الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عُدنا ولولا نحن أحدَقَ جمعهم
…
بالمسلمين وأحرزوا ما جَمَّعوا
وقد يخض الإمام بالسلب بعض الغزاة؛ لشدَّة عنائه وبلائه، فإنَّ تصرُّف الأئمة وولاة الأمر في شؤون المسلمين منوط كله برعي المصالح الخالصة، أو الراجحة، أو المساوية دون المصالح المرجوحة وما ليس بمصلحة فهم معزولون عن التصرف به.
وقد أشار بقوله: «ولم يبلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل قتيلاً فله سلبه إلا يوم حنين» إلى أن ذلك العموم مخصوص بذلك اليوم للمصلحة التي ذكرنا وأن رسول الله لم يقل مثله في غير ذلك اليوم قبله أو بعده، فدلَّ على أنه لم يصدر عنه مصدر الفتوى والتشريع؛ بل مصدر الحثِّ والتشجيع. فالعجب من غفلة القرافي عن هذا الاستدلال البديع.
مَا جَاءَ في الغلُولِ
مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الناس في قبائلهم يدعو لهم، وأنه ترك قبيلة من القبائل، قال: وإن القبيلة وجدوا في بردعة رجل منهم عقد جزع غلولاً، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليهم كما يكبر على الميت.
هذا الحديث مما انفرد به مالك رحمه الله من بين أهل الصحيح. وهو من غرر «الموطإ» وهو مرسل. قال ابن عبد البرِّ: لا أعلمه روي مسندًا بوجهٍ من الوجوه. اهـ.
وعبد الله بن المغيرة بن أبي بردة لم أقف على ترجمته في «الكاشف» للذهبي ولا في «تذهيب تهذيب الكمال» ولا ذكره شراح «الموطإ» ولا السيوطي في «إسعاف المبطإ» . وأما أبوه المغيرة فذكر صاحب «الكاشف» وصاحب «التهذيب» وعليه علامة أنَّه أخرج له أصحاب السنن الأربعة، وقالا: روى عن أبي هريرة وروى عنه يحيى بن سعيد وسعيد بن سلمة ووثقه النسائي.
وأبو بردة لم يترجمه «الكاشف» و «التذهيب» وذكر الزرقاني عن «الإكمال» أن أبا زرعة الرازي سئل عن اسمه، فقال: لا أعرفه.
وقوله: «أتى الناس في قبائلهم» معناه أتى الجيش في منازلهم قبيلة قبيلة. وقد كانت الجيوش المجموعة من قبائل شتى تُقسم على حسب القبائل كما ورد في وصف جيش فتح مكة. وكان ذلك من عهد الجاهلية يقولون: خرجوا متساندين، إذا كانوا قبائل شتَّى على كل قبيلة قائدُها. والظاهر أنَّ هذا الخبر كان في غزو الفتح أو غزو حُنين عقبها عند الانتهاء من القتال.
وقوله: «فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبًّر عليهم كما يكبِّر على الميت» هذا التكبير معناه أنَّهم فقدوا بفعله صاحبهم أهمَّ وظائف الحياة في المعاملة وهي وظيفة ردع بعضهم بعضًا عن الخسائس والجرائم، ويقظتهم لضبط أمورهم على سنَّة العرب في مؤاخذة القبيلة بجنايات آحادها، قال النابغة:
أجدَّكُمُ لن تزجروا عن ظُلامة
…
سفيهًا ولن ترعوا لودِّيَ آصرة
ومن آثار اعتبار تلك السنة في الإسلام جعل الدية على القبيلة، فلمَّا لم يزجروا من هو منهم عن السرقة من الغنيمة جُعلوا كالأموات، وجعل ذلك الغال كمن لا قبيلة له، فذلك كقولهم: هو حيِّ كميت، وقوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] وقول الشاعر:
لقد أسمعتَ لو ناديت حيًّ
…
ولكم لا حياة لمن تنادي
أي: لقد أسمعت لو كان الذين تناديهم يجيبون الداعي، ولكنَّهم كالأموات. فالتكبير هنا مكنية؛ لأنَّه من لوازم من مات بحدَثان موت. والمقصود من التكبير التعليم، وتأديب القبيلة، وإيقاظها إلى مساوي آحادها ليرجعوا عليهم باللائمة والغضب فيرتدعوا، وليعلموا أن حراسة حقوق الله تعالى، ورعى آداب الإسلام أوكد وأولى من حراسة حقوق الناس، فإنهم من قبل الإسلام كانوا يصدون سفهاؤهم عن ارتكاب المحارم خشية المغارم. فحقوق الله أولى بالعناية المشتهرين بها من عهد الجاهلية. وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن صوم كان على أبيه:«ضم عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ فدين الله أحق بأن يقضى» ؛ فإنه تنبيه إلى العناية بحقوق الله وأن لا يستخف بها؛ لأن ذلك يجر إلى تضييعها. وليس في ذلك التكبير إشارة إلى حكم شرعي يتعلق بالقبيلة؛ إذ لا تزر وازرة وزر أخرى خلافًا لما ذهب إليه الباجي وابن عبد البر فيما نقله الشارح الزرقاني، ومثله سلك ابن العربي في «ترتيب المسالك» وفي «القبس» .
***
ووقع فيه قول ابن عباس:
«ولا حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الدم» .
أي: فشا فيهم الاعتداء بقتل بعضهم بعضًا. فالدم يطلق على إصابته، ومنه ما في خطبة حجَّة الوداع، «وإن دمَاء الجاهلية موضوعةٌ» .