الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوقّف، وبدأ بالتعاون مع موسى بن نصير وطارق بن زياد على القوط في إسبانيا، خاصة بعدما شعر بقوّة المسلمين المتنامية في المنطقة، وإقبال البربر على الدخول في دين الله أفواجاً.
ويمكن أن نلخِّص أسباب فتح الأندلس بثلاثة أسباب رئيسية:
الأول: نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في الأرض. إنّ الفاتحين حملوا الإسلام إلى الناس بالفتح، ولم يحملوا الناس بالفتح على الإسلام.
والثاني: ترصين الفتح الإسلامي في شمالي إفريقية بعامة، وفي منطقتي طنجة وسبتة بخاصة، وذلك بفتح الأندلس، فكما كانت منطقتا طنجة وسبتة تعتبران الخط الدفاعي الأمامي عن الأندلس، فإن الأندلس تعتبر الخط الدفاعي الأمامي للدفاع عن منطقتي طنجة وسبتة. وقد رأينا كيف قاومت سبتة المسلمين الفاتحين مقاومة عنيفة، وثبتت تجاه محاولاتهم المتكررة لفتحها، بفضل الإمدادات التي كانت تردها بحراً من القوط في إسبانيا، فلما تخلى القوط عن تزويدها بالإمدادت، صالحت المسلمين أو استسلمت لهم على أصحّ تعبير، لأنها عجزت عن مقاومتهم.
إنّ وجود قوّات معادية قويّة في الأندلس، خطر على الفاتحين وعلى مصير الفتح، وبخاصة في منطقتي طنجة وسبتة، لذلك بادر المسلمون بالتعرّض بالقوط في الأندلس، وفتح هذه البلاد، والهجوم هو أجدى وسيلة للدفاع.
والثالث: هو معاونة يليان للمسلمين وتعاونه معهم في الفتح، وتشجيعهم عليه، وحثِّهم على إنجازه، فقد سهّل يليان على المسلمين الفتح بدون شك، ولكنّهم كانوا يُقْدِمون عليه حتى ولو لم يتعاون معهم يليان ولم يعاونهم، لأن ذلك كان قدرهم في تلك الأيام.
ب - الاستطلاع:
بدأ موسى بن نُصير استشارته للخلافة في دمشق، وكان الخليفة حينذاك هو الوليد بن عبد الملك بن مروان (86 هـ - 96 هـ) قبل اتصالاته بيليان، أو قبل
اتصالات يليان بموسى. وقد تردّدت الخلافة بادئ الأمر بالموافقة على القيام بمثل هذه العملية الكبيرة، وخوفاً على المسلمين من ركوب البحر، ومن مصاعب القتال بحراً وبرّاً، وهي تعلم أنّ خبرة العرب المسلمين في فنون القتال البحري قليلة جداً، وربما يدور في خلدها وصف عمرو بن العاص للبحر في رسالته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي جاء فيها: "إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، ليس إلاّ السماء والماء. إن ركد خرق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول. يزداد فيه اليقين قِلَّةً، والشكّ كثرة. هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق
…
".
ولكن موسى بن نُصير، أقنع الخليفة الوليد بن عبد الملك بالأمر، فتمّ الإتفاق على أن يسبق الفتح اختبار مواقع الإنزال بالسرايا الاستطلاعية.
وأرسل موسى في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين الهجرية (710 م) سرية استطلاعية إلى جنوبي الأندلس، مكوّنة من خمسمائة مجاهد، منهم مئة فارس والباقي مشاة، بقيادة طريف بن مالك الملقّب بأبي زُرْعَة، وهو مسلم من البربر (1).
وعبر هذا الجيش الزُّقاق، والزُّقاق اسم يطلق أحياناً على المضيق بين الأندلس وشمالي إفريقية (2)، من سبتة بسفن يُليان أو غيره، ونزل قرب أو في جزيرة بالوما ( Isla de las Palomas) في الجانب الإسباني، وعُرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد. جزيرة طَريف (3)( Tarifa) ومن ذلك الموقع، الذي اتخذه طريف قاعدة أمامية متقدِّمة لعلمياته الحربية، قام طريف وسريته
(1) نفح الطيب (1/ 160، 229، 233، 253) والروض المعطار (8 و 127) والبيان المغرب (2/ 5) وانظر التاريخ الأندلسي (45).
(2)
التاريخ الأندلسي (130) نصّ ابن الشباط، والروض المعطار (83 و 127) ومقدمة ابن خلدون (1/ 427).
(3)
دولة الإسلام في الأندلس (1/ 20) وفجر الأندلس (67) وانظر الفتح والاستقرار العربي والإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (162).
