الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الفتح
أ - الخطّة العامَّة:
جهّز موسى بن نُصَيْر جيشاً تعداده سبعة آلاف جندي من البربر، ليس فيهم من العرب المسلمين إلاّ القليل (1)، وينتمي البربر في هذا الجيش إلى قبيلة مصْمُودة وغيرها من القبائل البربرية مثل جرادة، ومطغرة، ومكناسة، ومَدْيُونَة (2)، وضم الجيش سبعمائة مقاتل من السودان (3)، ويمكن أن يكون هؤلاء السودان من المتطوعة الذين اعتنقوا الإسلام، فكان لهم دور كبير في مساعدة طارق في الفتح، لأن قتالهم كان قتال المجاهدين الصادقين لا قتال المجنّدين المرتزقة الذين جلبوا إلى ميدان القتال قسراً.
وعبر طارق بجيشه البحر تباعاً من سبتة في سفن يليان التجارية (4)، وكان عبوره من سبتة بسبب رغبة طارق في إيجاد مكان ملائم للإنزال على الشاطئ الإسباني في منطقة الجزيرة الخضراء التي تقابل سبتة، ولكنّ طارقاً تخلّى عن الإنزال في هذا المكان عندما وجد جماعة من القوط حاولت منع إنزال قواته، فأبحر منه ليلاً إلى مكانٍ وعرٍ من الشاطئ وقد حاول تسهيل عملية الإنزال
(1) الروض المعطار (9) ونفح الطيب (1/ 231 و 239 و 254) والبيان المغرب (2/ 6) ووفيات الأعيان (5/ 320).
(2)
ومصمودة من البرانس، وجراوة من زناتة التي هي من البتر، ومطغرة من البتر أيضاً، ومكناسة من البتر أيضاً، وكذلك مديونة، انظر ما جاء حول مشاركة هذه القبائل البربرية في جيش طارق الفاتح في: عبيد الله بن صالح (تحقيق بروفنسال) ص: 224 وعبيد الله بن صالح (المخطوط) ص:28 وابن خلدون (6/ 239 و 256 و 265 و462) وانظر الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال إفريقيا والأندلس (162). ذكر بلاد الأندلس (84) رقم 85ج وفتح الأندلس (85).
(3)
فتوح مصر والمغرب (205) وفتح الأندلس (5) وابن الكردبوس (46) وقارن Gayangos. vol.1.pp.519-520
(الابرار) باستخدام المجاذيف والبراذع الخاصة بالخيول، التي ألقيت على الصخور لتلافي خطرها، وبهذه الطريقة تمكن طارق من الإنزال المفاجئ من غير أن يراه أحد من العدو على الشاطئ (1).
وقد نُفِّذت عملية الإنزال في الليل، واستغرق الإنزال أكثر من ليلة واحدة، بسبب قلة المراكب، التي كانت دائبة على نقل الرجال بين الشاطئين، إلى أن تمّ إنزال جيش طارق بسلام على أرض إسبانيا. ويقول بعض المؤرخين، إنّ طارقاً كان آخر مَن عبر إلى إسبانيا (2)، ويقول آخرون: إنه أبحر في اللّيل مع أوّل جماعة، وإنه أخفى نفسه في الجبل حتى الليلة التالية، حيث أرسل المراكب مرة أخرى لتعود ببقية رجاله (3)، وعلى ذلك فيكون طارق قاد فعلاً المجموعة الأولى من قوّاته إلى الشاطئ الإسباني، ولكن ما إن هبطت هذه المجموعة بسلام، حتى عاد بالمراكب إلى سبتة، لكي يشرف على نقل بقية رجاله بنفسه، ومن ثمّ أبحر مع المجموعة الأخيرة من الرجال.
وتمّ الإنزال على صخرة تسمى: جبل كالبي ( Mons Calpe) التي اتخذت اسم طارق منذ ذلك اليوم، فأصبحت تسمى بجبل طارق، وجرى الإنزال يوم الاثنين الخامس من شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين الهجرية (4)(27 نيسان - أبريل سنة 711 م).
