يخرج من المعادن ومكاسب الصناع والتجار. ولكن كان الدخل مدهشاً، وكان دخل خليفة ذلك الوقت وهو عبد الرحمن الثالث - على ما قيل أكثر من (000. 000. 30) دولار سنوياً. ولا ننسى أن النقود كانت لها قيمة في ذلك الزمان، بحيث يمكن أن يُشترى بها أضعاف ما يُشترى بها الآن. وسنرى وصف هذه الثروة أوضح في الفصل التالي. وكانت الثروة متساوية عند الأعيان والتجار، وقد قرأنا أن وزير عبد الرحمن الثالث أهدى إلى ملكه هدية وهي ضيعة، غاباتها تحتوي على عشرين ألف شجرة، وستين جارية حسناء، ومائة من الجياد الصافنات، والبغال الفارهات، وثمانمائة لأْمَة (1) من أجود العتاد، وما يساوي مليون دولار من الذهب وغيره من النفائس. وقد قدَّر المؤلفون العرب الذين يختلفون عن جهلة أوروبا الرهبانيين جدّ الاختلاف هذه الهدية بـ (000، 000، 5) دولار، وسنرى في الفصل الآتي أكثر مما رأينا، فهناك نرى من الترف الذي أوجدته تلك المدنية شيئاً يدهش العقول، وعلى ما كانت عليه ملوك العرب من البذخ والترف، فإنهم لم يهملوا المقاصد الخيرية والمصالح
(1) الّلامة: أداة الحرب كلّها من رمحٍ وبيضة ومغفر وسيف ودرع. (ج): لأَم ولُؤَم.
العامة، بل أنفقوا عليها من خزائنهم الواسعة إنفاقاً لم بفعل مثله من ملوك النصارى إلاّ قليل، وسأعقد فصلاً أذكر فيه أعمال ملوك العرب في العلم والأدب والفلسفة. هنا أشير إلى أن الملوك الذين أنشأوا مدنية الأندلس (من سنة 756 م إلى سنة 961 م) كانوا رحماء كرماء ومحبين أوفياء للعلم وأهله، وكانوا أكثر الناس سخاء وجوداً في مناصرة الشريعة والتعليم، وهم أنفسهم في كثير من الأحيان لم يكونوا قاصرين في الأدب. فالخليفة الحكم الثاني الذي كان ملوك النصارى في زمانه لا يقدرون أن يكتبوا أسماءهم إلاّ قليل منهم كانت خزائن كتبه تحتوي على نصف مليون كتاب، ويروى أنه كان ملماً بما تضمنته. وكان الخلفاء ينفقون على كثير من المدارس من مالهم الخاص، وكان سخاؤهم بأموالهم الخاصة للمصالح العامة مثل سخائهم لها من بيت المال، وكانوا يرقبون الطرق المعبدة والجسور المتينة التي عملها الرومان بعناية تامة، فيصلحون ما فسد منها، فكان للبلاد نظام للمواصلات يليق بصناعتها وتجارتها. وعجلات السيارات الثقيلة اليوم، كانت تسير في طليطلة وقرطبة على الجسور العظيمة التي بناها الروم وجدّدها العرب، وجدّدوا القنوات وأنشئوا قنوات جديدة لضمانة الماء الكافي، لا للسقي فقط، بل لتوزيعه في المدن على البيوت. وكان للبريد سرب من الخيل السريعة تبرده في جميع الطرق المهمة في المملكة. ولأجل أن نقدّر هذه الأشياء حق قدرها، ينبغي أن نتذكر دائماً الاختلاف بين هذه البلاد وبقية أقطار أوروبا، فأمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ، فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن غير المبلطة، أو تجتمع فيتكون منها حياض، حتى بعدما عملت النهضة في أوروبا عملها قروناً طويلة. أما في مدن العرب، فكانت الشوارع مبلطة منوّرة، قد سوّيت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر. قال سكوت: بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في بلنسية، تقدر أن تسع سيارة. وأصغر قناة منهن تقدر
أن تسع حماراً. وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة، وهذا النظام الصحي السامي، كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذا العصر شيئاً واجباً. ولكنها كانت في ذلك الزمان في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام، فكان في قرطبة وحدها تسعمائة حمام عام، وكانت الحمامات الخاصة كثيرة في كل مكان، أما في بقية بلاد أوروبا، فلم يكن فيها ولا حمام واحد. وكان أشراف أوروبا رؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حدّ يحجم الإنسان عن وصفه. ولم يكن لبس الكتّان النظيف معروفاً في أوروبا، حتى أخذت (مودة) لبس طراز الكتان