الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنِّي تحضرني من الله حاضرةٌ» هو بالضاد المعجمة من الحضور، أي: تلُّم بي، وقد أفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المراد من الحاضرة، ومدلولها مساوٍ لمدلول الحدث في فعل «تحضرني» فكان ذلك الفعل في قوَّة الفعل المبني إلى المجهول على حدِّ «سأل سائل» ، وقول يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي يهجو النابغة:
وإن الغدر قد علمت معدٌّ
…
بناه في بني ذبيان بان
والمقصود من إبهام ذلك؛ أن لا يتسبَّب في إعراض مؤاكليه عن تناول ذلك الطعام اقتداءً به أو تقززًا مما عسى أن يذكره من وصف ذلك الطعام. وهذا من آداب المؤاكلة؛ لأنَّ المرء إذا كان الطعام لا يلائمه لسبب غير مضرٍّ بالآكل، أن لا يخبر بما وجد فيه؛ إذ الناس مختلفون في الرغبات، وفي المنفرات، وفيها كثير من آثار الواهمة، فينبغي أن يتركوا وشأنهم؛ إذ لعلَّ من يخبرهم يكون قد أثار الكراهية في نفوسهم، أو يكون ألجأهم إلى الإعراض عن ذلك الطعام مصانعةً أو حياءً من أن يقال: إنَّهم لا يتقزًّزون ممَّا تقزَّز منه المخبر، فإنَّ المآكل المباحة محكوم الإقبال عليها، والإعراض عنها، لحكم العوائد، ولعلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب النسوة بهذا لضعف نفوسهن، ثمَّ بين ما منعه من أكل ذلك بما ورد في حديث ابن عبَّاس المذكور عقب هذا، وهو قوله لخالد:«لم يكن (أي: الضب) بأرض قومي فأجدني أعافه» .
ما يتَّقى من الشُّؤم
الشؤم مقارنة بين بعض الموجودات، وبين ضرٍّ ليس من طبع نوعه، وضده اليمن. وكان العرب ومعظم الأمم يتوهَّمون هذه المقارنة، ويرصدونها عند ابتداء ظهور لائحة منها في بعض الموجودات، فيرصدون أحوال ذلك الموجود حين يحصل لهم بزعمهم استقراء يدلُّ على أنَّ بين الموجود وبين الشرِّ أو الخير مقارنة وملازمة، فيقولون: إنَّه مشؤوم أو ميمون. ومن أمثالهم «أشأم من البسوس» . وقال أبو الأسود:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
…
حسدًا وبغضًا إنه لمشوم
وأكثر ما يثبتون ذلك للأوقات، والأمكنة، وجديد الحوادث؛ كالولادة، والعرس، والسفر؛ ولذلك يدعون للمعرس، يقولون:«باليمن والبركة» و «على الطائر
الميمون»، ويقولون للمسافر:«على خير طائر وعلى الطائر الميمون» ، ويقولون في الصابح:«صبَّحك الله بنعم طيرٌ» .
فالشؤم عندهم من شعب الطيرة، وهو مشتقٌّ من الشَّآم اسم البلد المعروف؛ لأنَّ العرب يزعمون أنَّ بلد الشام وبيء، وأنَّ دمشق بلد وبيء، وقد كان بعض الأعراب كره امرأته، فسافر بها إلى الشام، وهي لا تعلم قصده، فلما بلغ دمشق دفعها من باب البلد، وقال:
دمشق خذيها واعلمي أن ليلة
…
تمرُّ بعودي نغشها ليلة القدر
ولما جاء الإسلام أبطل وهم الطيرة، وفضح أهله وسفَّه عقولهم، ودعا الرسول عليه الصلاة والسلام، أو توعد من يعتقد الطيرة بعد بقوله:«إنَّما الطيرة على من تطير» ، وباستقراء الشريعة حصل العلم القوي بأنَّ الشؤم باطل، فالترجمة الواقعة في «الموطإ» «ما يتقى من الشؤم» (ما) فيها موصولة، وقوله:«من الشؤم» بيان لـ «ما» ، ومعنى «يتَّقى» يحذر من الوقوع فيه، أي: من اعتقاده، وليس المراد أنَّ بعض الأشياء يحذر منها لشؤمها؛ لأنَّ التركيب لا يساعد على ذلك؛ إذ جعل الشؤم نفس المتقي.