وهكذا يكون القائد الحق، يُشرف على إنزال الوجبة الأولى، لأن إنزالها يكون من أخطر الوجبات، ولأنها تكوِّن رأس الجسر للقوات التي يجري إنزالها بالتعاقب، فيشرف القائد على إنزال سائر الوجبات، حتى يكون مع وجبة الإنزال الأخيرة، ليطمئن أن قواته أكملت عبورها، وجرى إنزالها في المكان المناسب، ويتأكد من عدم تخلّف فرد من أفراد قواته عن العبور لسبب
(1) ابن الكردبوس (46) وانظر البيان المغرب (2/ 9).
(2)
البيان المغرب (2/ 6) ونفح الطيب (1/ 254).
(3)
فتوح مصر والمغرب (205 - 206).
(4)
نفح الطيب (1/ 119) والبيان المغرب (2/ 6).
من الأسباب.
ولكن، لماذا استعان طارق بسفن يليان التجارية؟
"كان يليان يحتمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنّون أنّ المراكب تختلف بالتجار"(1)، وهذا يدلّ على أنّ طارقاً استعان بسفن يليان التجارية، لأنه أراد أن يحيط عملية الإنزال بالسرية التامة، وذلك باستعماله مراكب تجارية لا تعود للمسلمين، لا لأن المسلمين لا يمتلكون السُّفن الكافية.
ومن الواضح، أن المسلمين حينذاك، كانوا يمتلكون سفنهم الخاصة بهم، فقد كان اهتمام المسلمين بصناعة السفن مبكّراً، إذ أدركوا حاجتهم إليها، فأقاموا عدّة دور لصناعة السفن، مثل دار الصناعة في تونس التي أقامها حسَّان بن النعمان الغسَّاني (2)، بل إنّ معركة بحرية كاملة خاضها المسلمون على شواطئ تونس سنة ثلاث وثلاثين الهجرية أو أربع وثلاثين الهجرية، هي معركة ذات السواري، استخدموا فيها أسطولهم المكون من مائتي سفينة (3).
وكان قد مضى على فتح الشمال الأفريقي عقود من السنين قبل فتح الأندلس، وكانت شواطئه الطويلة الممتدة على البحر الأبيض المتوسط (بحر الرّوم) والأطلسي، تجعل المسلمين بحاجة إلى السفن، وهو أمر لا يتم بالإعارة والاستئجار. وقد سبق للمسلمين نشاط بحري حربي انطلق من شمالي إفريقية، ففي سنة ست وأربعين الهجرية، وجّه معاوية بن خُدَيج (4) والي إفريقية أسطولاً عدّته مئتا سفينة لفتح جزيرة
(1) البيان المغرب (2/ 6).
(2)
انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 176 - 220) وانظر كتاب: وصف إفريقية للبكري (38 - 39) حول إنشاء دار الصناعة في تونس، وانظر كذلك: المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس لابن أبي دينار (15 و 35).
(3)
أُنظر: الاستيعاب (3/ 919) والعبر (1/ 34) وانظر تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضيّ (1/ 311).
(4)
انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح المغرب العربي (1/ 90 - 136).
صِقِلِّية (1). وفي سنة ست وثمانين الهجرية، وجه موسى بن نُصير حملة على صِقِلِّيّة محمولة على مراكب صُنعت فى تونس (2).
وكل ذلك يؤكد أن للمسلمين دور صناعتهم، ولكن استعانة طارق في عبور قوّاته بسفن يليان، كان لتأمين مباغتة القوط الكاملة، لا عن حاجة للسفن، وبعد انكشاف حركة إنزال المسلمين الأولى، نُقل المدد إلى طارق بالسفن الإسلامية:"وكان موسى منذ وجّه طارق لوجهه، قد أخذ في عمل السفن، حتى صار عنده منها عدّة كثيرة، فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مدداً"(3).
وجرى تجمع جيش طارق بعد إكمال إنزاله في الطرف الإسباني، على جبل صخري، عُرف فيما بعد باسم جبل طارق ( Gibraltar) كما عرف به المضيق باسم مضيق جبل طارق، وبكلّ اللغات، وهذا ذكرى لطارق وعملية إنزال جيشه، وتخليداً لبطولته.
