الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما جاء في اللعان
كان العرب أصحاب غيرة على النساء وكانوا يتمادحون بالإفراط في تلك الغيرة، وكانوا يعدون اتصال المرأة بغير زوجها عارًا على زوجها إن كانت ذات زوج وعلى أوليائها إن لم تكن متزوجة، ويرون السكوت على ذلك ضعفًا واعتداءً، ويجعلون جزاء ذلك القتل، يقتلون المعتدي على كرامتهم دفعًا للمعرة؛ لأن السيف يغسل العار كما قال سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالبًا
…
علي قضاء الله ما كان جالبًا
وعلى ما احترسوا وراقبوا فإن أمر التخادن والزنا كانا فاشيين فيهم، قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا
…
علي حراسًا لو يُسرون مقتلي
وفي حديث الصحيح أن سعد بن عبادة قال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفحٍ» أي: غير ضارب بصفحة السيف بل بحده ضرب قتل. ومن أجل تلك الغيرة اندفع كثير منهم إلى جريمة الوأد، فإذا عرضت في المرأة ريبة أو اشتهرت بالخنا تطرقت الألسنة إلى الطعن في نسبة أولادها إلى صاحب عصمتها، وكانوا يخوضون في ذلك بالظنة، ويتقولون على الناس؛ وبخاصة في المهاجاة والتعيير؛ فتشيع القالة، ولم يكونوا يتوخون الصدق في ذلك، فكانت حالتهم في مجموع الأمرين فوضى غير جارية على حد محدود ولا على حق مشهود.
فلما ظهر الإسلام حد للحقوق حدودًا، واجثت منهم أسباب الفوضى، وكان فيما شرعه القصاص من القاتل، ونزع منهم ما كان مشهورًا بينهم من عذر الرجل إذا قتل رجلاً وجده في بيته وزعم أنه وجده مع امرأته على حالة غير مرضية، وسوى في التحريم بين أن يزني الرجل وأن تزني المرأة؛ وشرع حد القذف، وجعل قذف الرجل امرأته كقذفه أجنبيًا عنه، فنزل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فكبر ذلك عليهم فقال سعد بن عبادة يا رسول الله:
أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال رسول الله: «لا» ، قال سعد: بلى والذي أكرمك بالحق. وفي رواية أنه قال: لو وجدت مع امرأتي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله: «نعم» ، قال: كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، وفي «صحيح مسلم» جاء عُويمر العجلاني مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً؛ فتكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظٍ» ، فنزل الوحي يجعل مخرجًا للأزواج إن حملهم الغضب والغيرة على قذف أزواجهم، نزل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآيات عقب آيات: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]؛ فكان حكم اللعان الذي شرعه الله للأزواج رخصة وعذرًا. وكان أول لعان وقع في الإسلام لعان عُويمر العجلاني وزوجه خولة، فما راعت الشريعة في ذلك إلا دوافع الفلتات اللسانية التي تغلب الغيرة صاحبها على صبره وإمساك لسانه؛ وإذ قد كان من الغيرة ما يخيل للرجل في امرأته ما ليس فيها وما يُزوي إليه من قرائن كاذبة يجمعها وينسقها يومًا فيومًا لا سيما إذا صادف الرجل المغيار امرأةٌ مدلة بجمالها، أو غرة في أحوالها، أو محسدة من أختانها وعذالها، فقد قيل في المثل:«من يخل يره» وقال أبو العلاء:
ومثلك من تخيل ثم خالا
لم يجعل الشرع الحق للرجل وحده في تأييد دعواه بالملاعنة، بل جعل للمرأة حق الدفع لما ألصقه بها زوجها؛ فجعل لها أيماناً خمسة أيضًا لتكذيبه وتبرئة نفسها. وقد يكون كلاهما صادقًا في يمينه؛ فالرجل يعتمد على ظنه وعلى ما خيلته له نفسه، والمرأة تعتمد على عفافها وبراءتها، فإن الصدق في مثل هذا تابع للظن لا لما في نفس الأمر. وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين:«أحدكما كاذب» في حديث ابن عمر في «صحيح مسلم» ؛ فيحتمل أن ذلك خاص بذنيك المتلاعنين، ويحتمل أن المراد: أحدكما كاذب بحسب نفس الأمر وإن كان كل موافقًا لما في ظنه؛ وذلك يسمى صدقًا. فهذا ما ثبت من اللعان بحكم القرآن، وما مضى من السنة لم يختلف فيه أئمة المسلمين، وهو عمل عظيم بطل به ذلك التفويض الذي كان للزوج في الجاهلية.
