الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجدت في نسخة عتيقة من «الموطإ» بخط ناسخها وراويها عن طرة الشيخ أبي القاسم (يعني ابن بشكوال) ما نصه: هذا الذي في الكتاب كلام منقطع؛ لأنه خال عن ضمير يعود إلى الذي ولا بد منه ضرورة، والذي يرتبط به آخر الكلام بأوله:«الحمد لله الذي لا يعجل شيء أناه وقدره» ، والمعنى: أن قضاء الله لا يعدو وقته الذي قدره، والضمير في «أناه» عائد على الله (يعني: الضمير المرفوع) وهو فعل في معنى أخَّره، وقال جرول:
وآنيت العشاء إلى سهيل
…
أو الشعرى فطال بي الأناء
ومن كتاب ابن مسرة قال لنا ابن الطلاع: الرواية «لا يعجل شيء أناه» أي: لا يتقدم شيء أخَّره حتى يأتي وقته. قال الوزير (يعني ابن فطيس): كذا وقع في كتاب أبي عيسى كما عندنا: (أي: بكلمة -لا- وبرفع شيء). وحدثنا ابن دليم ثنا أحمد بن خالد أخبرنا علي بن عبد العزيز قراءة عليه ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: قرأت على مالك بن أنس أنه بلغه كان يقال: «الحمد لله الذي خلق كل شيء كما ينبغي، الذي لم يعجل شيئًا أناه قدره، حسبي الله» إلى آخر الحديث، وهذا الصواب إن شاء الله.
ما جاء في حسن الخلق
مالك: أنَّه بلغه عن عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت: استأذن رجلٌ على النَّبيِّ، قالت عائشة: وأنا معه في البيت، فقال رسول الله:«بئس ابن العشيرة» ، ثمَّ أذن له رسول الله، قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله معه، فلمَّا خرج الرَّجل قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت، ثمَّ لم تنشب أن ضحكت معه، فقال رسول الله:«إنَّ من شرِّ النَّاس من اتَّقاه النَّاس لشرِّه» .
أمَّا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن العشيرة» ، فهو ذمٌّ لما عليه الرجل من كفر أو نفاق أو خبث طوية، ولم يذكر له صفة معيَّنة فليس بغيبة، لأنَّ الذم ليس من الغيبة؛
أو لأنَّه أراد أن يعرفه الناس ويحذروا غدره، فيكون من باب ما قيل في جواز ذكر مثل ذلك في مقام الجرح والتعديل، فمقام بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه أولى بجواز ذلك.
وأما مضاحكته إيَّاه بعد أن قال فيه قوله ذلك، فقد أشكل على عائشة? وأجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أزال إشكالها غير أنَّ الناظرين قد بقي في نفوسهم من الإشكال ما جزموا معه، بأنَّ ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من حسن لقاء الرجل إنما هو ضرورة ومداراة؛ لأنَّهم رأوا التنافي بين ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الرجل وبين ما لاقاه به باقيًا. والحقُّ أنَّ الإشكال قد ارتفع بتنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسرعة ما فهمت من ذلك. وبيان ذلك أن قوله:«بئس ابن العشيرة» خبر عن حال الرجل بما هو في الواقع؛ ليعرف الناس خبثه وجلافته، وأن تبسُّط الرسول عليه الصلاة والسلام له حين لقائه أمر من آثار الملاقاة والمحادثة، فالتبسط إكرام للوارد وهو من مكارم الأخلاق، وأنَّ الضحك معه من آثار جريان ما يوجب الضحك عند المحادثة، فليس بين قول الرسول عليه الصلاة والسلام وفعله تعارض؛ لأنه لو لاقاه بالعبوس لكان من سوء تلقي الوافد ولا داعي إليه؛ إذ ليس من حقِّ الرجل الصالح أن يعامل الرجل الذميم بالغلظة والجفاء إلَّا حين ظهور منكر أو شيء يوجب الإنكار والموعظة؛ فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة:«إن من شرِّ الناس من اتَّقاه الناس لشره» ، فذلك ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً لنفسه، أي: أنِّي لست شريرًا حتَّى أظهر الشر للناس فيتقوني، كيف وقد قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فعائشة ظنت أنَّ مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لها الفرق بين الاعتقاد في حال شخص، وبين إعطائه ما يستحقُّه من المعاملة العرفية، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بكلِّ ما يوجب الإقبال عليه والهشَّ إلى لقائه ويدفع تجهم لقائه؛ لأن مراد الله من بعثته شدَّة امتزاج الأمَّة به؛ ليصلح من أحوالهم على قدر قابليتهم وليس مأمورًا بمعاملة الناس على حسب ما يضمرونه، ولكن على حسب ما هو المعروف بينهم وعلى قدر مراتبهم في أقوامهم، وبهذا تعلم أن ليس المراد بقوله:«أنَّ من شرِّ الناس» إلخ أن ما فعله اتقاء لشر الرجل الوافد وأنه من باب التقية؛ لأن ذلك لا يناسب مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أراد أنَّه منزه عن استجلاب اتِّقاء الناس إياه بالغلظة والشر؛ لأن جميع أكوانه صلى الله عليه وسلم رحمة، كما قصره على ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].