الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتفقهين هو الذي دعا السائل إلى سؤاله، وقد كان جواب مالك عن ذلك متوجهًا إلى التنبيه على مسألة تندرج في صور السؤال وجوابه، وهي أن هذا العود قد يكون عودًا إلى المرأة الواحدة وقد يكون عودًا إلى امرأة أخرى، وهذه الأخرى قد تكون أمةً وقد تكون حرةً، وحكم العود قبل الاغتسال لا يختلف في تلك الصور من حيث هو عود قبل غُسل؛ ولكنه يختلف بتعلُّقه بحكم آخر، وهو اقتضاء بعض صوره أن يكون العود إلى امرأة أخرى حرة، فهذه المرأة إذا لم تكن هي صاحبة يوم زوجها لم يجز له أن يصيبها في يوم الأخرى إلا بإذنها. وبذلك يعلم أن ما ورد من طواف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه في غسلٍ واحد، أي: في ليلة واحدة أو وقت بين وقتي صلاة من النهار هو خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، أو كان ذلك بإذنهن، أو لكونه سوى في ذلك بين جميعهن. وأفاد جواز إصابة امرأتين فأكثر في جنابة بقوله:«لا بأس أن يصيب الرجل جاريتيه قبل أن يغتسل» .
التيمُم
أمر التيمم في الإسلام دقيق. ولقد تحيرت زمانًا في تطلب الحكمة التي لأجلها شُرع التيمم، فإن الطهارة مشروعة لذاتها، وجُعلت مقارنة للصلاة جمعًا بين الكمالات وتنويهًا بشأن الطهارة كما تقدم، وبقدر الصلاة وهي أعظم، وما يعرض للمسلم مما يمنعه من التطهر لفقد ماء، أو خوف من الوصول إليه، أو مرض هو مقتضٍ للعفو عن إيجاب الطهارة عليه، جريًا على تيسير الإسلام، وكان مناسبًا أن لا يقتضي تركه صلاته؛ لأن الصلاة أهم من الطهارة؛ ولأن تعذر الوسيلة لا ينبغي أن يجر إلى تعطيل المقصد. فكان وجوب الصلاة مع تعذر الطهارة شرعًا واضحًا، وكان تعويض الطهارة المائية بطهارة مائية أخرى متعذرًا، فكأن النظر يقتضي أن تسقط الطهارة عن عادم الماء والعاجز؛ ولذلك لما عدم المسلمون الماء في غزاة بني المصطلق تحيروا في أمر الصلاة، فنزلت آية التيمم. ولما أصابت عمر جنابة في غزوةٍ لم يصل، وأصاب عمارًا مثلُه،
فتمرغ في التراب وصلى.
وقال عمران بن حصين: رأى رسول الله رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال له:«ما منعك أن تُصلي في القوم؟ » قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال:«عليك بالصعيد، فإنه يكفيك» ، فكان تعويض الطهارة المائية بغير مائية شرعًا غريبًا خفي الحكمة، وكنت زمانًا أحسبه من متشابه الشريعة، ولكني لم ألبث أن ألهمت إلى حكمة دقيقة فيه لم تبد لأحد فيما رأيت، تلك هي التنبيه على عظم قدر الصلاة، وتأكد وجوب التطهر لها، بأن أرادت الشريعة إقامة عمل مُقام الطهارة، حتى لا يستشعر المسلم أنه يناجي ربه بدون تطهر، وحتى لا تفوته نية التطهر للصلاة، فلا يفوته ذلك المعنى المنتقل به من طهارة الظاهر إلى طهارة الباطن، وحتى لا يظن أن أمر الطهارة هينٌ، وفي إقامة ذلك العمل مقام الطهارة تذكير مستمر بها، حتى لا ينسى العود إليها عند زوال ما منعه منها.
هذا العمل هو عمل رمزي محض، وهو توهم المتطهر أنه يتطهر بمصدر الماء ومنبعه قراره، وهو الحجر والتراب إذ الأرض منبع الماء وقراره، قال الله تعالى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَار} [البقرة: 74]. وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون: 18] فأولى الأشياء بالماء وأقربها إليه هو الأرض وما ظهر عليها، وهو الصعيد المقصود في آية التيمم.
وأحسب أنه لا يوجد حكم وهمي في شرائع الإسلام غير التيمُّم، فلا تنتقض القاعدة التي أصلناها في كتاب «أصول النظام الاجتماعي» ، وهي أن الإسلام حقائق لا أوهام.
ولكون التيمم طهارة رمزية اكتفى فيه بمسح الوجه واليدين عن الوضوء وعن الغسل مع أنهما دون أعضاء الوضوء، بله أعضاء الغُسل. وقد ظن عمار بن ياسر رضي الله عنه لزوم إحاطة الجسد بالمس بالتراب للجنابة، فتمرغ في التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يكفيك الوجه والكفان» رواه البخاري وغيره.