الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الطهارة والصلاة
وُقُوت الصلاة
الصلاة عبادة معروفة، وهي ثانية قواعد الإسلام، وأول ما شرع الإسلام لعموم المسلمين من الشرائع، فرضت بالوحي ليلة الإسراء، وذكرها القرآن في آيات كثيرة. ولا حاجة بنا إلى التعرض لاشتقاق لفظها، وأجدر منه بالتعرض أن لفظ الصلاة كان معروفًا عند العرب في جاهليتهم في معنى عبادة لله تعالى ومناجاة وخشوع، وقد عرفوا ذلك من اليهود، والنصارى، ومن الصابئة من قبل، ولذلك لما رأى المشركون المسلمين يصلون وعلموا أنهم ليسوا يهودًا ولا نصارى سموهم الصابئة، وقالوا لمن يسلم: صَبَأ، ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصابئ. ومما يدل على أن لفظ الصلاة معروف عندهم تسميتهم كنيسة اليهود صلاة، وقول النابغة يذكر دَفن النعمان بن الحارث الغساني:
فآب مصلوه بعينٍ جَلية
…
وغودر بالجَولانِ حزمٌ ونائل
روي بالصاد المهملة، أي: الرهبان الذين صلوا لأجله، وروي بالضاد المعجمة أي: دافنوه؛ ومن أجل ذلك لم يسأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الصلاة حين نزلت الآيات التي فرضت بها، ولكنهم طلبوا بيان كيفيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي» .
والصلاة نموذج من عبادات الله تعالى، ففيها توحيده، والثناء عليه، والاعتراف بالعبودية، والالتجاء إليه، ولذلك كانت أعظم مظاهر الشكر، إذ جمع فيها بين الاعتقاد، والقول، والعمل، كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثةٌ
…
يَدي ولساني والضميرَ المحجبا
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [سورة النساء: 103]. وكانت علامة على الإيمان، ولذلك وصف المسلمون بأنهم أهل القبلة.
ولم يختلف علماء الإسلام في عقوبة تارك الصلاة عقابًا شديدًا، وإنما اختلفوا في دلالة تركها بعد الوعظ والتأخير إلى آخر وقت الصلاة على كفر تاركها، فقال بكفره جمع من الصحابة والأئمة وهو قول ضعيف المدرك؛ إذ لا كفر بذنب عند كافة أهل السنة وإثبات ذلك في ترك الصلاة دون غيرها من العبادات تحكم.
عناية الشريعة بأمر الصلوات الخمس عناية قوية، ومن آثار تلك العناية أن حددت للصلوات أوقاتًا توقع فيها؛ لئلا يكون إيكال ذلك إلى تعيين الناس لأنفسهم أوقاتًا، وسيلة إلى التقاعس عنها، وتعلة النفوس بالمطل فيها، فتجتمع صلوات فتثقل على المصلي فيتركها.
وكان من الحزم لإقامة الصلوات أن تعين لها أوقات ضيقة، إلا أن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء، فوسع على الأمة أوقات الصلوات رفقًا بهم، وليَظهر تفاوت حرصهم على العبادة، فلذلك لم يختلف علماء الأمة في أن أوائل الأوقات أفضل لإيقاع الصلوات، أو هي متعينة عند القائلين بأن الوقت الذي هو أداء هو أول الوقت وما بعده قضاء سدَّ مسد الأداء، وهو نظر ضعيف، ثم جعلت الشريعة لأهل الضرورات سعة أخرى في الوقت، وما بعد ذلك فهو قضاء يُعدُّ المؤخر إليه آثمًا.
فأوقات الصلوات هي أزمنة مقدرة لإيقاعها بتقديرٍ من الله تعالى.
ولا شك أن تعيين تلك الأوقات مشتمل على حكم ومصالح.
وجماع القول فيها عندي: إنها أوقات لذكر الله تعالى بابتداء شئون الناس، وانتهاء تلك الشئون ليراقبوا الله في أعمالهم وصنائعهم، وليشكروه عند العود منها بأحوال الشمس ظهورًا ومغيبًا؛ لأن الناس على أحوال الشمس انتظمت مبادئ شئون الناس ونهاياتها، وتلك الشئون هي الهبوب من النوم، والرجوع من العمل، واستقبال عمل المساء، والرجوع منه، والاستعداد للنوم. فتلك على الترتيب: هي الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. ومناسباتها الروحية لشكر الله تعالى، الذي هو السر الأعظم للصلاة واضحة للمتأمل.
