الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كشف المغطى
من المعاني والألفاظ الواقعة
في الموطأ
كِتَابُ الحَجٌ
أصل الحجَّ من الحنيفية، أذن الله به خليله إبراهيم عليه السلام؛ ليتم مرادُ الله تعالى من تأهيل ذلك الوادي المبارك بذرِّية إبراهيم؛ فيكونوا في معزل عن الاندماج في مساوي الأمم الضالة، وفي منجاة من مساوي الأخلاق الموروثة من فاسد الأعراق، فإنَّ الأخلاق تتلاقح بالقرب، وتُعدي الصحاحَ مباركُ الجُرْب، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 35 - 37] فقد عُلم أنَّه لم يسكنهم في ذلك المعزل إلَّا حرصًا منه على بقاء كلمة التوحيد محفوظة محروسة في قوم يعلنونها ويشيدون ذكرها ويرفعونها. قال الله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28]، وكل ذلك تهيئة لظهور الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قطع الله به شبه الشرك والضلال، كما يؤمئ إلى ذلك قوله تعالى:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 28، 29]؛ وإذ قد علم إبراهيم من سنَّة هذه الحياة أن لا يستقيم أمر المنعزلين في مكان إذا انقطع عنهم مدد العيش وخشي إنِ اشتدَّ عليهم تحصيل عيشهم أن يغادروا ذلك المكان، ويلتحقوا بالأمم الذين سكن حبُّ الشرك أفئدتهم ورَانَ؛ سأل إبراهيم ربه أن يسهل رزق ذريته الذين أودعهم في ذلك الوادي من الواردين عليهم المجتازين دون الساكنين المجاورين؛ لئلَاّ تلتصق بهم المساوي من الساكن والثاوي، فقال:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]؛ فشرع الله لذلك الحجَّ على لسان إبراهيم شرعًا قضى الله به أمنية خليله في جانبي الدين والدنيا؛ فكان حجُّ الناس إلى كعبة التوحيد بثًّا لدعوته وإعلانًا لحجته، وكان مع ذلك مجلبة للأرزاق من سائر الآفاق. قال الله تعالى في حكاية ذلك والتنبيه على نُكت منها ما ذكرنا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ
أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 26 - 28]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
فهدى الله من هدى من العرب إلى زيادة الكعبة، ثمَّ أقيمت عندها الأسواق ورغبهم في الاجتياز بها ما كان لإسماعيل وذريته من سنة قرى الضيف؛ فأصبحت مكَّة مأمنًا للمارين إلى أن كثرت ذرية إسماعيل وتفرَّقوا فيما حولها وفيما بعُد عنها، فكان منهم مادة لسكان مكَّة الذين هم دَعوة إبراهيم.
فكانت أعمال الحج ومناسكه ممَّا رسمه إبراهيم عليه السلام بإذن ربِّه تعالى، واستمر عليه العرب في أطوارهم كلَّها إلى أن دخل فيهم الإشراك، فحرَّفوا الحنيفية، ومع ذلك لم يدخلوا في مناسك الحجِّ شيئًا ن عبادة الأصنام إلَّا وضعَهم طائفة من الأصنام في المسجد الحرام.
ولما جاء الإسلام لم يغير من مناسك العرب ي الحجِّ إلَّا أشياء قليلة هي التي دخلها التحريف، مثل قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وقوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وقول النبي عليه السلام «أن لا يحج بعد العام مشرك ول يطوف بالبيت عريان» ، بل رفع توهمًا كان توهَّمه الأنصار في تركهم السعي بين الصفا والمروة؛ لأنَّهم كانوا ي الجاهلية يتجنَّبون السعي بينهما؛ إذ كان عليهما الصَّنمان (إسافّ ونائلة)، وكان أهل يثرب لا يدينون لهما وإنَّما كانوا يعبدون مناة، فكانوا يهلُّون إليها حذو قديد بعد انقضاء الحجِّ، فلما جاء الإسلام تركوا عبادة مناة ظنَّوا أنَّ السعي بين الصفا والمروة إنَّما كانت قريش تفعله لأجل إساف ونائلة؛ فتخرَّج الأنصار من السعي، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة 158]. كما أخرج مالك رحمه الله، في هذا حديث عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنهم، وفي «صحيح البخاري» عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: