الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معصية، إذ لا يترتب عليها فساد في المعاملات بين الناس؛ ولكنها غضاضة في المعاملة، ولنظائرها حكم الكراهة لا حكم التحريم فقياسها الكراهة. وقوله:«شر الطعام» أراد بالشر أقل الطعام ثوابًا. فالشر مستعمل في عدم النفع في الآخرة، وإلا فإن الوليمة مطلوبة وقد أمر رسول الله بها عبد الرحمن بن عوف وهي من سنة النكاح والإجابة مأمورٌ بها شرعًا، ولكن لما كانت الوليمة لا يقصد بها معين كانت دون إطعام الفقير، ودون إضافة ابن السبيل، ودون إطعام الصديق والقريب وربما عرض لها الرياء.
والأظهر أن تجعل جملة: «يدعى إليها الأغنياء» صفة للوليمة، أي: التي يقصد أن لا يدعى إليها الفقراء لفقرهم، فيكون تحذيرًا من هذا القصد؛ لأن ذلك ناشئ عن الكبر والرياء وليس المراد أن الوليمة كلها كذلك، والمشاهد أن الولائم تقع على الحالتين.
جامع النكاح
مالكٌ عن أبي الزبير المكي: أن رجلاً خطب إلى رجلٍ أخته، فذكر أنها قد كانت أحدثت، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه أو كاد يضربه، ثم قال: ما لك وللخبر.
كان هذا الرجل قد حسب أن إخباره الخاطب بأن مخطوبته أحدثت، أي: زنت أمرٌ مشروعٌ، وأن كتمانه ضرب من الغشٍّ للخاطب وكان مخطئًا في حسبانه ذلك، وإخباره بذلك غير مشروع؛ فلذلك ضربه عمر أو كاد يضربه؛ لأنه لو فعل أمرًا مشروعًا لما أدبه على فعله، فالضرب تأديبٌ ظاهر، والهم بالضرب همًّا قويًّا -على ما شك فيه الراوي- تأديب أيضًا إذا كان الرجل من أهل الفضل؛ لأن عمر ما هم بضربه إلا لأنه يجوز له ضربه إذ كان عمر وقافًا عند أحكام الشرع، فإن كان الحاصل من عمر ضرب الرجل فهو لم يعذره بجهل إذ لعل مثله ما كان يجهل سوء ما لمولاته لو تأمل ولم يعجل، وإن كان الحاصل منه مجرد العزم على ضربه، ثم لم يضربه؛ فقد عذره عمر بأنه أراد خيرًا.
ووجه الفقه في هذا كله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بستر المسلم فيما زل فيه من المعاصي فقال في الحديث الصحيح: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» . وفي الحديث الآخر: أنه زجر الذي أخبره بزنا رجلٍ مسلم فقال له: «هلا سترته بردائك» ، وغير ذلك من الآثار، فحصل العلم بأن من مقاصد الشريعة الستر على المسلمين في المعاصي ما لم يخش ضرٌ على الأمة؛ لأن في الستر مصالح كثيرة، منها: إبعاد المقترف عن استخفاف الناس به وكراهيتهم له، ومنها أن في التسميع بالعاصي مظنة قصد التشويه به، فيحدث من ذلك سوء نية للمشهر به، ومنها أن إشاعة المعاصي تسهل أمرها على متجنبها؛ إذ النقائص تسهل بكثرة مرتكبيها، يقول من تنزع نفسه إليها: أن له نظائر وأسوة في غيره فبإشاعتها توقظ عيون الدعارة والفساد، وهذا مما يشير إليه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [النور: 19]، ومنها أن من حصلت منه المعصية على وجه الفلتة إذا ستر أمره بقي له وقاية مروءته فلعله لا يعاود تلك المعصية فإذا افتضح زال ذلك الاتقاء، فقال: أنا الغريق خوفي من البلل، ومنها أن التشهير يحدث عداوة بين المشهر والمشهر به، وذلك ينافي مقصد الإسلام من دوام الألفة والمحبة بين المسلمين.
فلأجل ذلك كله وغيره أدب عمر من شهر بأخته؛ لأن تلك المقاصد التي ذكرناها هي أقوى واكد في جانب الأقارب بله الإخوة، وليس هنالك ما يعارض؛ إذ لا منفعة للخاطب في إعلامه بما أحدثته مخطوبته؛ فإنه ذنب مضى وليس هو عيبًا في الخلقة يجب الإعلام به لتجنب الغرور بالخاطب؛ كعيوب الأبدان والأخلاق من مرض أو جنون أو حماقة قوية تمنع حسن المعاشرة، على أن الإخبار بمثل ذلك يوجب انكفاف الرجال عن تزوج المرأة؛ ولذلك قال له عمر:«ما لك وللخبر» ، يعني لا داعى إلى ذلك الخبر ولا فائدة، فإن الاستفهام في قوله:«ما لك» استفهام إنكاري هو في معنى النفي، أي: ليس لك مع هذا الخبر اتصال واختصاص.
ثم إن كان الذي أحدثته المرأة لا يعلمه إلا أخوها وخاصتها فوجوب كتمانه عن
الخاطب ظاهر، وإن كان قد اشتهر بين الناس؛ فوجوب كتمانه عن أهلها وجيه؛ إذ كان على الخاطب أن يستعلم على مخطوبته من غير أهلها وأن يستشير ذوي نصيحته، وليس الولي بمستشار، وكل ينصح لمواليه، وهذا الأخ قد عكس سنة المعاملات القومية، كما قال مرة الفقعسي الحماسي:
رأيت موالي الألى يخذلونني
…
على حدثان الدهر إذ يتقلب
فإن كان فعل ذلك خشية أن يطلع الخاطب بعد التزوج على حدث زوجته، فليس الذي يحصل بعد اطلاعه بأشد عاقبةً مما أخبره أخوها قبل الزواج.
* * *
قوله: غير أن القاسم بن محمدٍ قال: طلقها في مجالس شتى.
يتعين ضبط «طلقها» بصيغة الأمر، أي: قال للوليد بن عبد الملك ذلك حين أفتاه بأنه إذا طلق إحدى زوجاته الأربع طلاق البتات، أنه يتزوج امرأة عقب ذلك ولا ينتظر أن تنقضي عدة المرأة التي طلقها، وعلى ذلك بنى أبو عمر بن عبد البر كلامه فنقل عنه الزرقاني أنه قال:«أراد أن يشتهر طلاقها البتات ويستفيض؛ فتنقطع عنه الألسنة في تزوج الخامسة» . ويؤيد هذا قول القاسم: «في مجالس شتى» لوجوهٍ:
أحدها: أن طلاق البتات لا يتعين لاعتباره بتاتًا وقوعه في مجالس شتى، بل يكون ولو بكلمة على ما أجمع عليه الصحابة من أثناء خلافة عمر بن الخطاب وتبعهم جمهور العلماء.
والثاني: أنه لو أراد تعديد صيغ الطلاق؛ ليكون بتاتًا لقال له في مجالس ثلاثة، وأما لفظ «شتى» ، فهو مفيد للكثرة لقصد الاشتهار.
والثالث: أنه لو كان المراد به تكرر صيغ الطلاق لكان فضولاً من القول؛ لأن الفتيا إنما صدرت على من طلق زوجه الرابعة طلاق البتات؛ وإنما أراد القاسم بن محمد تنبيه الخليفة إلى ما يكف عنه ألسنة المتقعرين المرجفين أن يقولوا: طلق زوجة
رابعة وتزوج قبل انقضاء عدتها فتكون الجديدة خامسة ولا يبينون كيفية طلاق الرابعة.
وعلل الباجي في «المنتقى» كلام القاسم بن محمد بتعليلٍ ضعيفٍ فانظره، وقد ضبط في بعض نسخ «الموطإ» بصيغة الماضي، واستظهره الشارح الزرقاني وهو خطأ.