وقد ذكر القرآن أوقات الصلوات واستوعبها إجمالًا بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ} [سورة الإسراء: 78]، وبقوله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [سورة هود: 114]، وبقوله:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [سورة الروم: 17 - 18].
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الإجمال، ورواه المسلمون بالتواتر والإجماع.
مالك عن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يومًا فدخل عليه عُروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شُعبة أخر الصلاة يومًا وهو بالكوفة، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أنَّ جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله. ثم قال: بهذا أُمرت، فقال عمر بن عبد العزيز: اعلم ما تحدث به يا عروة، أو إن جبريل هو الذي أقام لرسول الله وقت الصلاة؟ قال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يُحدث عن أبيه
…
هذا الحديث أغر، ففيه مراجعة فقيهين لأميرين، وفيه تلقّي تابعي عن تابعي، وصحابي عن صحابي، ورسول عن رسول، وكان عمر بن عبد العزيز أمير المدينة، وكان المغيرة بن شعبة أمير الكوفة، وفي هذا الحديث بيان إجمال آيات أوقات الصلوات.
ومعنى تأخير عمر بن عبد العزيز الصلاة أنه أخَّرها عن أول وقتها.
وإخبار عروة عمر بن عبد العزيز بحديث أبي مسعود يقتضي أن عروة نهى ما رآه أبو مسعود، وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة عن مالك.
فمعنى إخبار عروة عمر بن عبد العزيز، وقول أبي مسعود للمغيرة إنكار على التأخير، وفيه دليل على أن السلف كانوا يخشون أن يكون أول الوقت هو المتعين لإيقاع الصلاة أو أن التأخُّر عنه بدون وجه إثم كشأنهم في المحافظة على السنة. وهذا قول من يرون أن الواجب الموسَّع وقته هو أول الوقت، وأن ما بعده قضاء سد مسد الأداء.
والجمهور على أن جميع وقت الواجب الموسَّع وقت أداء. ولعل أبا مسعود كان يرى الوقت هو أول الوقت، فلذلك قال أبو مسعود للمغيرة: أليس قد علمت، الدال على أن هذا كان غير خفي. وقد اختصر أبو مسعود الحديث؛ لأنه وكله إلى ما في علم المغيرة من تفصيله.
ومحل الاحتجاج منه قوله: «أن جبريل نزل فصلى» ؛ لظهور أن المراد نزل عند الوقت، أي ابتدائه، وقوله:«فصلى رسول الله» أي حين صلى جبريل أو صلى مع جبريل إمامًا أو مأمومًا بجبريل، كل ذلك لا جدوى للبحث فيه في غرضنا الذي هو بيان أن النزول عقبته الصلاة بلا تريث، وأن نزول جبريل لتبيين الوقت لا لأنه مكلَّف بمثل صلاة البشر.
وظاهر أن النزول تكرر في الأوقات الخمسة، وظاهر أن قول جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:«بهذا أمرت» ، يقتضي أنه مأمور بجميع تلك الحالة المشار إليها، بقول جبريل:«بهذا» . ومن جملتها ما دلت عليه الفاء في قوله: فصلى، أي جبريل. وقوله: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرات الخمس فهو مأمور بالمبادرة بالصلاة في أول الوقت.
ثم يجيء على كون أوقات الصلوات ذات مبادي ونهايات أن معنى الأمر بأول الوقت أنه تأكيد أو أمر لغير ذي العذر، كما بينته الآثار المذكورة عقبه وغيرها، وتخريج الوجوه في تلك الاحتمالات غير عسير، والشريعة لا يفارقها التيسير.
وزعم بعض الناس أن حديث مالك هنا مختصر، وأن بسطه في كتابي الدارقطني والطبراني لا أعيره أذنًا.
واعلم أن صلاة جبريل قصد منها تبليغ صفة الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التبليغ بالفعل أشد بيانًا واختصارًا؛ لأن من الأفعال ما لا تحيط به العبارة، وهذا أيضًا هو وجه إعادة جبريل الصلاة في الأوقات الخمسة، لاختلاف صفات الصلوات في عدد الركعات، وفي صفة القراءة، وفي مقدار ما يقرأ في كل ركعة، وفي موضع القراءة، وغير ذلك من الصفات.
واعلم أن الله أراد تشريف أوقات الصلاة، فلما كان فرضها في الإسراء بحضرة الملائكة، أرسل الله تعالى جبريل لبيان أوقاتها.