* * *
مالكٌ عن أبي حازم بن دينارٍ، عن سهل بن سعدٍ السَّاعديِّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن كان ففي الفرس، والمرأة، والمسكن» . يعني الشؤم.
هذا الحديث أحسن حديث في هذا الباب، وأصحُّه وأقواه نسبةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن راويه توخَّى فيه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بدون زيادة ولا نقص، حتَّى أنَّه لما جرى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام على إضمار لفظ الشؤم لأنَّه جرى الكلام عليه بحضرة الرسول عليه الصلاة والسلام -حكى الراوي لفظه كما صدر منه، ثمَّ فسَّر معاد الضمير الواقع في الكلام النبوي، بقول الراوي:(يعني الشؤم)، فصار هذا الحديث الذي رواه سهل بن سعد رضي الله عنه، هو الحاكم على جميع ما روي في هذا الباب، ومعناه أن الشؤم غير كائن؛ لأنَّ رسول الله لا يخبر عنه بقوله:«إن كان» إلَّا وهو غير واقع،
إذ ليس رسول الله بالذي يشكَُ في الشؤم أواقعٌ هو أم لا؟ وإنَّما جاء بصيغة الشرط «بأن» الغالبة في الشروط المعرضة لعدم الوقوع على إيجاز بليغ، وهو إظهار مثار توهُّم الناس الشؤم في أمور ثلاثة هي أظهر الأشياء في حصول الشؤم لو كان شؤم، فمعنى الكلام: الشؤم ليس بموجود فإن كان موجودًا، فأعلق الأشياء بتخيُّله فيها الفرس والمرأة والمسكن، وإنما خصَّ هذه الثلاثة؛ لأنَّها هي الملابسات للإنسان التي يريد منها صاحبها فوق ما يريد من بقية الملابسات، فإنَّ المرء يريد من الأشياء التي يستعملها نفعًا هو ذاتي فيها وهو راض به، فيريد من الشاة صوفها ولبنها، ومن البقرة حرثها ولبنها، ومن السيف القطع به، ومن النَّار الدفء بها والطبخ، ومن الناقة الحمل عليها ولبنها، ومن الحمار الركوب عليه والسير، فالأشياء كلُّها لا تخيب مراد مستعملها منها؛ إذ كانت منافعها المرادة حاصلة معها بالجبلة.
فأمَّا الفرس فهو دابَّة تراد للركوب ولفهم مقاصد راكبها عند السير بها من سرعة، وبطء، وكر، وفر، وإقدام، وإحجام فصاحبها بحاجة إلى أن يحصل منها اشتراك معه في مقاصده العقلية، وإلى استعمال ذكائها في استكشاف مراده منها، وفي هذه الحالة قد تكون عند ظنه، فيعدُّها ميمونة، وقد يتخلف ظنُّه فيها فيعدها مشومة؛ لأنَّ إخلافها ظنَّه يجرُّ عليه مصائب.
والمرأة يراد منها أن تكون مخلصة له حافة لسره ولعهده، راعية لماله، مجلبة لنسله، وبخاصةً الذكور، موافقة لطبعه، فقد يتَّفق أن تكون طبائعها موافقة له وجارية على مراده فيعدها ميمونة، وقد لا يتَّفق الطبعان ولا تقبل المرأة الانطباع على أخلاق زوجها ولا تلد له فتلحقه منها أضرار تقلُّ وتعظم بحسب مقدار تخلف مقصده فيعدها مشومة عليه؛ ولذلك كانوا يدعون للمعرس بقولهم:«بالرفاء والبنين» ، أي: الوفاق، وولادة الأولاد الذكور.
وأمَّا المسكن فهو قرارة المرء، وفيه تعرض له الحوادث، فإن حدث له فيه ما يسره أو ما هو الكثير من أحوال أمثاله من يوم مسرَّة ويوم مساءة حسبه منزلًا مألوفًا، وإن اتفق أن تواردت عليه فيه الهموم أو الأمراض، سمَّاه منزلًا مشومًا.