من المسلمين، ولم تكن الزّرابي أيضاً تصنع هناك، وكان الحشيش يغطي أرض قصور الأمراء ومصطبات الخطابة في المدارس، وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف. ولم يكن لأحد منهم منديل في جيبه. وفي ذلك الوقت، لم تكن الحدائق تخطر ببال أحد من أهل الممالك النصرانية، ولكن في إسبانيا العربية كان الناس في جميع الطبقات يبذلون الجهود والأموال في تجميل حدائقهم العطرة البهية. وكانت الفسقيات تترقرق مياهها صعداً في صحون الدور والقصور والأماكن العامة. ولا يزال في صحن الجامع الكبير في قرطبة حوضان جميلان من المرمر يزينان الصحن، حيث كان كل مصَلٍّ يتوضأ قبل أن يدخل المسجد، ووصفها سكوت في هذا الزمان (1/ 675) فقال:"هذان الحوضان اللذان كانا من قبل متوضأ للمسلمين الغيورين من جميع الآفاق، والآن يمدان بالماء سكان قرطبة النصارى ذوي المناظر القذرة المنفرة والأخلاق الوحشية والجهل العظيم بمزايا الشعب الطاهر العاقل المهذب الذي تنتمي إليه هذه الذكريات الفاخرة من الفن والصناعة. هذان الحوضان يشهدان شهادة مرضية بأنّ لا دوام للمدنية العليا، وأنّ الإنسان يميل بطبعه إلى التقهقر والعودة إلى أحوال الهمجية. وتشهد به لسلطة القسيسين من المقدرة على فعل الشر، وأن سياستهم التي لن تجد لها تبديلاً، أُسست على قاعدة احتقار مواهب عبيدهم العقلية". وهذه العدد التي أعدّها الخلفاء
بفرط ذكائهم، ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة، على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلاّ بعد مضي أربعة أو خمسة قرون. ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط، فمع كثرة النفوس المفرطة، كانوا لا يرون أحداً يصاب بمصيبة إلاّ نفَّسوا عنه الكرب وواسوه، وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها. وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاماً حسناً في استخدام البطالين في إصلاح الطرق، والأشغال العامة. وكان عبد الرحمن الثاني قد أعلن أن كل مَن يريد العمل يمنحه. ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب - كما أثبت المحققون - كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد، وكانت المعارف والتعليم - كما سترى في فصل آخر - أحسن مما كانت في ممالك الرومان، ولم يكن يضاهيها إلاّ ما بلغه اليونان من المعارف العالية في أرقى أيامهم، والخلفاء أنفسهم شيَّدوا المارستانات ودور الأيتام، كما يفعل ملوك اليونان - ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات من أوروبا - وكان الأعيان والتجار لا يألون جهداً في اقتفاء آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات. وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون من المكروبين لينفسوا كربهم.
والنساء الّلائي نزلن إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا عملاً بما روته التوراة في قصة حواء من المحال، ولكراهية القسيسين السابقين للزواج وإيثارهم العزوبة، كنّ على خلاف ذلك عند العرب مكرمات مالكات حريتهنّ. وللكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذين حلاّ محل التقشف والتعصب في دمشق، انتقلا إلى الأندلس، فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعاشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا، لم توجد في الأندلس إلاّ في أواخر أيامهم. والنساء في القصر الملكي بقرطبة، كنّ يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور، وإن مالت طباعهن إلى غير ذلك، ولم يكن من الصعب عليهن الاتصال بالأدباء والشعراء وأصحاب الفنون الصناعية. وكان طلب العلم مباحاً لهن بكل حرية، وكثير منهن كان لهن ولع بالعلوم الرائجة في ذلك
الزمان من فلك وفلسفة وطب وغيرها. وكانت النساء يتبرقعن خارج بيوتهن، ولكنهنّ كنّ مكرمات وفي منازلهن كنّ مشرفات ومحترمات.