ومنذ بدأ إنزال جيش طارق على الساحل الأندلسي، بدأ رجال طارق بتحصين موضع الإنزال، الذي أصبح منطقة التجمع لجيشه في جبل طارق، كما تشير إلى ذلك بعض الروايات (5)، "فلما حصلوا في الجبل، بنوا سوراً على أنفسهم يسمى سور العرب
…
إلخ" (6) فشكك بعض المؤرخين الغربيين وتابعهم في هذا التشكيك بعض المؤرخين العرب والمسلمين تقليداً، فقالوا من جملة ما قالوا: "ومن غير المحتمل، أن يكون طارق قد حصّن منطقة جيشه في جبل طارق، كما تشير إلى ذلك بعض الروايات، لأن هدفه الأول لم
(1) البيان المغرب (1/ 16 - 17).
(2)
البيان المغرب (1/ 42).
(3)
نفح الطيب (1/ 257).
(4)
نفح الطيب (1/ 145 - 146 و 159 - 160).
(5)
ذكر بلاد الأندلس (84 - 85) والبيان المغرب (2/ 9) وابن خلدون (4/ 245) ونفح الطيب (1/ 232).
(6)
البيان المغرب (2/ 9).
يكن البقاء على الصخرة، بل فتح المناطق المجاورة للجزيرة الخضراء، والسيطرة على الجانب الإسباني من المضيق، لحماية تجهيزاته ومواصلاتها في شمال إفريقية"، وهذا هو مجمل ما جاء في تشكيكهم أو اعتراضهم على ما ورد في المصادر العربية المعتمدة حول التحصين.
ومن الواضح، أن المؤرخين الغربيين الذين اعترضوا عى ما سجلته المصادر العربية، حول تحصين منطقة تجمع جيش طارق فى جبل طارق، وشايعهم على اعتراضهم قسم من المؤرخين العرب والمسلمين، لم يفهموا المعنى الدقيق للتحصين الذي سجلته المصادر العربية المعتمدة، فحفر الخنادق في المواضع الممكن حفرها هو تحصين، فإذا كانت الأرض صخرية كما هو الحال في منطقة جبل طارق، فإن التحصين يتم بإقامة جدار من الصخور المتيسرة والأحجار، يحتمي وراءه المقاتلون من سهام العدو المصوبة نحوهم ليلاً أو نهاراً، وإقامة الجدار للحماية بالصخور والأحجار هو تحصين أيضاً، وهو ما قصدته المصادر العربية المعتمدة، لا إقامة الحصون المشيدة، كما فهمها بعض المؤرخين الغربيين ومن شايعهم من المؤرخين العرب والمسلمين. والمدنيّون الذين لم ينتسبوا للسلك العسكري في يوم من الأيام، معذورون في سوء فهمهم لتعبير: التحصين (1)، كما ينبغي.
إن من واجب كل مقاتل، أن يحصن موقعه، حتى ولو بقي فيه ساعة من نهار أو ليل، ومن واجب القائد ورجاله ألاّ يغفلوا عن تحصين مواقعهم، استعداداً لأسوأ الاحتمالات، وذلك للدفاع تجاه تعرّض معادٍ محتمل، فهذا
(1) في الكليات العسكرية يتلقى الطلاب درساً مهماً هو درس: التحصين، يتدرّبون فيه على حفر أنواع الخنادق، في الأماكن الممكن حفرها، وإقامة المنعات من الحجارة والصخور وزرع الربايا في المناطق الجبلية، ثم يعملون في التمارين التعبوية على تحصين مواقعهم بالخنادق أو الصخور والحجارة فور الوصول إليها حتى ولو كان بقاؤهم فيها مدة قليلة جداً، وعملهم فى الحفر وإقامة المنعات والربايا الصخرية يسمى: التحصين، وهو من أوّل واجباتهم بعد وصولهم إلى أي موقع من المواقع. وفي اللغة حَصُنَ المكانُ: مَنُعَ.