وهذه الثلاثة يعسر على صاحبها استبدالها لوفرة نفقاتها، ولشدَّة الإلف بها، ولقلَّة إلفاءِ عوض عنها، فكانت مراقبة ما يحصل معها عندهم شديدة؛ ولذلك كثير بين أهل الجاهلية التحدُّث بشؤم هذه الأمور الثلاثة أكثر من غيرها، وذلك من حكم الوهم
المحض لا حقيقة له، ولما سبق من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهاهم عن توهُّم الشؤم خاطب فريقًا رأى منهم إعادة الخوض في إثباته بما يردعهم، فجعله مشكوكًا فيه في خصوص هذه الثلاثة التي يعسر استبدالها كالمنكِّل لهم مبالغة في تأديبهم، وحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرَّ ذلك أو أن يشكَّ في تقريره. كيف؟ وذلك يناقض صريح نهيه عن الطيرة ونفيه لوقوعها، وما الشؤم إلَّا فرع منها، هذا ما ظهر لي في وجه الجمع بين نفي الشؤم وبين هذا الكلام، وقد رويت أحاديث بقريب من لفظ هذا الحديث أو زيادة عليه أو بلفظ آخر وكلُّها ظاهرها إثبات فاعلية الشؤم، وتأويل جميعها متعين لما دلَّت عليه جمهرة الآثار وما دلَّ عليه هذا الحديث الحاكم على جميعها كما ذكرنا. ويجمع تأويلها أن يكون في كلٍّ منها راوٍ لم يحافظ على اللفظ النبوي، كما نطق به صاحبه عليه الصلاة والسلام، أو لم يستوعب ما قبله من الكلام فتوهم ما يقتضي تقرير ثبوت الشؤم في هذه الثلاثة وما زيد عليها.
وقد رأيت ما رأيت من كلام العلماء يؤول هذا الحديث وغيره بتأويلات مرجعها إلى أنَّ الشؤم واقع في هذه الثلاثة، وأن أحاديث نفيه ونفي الطيرة معناها نفي التأثير، ومعنى هذا إثبات مقارنة القضاء والقدر، وهو تأويل باطل إذ لا يناسب الاقتصار على هذه الثلاثة؛ لأنَّ مقارنة القضاء والقدر موجود معها ومع غيرها. ولم يسلم من هذا التأويل إلا عياض رحمه الله ولا عجب في تحقيقه، وقد ذكر الشارح الزرقاني: أن أبا داود الطيالسي روى عن مكحول عن عائشة? : «أنَّها قيل لها إنَّ أبا هريرة قال: قال رسول الله: «الشؤم في ثلاثة» إلخ، فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، إنه دخل وهو (أي: رسول الله) يقول: «قاتل الله اليهود يقولون: الشؤم في ثلاثة» فسمع
آخر الحديث ولم يسمع أوله»، وروى أحمد بن حنبل، وابن خزيمة عن أبي حسان أن عائشة قالت: ما قال رسول الله ذلك، وإنما قال:«إن أهل الجاهلية كانوا يتطيَّرون من هذه الثلاثة» اهـ. ومن العلماء من حمل الآثار المثبتة والناهية على أنَّ المثبتة منسوخة، وهو فاسد؛ لأنَّ النسخ لا يدخل في الأخبار؛ فيقتضي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبر بما يقتضي ثبوت الشؤم أخبر عن متابعةٍ لاعتقاد الدهماء وهذا ينزه عنه المقام النبوي، فليعلم العالم ما يخرج من فمه أو ما يكتبه بقلمه.
* * *
مالكٌ عن يحيى بن سعيدٍ أنَّه قال: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله، فقالت: يا رسول الله دارٌ سكنَّاها، والعدد كثيرٌ، والمال وافرٌ، فقلَّ العدد وذهب المال، فقال رسول الله:«دعوها ذميمةً» .
الظاهر أنَّ المراد بالدار مكان من أرض البادية، وقد قيل: أنَّها دار مكمِّل بن عوف أخي عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، والمال هو الإبل، فالحديث اقتضى أن هذه المنزلة التي نزلوها وسكنوا بها كانت وبيئة، أو كانوا سكنوا بها، ولا جيرة لهم فأغير عليهم، فهلك ناسهم وذهب نعمهم؛ فلذلك أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالارتحال عنها، فليس في هذا الحديث ما يشهد لاعتبار شؤم المسكن في نظر الدين.