الاستطلاعيّة القتالية، بسلسلة من الغارات السريعة على الساحل الجنوبي الأندلسي بإرشاد يليان، وخفّت قوّة من أنصار يليان وأبناء غيطشة لعون المسلمين، كما قامت تلك القوّة بحراسة موقع إنزال المسلمين في أرض الأندلس، للاستفادة منه في مرحلة العودة من غارتهم إلى قاعدتهم الرئيسية على البر الأفريقي في منطقة طنجة. وكانت نتيجة الغارات الاستطلاعية التي قادها طريف، أنّ المسلمين غنموا مغانم كثيرة وسبياً عديداً، وقوبلوا بالإكرام والترحيب، وشهدوا كثيراً من دلائل خصب الجزيرة وغناها، وعادوا في أمنٍ وسلام، وقصّ قائدهم على موسى نتائج رحلته، فاستبشر بالفتح، وجدّ في أهبة الفتح، كما تشجّع موسى وأخذ يستعدّ لإرسال حملة عظيمة تقوم بالفتح المستدام (1).
لقد كانت مهمة سرية طريف، مهمة استطلاعية، هدفها الحصول على المعلومات عن طبيعة الأرض، والسكان وأساليب قتالهم ودرجة ضراوتهم، وتفاصيل قيادتهم، ومبلغ الثقة المتبادلة بين القيادة والسكان ومبلغ حرص القيادة والسكّان على الدفاع عن أرضهم، وكان لقيام طريف بعدة غارات في المنطقة دون أن يلاقي أيّة مقاومة (2) نتيجة مهمّة واحدة، هي عدم حرص القيادة والسكان على الدفاع عن أرضهم، وهي نتيجة على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لخطط الفتح وبالنسبة للمسلمين الفاتحين.
ولكن مهمّة سرية طريف الاستطلاعية، لم تقتصر على هذه الناحية فحسب، بل تتعدّاها إلى استطلاع حقيقة نوايا يليان ومن يشايعه تجاه السُّلطة القائمة في الأندلس والمتمثلة بالملك لذريق، وحقيقة نواياه ومَنْ يشايعه تجاه المسلمين الفاتحين، وقد أثبتت مهمة سرية طريف الإستطلاعية، أنّ يليان
(1) Saavedra. op. pp. 64.
(2)
أخبار مجموعة (6) وفتح الأندلس (5) وابن الكردبوس (45) وذكر بلاد الأندلس (84) وابن الأثير (4/ 561) والبيان المغرب (2/ 5) والنويري (22/ 26) ونفح الطيب (1/ 160) و (1/ 253 - 254).
ومَن يشايعه يحقدون على لذريق ولا يتأخرون عن التشبث بكل وسيلة ممكنة للقضاء عليه، وأنهم من أجل التنفيس عن حقدهم عمليّاً، يضعون كل طاقاتهم المادية والمعنوية للتعاون مع المسلمين في ميدان القتال ومعاونتهم. وكان التأكد من تلك النوايا، ضرورياً لاستكمال الإعداد للفتح، وقد تأكد لموسى وطارق، أنّ يليان ومَن يشايعه صادقون في معاونتهم وتعاونهم مع المسلمين الفاتحين، وأن عرضهم التعاون والمعاونة ليس خدعة، بل حقيقة لا غبار عليها.
وقد وصفت المصادر العربية هذه العملية، فذكرت أنّ موسى بن نُصير كتب إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بالذي دعاه إليه يُليان من أمر الأندلس، ويستأذنه في اقتحامها، فكتب إليه الوليد: أن خضها بالسرايا، حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرِّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. وراجعه، أنه ليس ببحر زخّار، إثما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه. فكتب إليه: وإن كان، فلابد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه. فبعث موسى عند ذاك رجلاً عن مواليه اسمه طريف، يُكنى أبا زُرعة، في أربعمائة رجل معه مائة فرس، سار بهم في أربعة مراكب، فنزل في جزيرة تقابل جزيرة الأندلس المعروفة بالخضراء، التي هي اليوم معبر سفائنهم ودار صناعتهم، ويقال لها اليوم: جزيرة طريف، لنزوله بها (1). وهذا هو مثال لحرص المسئولين يومئذ، قادةً وخلفاء، على أرواح المسلمين، وقد أدّى طريف ومَن معه واجبهم الاستطلاعي المزدوج على أتم ما يرام.
…
(1) نفح الطيب (1/ 253) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان لابن خلكان (5/ 320) وانظر التاريخ الأندلسي (46).