ولا حاجة بي إلى أن أتكلم عن ظرف العرب وشهامتهم، لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعاً لا يُمحى أبداً على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة حتى في الصناع والفلاحين. وهناك مزيّة أخرى يمتاز بها العرب، وهي التسامح الديني، وفي أول الأمر كان هناك بلا شك شهداء - يعني مقتولين لمخالفتهم عن الدين - ولكن لا مناسبة بين تلك المذبحة التي عملها الإسبانيون أخيراً في ذرية العرب. وأما بعد استقرار المملكة العربية في الأندلس، فإذا استثنينا معاملتهم لطوائف الثوار من النصارى، كأهل طليطلة الذين كانوا دائماً ينتظرون الخلاص من ناحية الشمال، فقد كان أهل الأديان جميعاً يعاملون بالحسنى، وكانت على يهود والنصارى فريضة مالية قليلة تخصهم، وكانوا يتمتعون بحماية حقوقهم، فكثر عددهم، وعظم بذلك الخرج الذي يؤخذ منهم، فكان الخلفاء لا يشجعون على دعوتهم إلى الدين مخافة نقصان الجزية، ورخصوا لنصارى طليطلة في المحافظة على كنيستهم الكبرى. وأخيراً اشتريت منهم بثمن غالٍ جداً، ورخصوا لهم بأن يبنوا عدداً من الكنائس. وكانت لهم في طليطلة ست كنائس، وكانوا مستمسكين بالعلاقات الودية مع جيرانهم، حتى أثار فيهم القسيسون الضغينة الدينية. وأما ما يخص يهود الذين كانوا يتمتعون بعصرهم الذهبي حينئذٍ، وارتقوا إلى أعلى درجة في العلوم، ونالوا أعلى المناصب في دولة العرب، فأتكلم عليهم في فصل آخر، وهذه النبذة العامة في ذكر مدنية العرب، ستزداد وضوحاً وتفصيلاً عند الكلام على وصف حياة قرطبة وغرناطة. ولابد أن القارئ علم مما ذكرناه آنفاً تفوق المدنية التي يزعمون أنها وثنية تفوقاً خارقاً للعادة، ولابد أنه رأى أثرها في أوروبا المتوحشة، وهذا صحيح لا يمتري فيه أحد من المؤرخين. والمؤرخون لا يقابلون بين العرب والنصارى، لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي يقيس أهل بوستن -
مدينة في أمريكا - بقبائل الاسكيمو، وذلك عجب عجيب. قال ستانلي لين بول في شأن النصارى الذين كانوا قد استولوا على شمال إسبانيا في حينه:"كانت غزوات النصارى لعنة عظيمة على مَن يكون لهم فريسة. وكانوا خشنين جاهلين أميين لا يقدر على القراءة منهم إلاّ قليل جداً. ولم يكن لهم من الأخلاق إلاّ مثل ما لهم من المعارف - يعني لم يكن لهم منها شىء - وأما تعصبهم وقسوتهم، فهو ما يمكن أن تتوقعه من الهمج البرابرة".
ثم قابل بعد ذلك بين الممثلين لنظام الفروسية في القرون الوسطى - يعني أشراف إسبانيا - وبين العرب (ص 189)، فقال:"اتصف النصارى في شمالي إسبانيا بأقصى ما يمكن من مضادة أقرانهم العرب. جاء العرب تلك البلاد، وهم عشائر بدو جفاة، ثم رقّت طباعهم إلى أن صاروا شعباً عالي الكعب في التمدن، يستلذون الشعر واللّطائف الأدبية. وقد وقفوا جهودهم لخدمة العلم واستقراء مسائله، وفوق ذلك كله قد عزموا على التمتع بلذات الحياة إلى أقصى حد ممكن. وأذواقهم العقلية كانت لطيفة فوق العادة وظريفة، فالموسيقى والخطابة ودرس المسائل العلمية بتعطش لا مزيد عليه، يظهر أنها كانت طبيعة غريزية لهذا الشعب الزاهر. وكانت لهم سجيّة معرفة النقد والولع بالمجاز والاستعارات الجميلة وتقديرها على النحو الذي ننسبه اليوم إلى الأمة الفرنسية. أما نصارى الشمال فكانوا بضدّ ذلك على أقصى ما يتصور، فكانوا جفاة غير مهذبين. ولم تكن آداب نظام الفروسية التي أدخلها المصنِّفون في تاريخهم، لتخطر لهم ببال. وفقرهم الشديد جعلهم خدماً لكل مَن يريد استخدامهم، وكانوا يبيعون شجاعتهم لكل مَن يدفع لهم أغلى ثمن لها، فكانوا يحاربون لتحصيل القوت".
ثم أرانا - يعني سكوت - أن "سِد"(1)، الذي لا يزال حتى اليوم زينة لكتب
(1) Cid، يقال إنه ولد سنة 1040 وطار صيته في الحرب التي وقعت بين أمير قشتالة شانسوورينس نفار وأبي عبد الله ملك غرناطة، وكان تارة مع النصارى وتارة مع المسلمين.