وبقي الكلام فيما لو زعم الزوج أن حملاً بزوجه ليس منه، وهذا قد وقع في شأنه تعارض بين الآثار المروية من السنة؛ فوقع في حديث نافع عن ابن عمر من «الموطإ»:«أن رسول الله فرق بين المتلاعنين وألحق الولد بأمه» . ووقع في «الصحيحين» في حديث عويمر العجلاني من طريق ابن جريج، وطريق يونس عن ابن شهاب عن سهل بن سعد زيادة قوله:«فكانت المرأة حاملاً؛ فكان ابنها يدعى إلى أمه، ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها» ؛ فأما هذه الزيادة التي في حديث ابن شهاب من طريقي ابن جريج ويونس فهي زيادة مجملة؛ لأن مبنى قضية عويمر العجلاني على دعواه أنه رأى امرأته تزني، وأن اللعان الذي جرى بينهما لدفع الحد عنه، وأن ذلك اللعان جرى على حكم آية سورة النور المقتصر على أن المقصود من اللعان درء حد القذف؛ وبذلك جاءت الروايات المعروفة في حديث عويمر العجلاني. فهذه الزيادة إذا قبلناها وقلنا هي زيادة عدل ولم نأخذ بشرط من اشترط في قبول زيادة العدل أن يُعلم اتحاد المجلس وأن لا يكون أمثال الراوي الذي لم يرو الزيادة ممن يغفل عن مثلها ولم نرجح رواية مالك عن ابن شهاب الحديث بدون هذه الزيادة بأن مالكًا أثببت من يونس وابن جريج، وهو في أحاديث ابن شهاب أثبت الناس؛ لأنه كان ألزم له، فهي غير مفيدة
حكمًا في شأن انتفاء نسب الولد من الزوج الملاعن؛ إذ قصاراه أن الناس كانوا يدعون ذلك الولد إلى أمه، وليس في دعاء الناس إياه بذلك حجةٌ شرعية؛ لعلهم دعوه بذلك؛ إذ لم يعلموا أباه؛ لأنه نشأ عند أمه ومن شأنها أن تكون ساخطة على أبيه فلا تذكره لابنها، ومن شأن أبيه إذ ادعى ما ادعى أن لا يتتبع مصير ذلك الولد. ولا يمكن أن نعرف انتفاء نسب الولد من ذلك الملاعن إلا لو روي في ذلك تنازع بين المرأة وزوجها في خصوص النسب، أو تنازع في ذلك بين الولد وأبيه.
وكذلك قول الراوي: «ثم جرت السنة أنه يرثها» لا يفيد أكثر من كون ولد اللعان لاحقًا بأمه وأن اللعان لا يجعله غير معتدٍّ ببنوته منها ولو نكلت عن الأيمان، وكذلك ولد الزنا يرث أمه التي حملت به من زنى وترثه.
والحاصل أن ليس في تلك الزيادة دليل من منطوق ولا مفهوم ينفي الولد من أبيه باللعان أو ينفي إرثه أباه الذي لاعن به.
فأما الزيادة التي في حديث ابن عمر في «الموطإ» : «وألحق الولد بالمرأة» ؛ فقد تدل بدلالة الاقتصار أنه لم يلحقه بأبيه؛ لأن في القضية أن الأب انتفى من ذلك الولد فأبى الدارقطني قبول هذه الزيادة، وقال: إنها تفرد بها مالك رحمه الله، يريد أنه حديث غريب فيما تتوفر الدواعي على نقله. وانتصر ابن عبد البر لمالك.
والحق عندي أن حديث ابن عمر لا يقتضي أكثر من كون نفي الحمل قذفًا للمرأة وأنه يجد منه الزوج مخرجًا باللعان، كما يجد به مخرجًا من القذف بدعواه زناها. وأما ما زاد على ذلك فهو مجال للاجتهاد ليس ثابتًا بالأثر ولم يذكر مالك في «الموطإ» أن العمل جرى بذلك.