وها علم أن قول عروة: «كذلك كان بشير بن أبي مسعود يُحدث عن أبيه» ، معناه
كذلك اللفظ الذي أخبرتك به، كان بشير بن أبي مسعود يقول مثله.
وقول أبي مسعود للمغيرة: «أليس قد علمت» صريح في أنه يعلم أن المغيرة عالم بذلك، وهذا يقتضي أن ذلك كان مشهورًا بين الصحابة ينقله بعضهم عن بعض، والمغيرة من الذين يظن أنهم حضروا ذلك، أو تلقوه عن الذين حضروا.
وقول عمر بن عبد العزيز: «اعلم ما تحدث به يا عروة» أمر له بأن يتحقق في ذلك؛ إذ لم يكن قد بلغ عمر بن عبد العزيز من غير عروة؛ لأنه بينه بقوله: «إن جبريل نزل» إلخ، المقتضي أن جبريل أقام لرسول الله وقت الصلاة، أي حدده، كما تقول: أقمت قبلة المسجد. فقوله: وقت الصلاة، منصوب على أنه مفعول به بفعل أقام وليس منصوبًا على الظرفية.
***
قال عُروة: ولقد حدثتني عائشة زوج النبي أن رسول الله كان يُصلي العصر والشمس في حُجرتها قبل أن تظهر.
تردد الشارحون في هيئة الشمس التي تستفاد من هذا الحديث، والذي أرى أن المقصود منه التبكير في وقت العصر، وأنه لا يؤخر إلى العشي. والظاهر أن حجرة عائشة كانت تفتح إلى جهة بين القبلة والغرب، فلا تغيب الشمس عن الحجرة بعد الزوال، وأن هذا المفتح هو مفتح الحجرة من خلفها، أي من جهة الطريق؛ لأن باب الحجرة كان يفتح في المسجد إلى جهة الشام، وهي جهة الشمال بانحراف؛ لأن بابها المفضي إلى المسجد كان في حائط القبلة، وقبلة المدينة من الجنوب بانحراف يسير إلى الشرق، وأن الشمس كانت في وقت العصر في حجرتها.
ومعنى «قبل أن تظهر» قبل أن يظهر قرصها للواقف في الحجرة؛ وذلك لقصر حائط الحجرة، بحيث كان أقل من قامة الإنسان. وقد وصف وقت صلاة العصر بأنه أن يظهر قرص الشمس إلى بصر الرائي الواقف غير منكس رأسه ولا مُطأطئ له. ويؤيد
هذا ما في «المنتقى» عن حبيبٍ كاتب مالك عن مالك أن معنى «تظهر» : أن الشمس في الأرض لم تبلغ الجدار، أي: لم تظهر فيه. فهذا تفسير هذا اللفظ.
***
مالكٌ عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أنه قال: كُنا نُصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى قُباء، فيأتيهم والشمس مرتفعةٌ.
يريد: أن الذاهب يذهب إلى قباء راجلاً. وفي هذا دليل على أن أول وقت العصر أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي زالت عليه الشمس، خلافًا لمن رأى أن وقت العصر متأخر عن ذلك. وقد اختلفت الرواية عن الزهري، فبعضهم روى عنه «ثم يذهب الذاهب إلى قباء» وهي رواية مالك وابن أبي ذئب. وروى جمهور رواة الزهري وبعض رواة الموطأ «يذهب الذاهب إلى العوالي» ، والعوالي: القرى المتصلة بالمدينة من الجهة النجدية. قالوا: وهي تمتد إلى منتهى ثمانية أميال على المدينة. واختلفوا في أن قباء من أقصاها أو من أدناها، فقيل: هو على ثمانية أميال من المدينة. وقيل: هو على ثلاثة أميال. والصواب: أنه ثلاثة أميال، كما جاء صريحًا في قول مالك رحمه الله في كتاب الصلاة الثاني من «المدونة» في نقل أبي الوليد الباجي.
قال الباجي: «ومالك أعلم ببلده وأماكنها، على أنه أثبت أصحاب الزهري وأحفظهم، فإذا خالفته رواية غيره عن الزهري قضي لمالك» اهـ.
أقول: وجه هذه الحيرة بينهم ومصير معظم أهل الحديث إلى ترجيح رواية «يذهب الذاهب إلى العوالي» اعتدادهم بكثرة رواة ذلك عن الزهري مع ظنهم أن قباء على