والمقام مقام عسير فإن فيه حق الولد في لحاق نسبه وهو أعظم من حق المرأة في قذفها. فإذا كان الله تعالى قد جعل للمرأة مقالاً تدفع به زوجها عن انتهاك عرضها، فهو أعدل من أن لا يجعل للولد مقالاً يصد أباه عن المجازفة في قطع نسبه، وقد علمنا أن حفظ النسب أقوى في نظر الشريعة من حفظ العرض، فقد اختلفوا في عد حفظ العرض من الكليات الضرورية. وأنه لا أغض النظر عن عم أمر لحاق النسب عند العرب، وعن ذكاء العربي، وصحة تفكيره، وعن حرص العرب على إلحاق أولادهم بهم، حتى لقد كانوا يستلحقون أبناءهم الذين من بغاء أو من زنى في الجاهلية، ولقد كانوا يكلون أمر تحقيق الشبه عند الشك إلى القافة من بني مدلج، وأنه ليس بالهين عليهم رمي أزواجهم بالزنا ونفي أولادهم من ذلك، غير أني لا أنسى أيضًا أن تنصلهم من العار عند القالة، واندفاعهم إلى الغضب عند الغيرة، واعتماد البعض منهم على حدة الذكاء اعتمادًا يجعله يقدر هواجسه حقًّا، وامتلاء عقولهم بأوهام تجافي الحقيقة من زعمهم الشبه واللون ومدة الحمل دلائل على صحة النسب وبطلانه، وكان على ذلك معتمد قافتهم، وكان ذلك داعيًا لشك كثير منهم في أولادهم.
كما جاء في حديث أبي هريرة في «صحيح مسلم» أن فزاريًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، يعرض بأن ينفيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هل لك من إبل؟ » قال: نعم، قال:«فما ألوانها» ، قال: حُمر، قال:«فهل فيها من أورق؟ » قال: نعم، قال:«فأنى أتاها ذلك؟ » قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال:«وهذا عسى أن يكون نزعه عرق» ولم يرخص له في الانتفاء منه اهـ.
ولا أنسى أن في بعض الناس غفلة وسرعة وفي بعضهم رقة دين وقلة مروءة؛ فكل هؤلاء لا يعتمد على ظنونهم ولا على ثباتهم ولا على أيمانهم.
وقد علمنا من النظائر الشرعية أن الشريعة في مثل هذا الحق رجحت النادر على الغالب، من أجل ذلك قضت بلحاق الولد بأبيه إذا ولدته المرأة لستة أشهر، وقضت بإقامة الحد على القاذف بالزنا إذا نقص واحد من الأربعة الشاهدين به. ولا أنسى أن في غير العرب من الأمم أناسًا كثيرين تمتلكهم الأوهام ويقضون بالأحلام، وقد شاهدت كثيرًا من تساهل رجال كثيرين في نفي أولادهم تفصيًا من النفقات أو نكاية بالأصهار والزوجات.
فلا ينبغي أن تكون إضاعة الآباء حقوقهم في اتصال أنسابهم بأبنائهم أصلاً نعتمد عليه في إضاعة حقوق الأبناء في اتصالهم بآبائهم؛ وليس هذا الحق بدون حق الأب، فإن انتفاء الولد من نسب أبيه يجعله في سوء حال من الحياة في صغره وكبره.
وفي النوازل أحوال تقرب من اليقين في نفي الحمل؛ كمن سافر وترك زوجه مدة طويلة فوجدها حاملاً، وكما لو بقيت المرأة بعيدة عن زوجها بحيث يوقن أنه لم يقربها مدة طويلة ثم يظهر بها حمل، فتحمل الأب مثل هذا حرج عليه.
فمن أجل ذلك قال مالك وجماعة من العلماء بإجراء اللعان بسبب نفي الحمل، وجعلوه موجبًا لانتفاء النسب عن المُلاعن مع تحقق الاستبراء، وإنما اختلف في صفة الاستبراء، وأما من اشترط في اللعان بنفي الحمل أن يكون مع النفي رؤية زنا المرأة فهو شرط لا دليل عليه ولا نظير يقتضيه، ومن العجيب أن يعد الاستبراء في مثله بحيضة مع أنهم لم يكتفوا بها في العدة، وهما من قبيل واحد إن لم يكن أمر اللعان أعظم؛ لأنه نفي نسب واقع والعدة لحفظ نسب متوقع؛ فليكن مبنى الفقه في هذا الأمر إما التمكين